نجد أنفسنا ما بين فينة وأخرى – رغما عنا- نسافر إلى أعتاب الزمن الماضي الجميل ونتوق إلى استحضار تفاصيله واستدعاء حكاويه والانضواء تحت جناحي براءته وعفويته.. واللجوء إلى دفئه وحميمته! وحينما أقبض على نفسي متلبسة بالحنين إلى الزمن الماضي الجميل أنفض عن نفسي حنينها متطلعة إلى الحاضر والمستقبل محاولة أن أستخلص منه أجمل ما يمكنني أن أجده فيه.. فهل نحن فعلا قوم نحب البكاء على الأطلال والتنقيب عن الأشلاء في مقابر الذاكرة؟!
تتهم الثقافة العربية بأنها الأكثر ميلا لاجترار تفاصيل الماضي والتباكي على سالف الأيام وأنها تفشل في إنتاج الفرح وفي صناعة البهجة، وأنه يستعصى عليها خلق أجواء السعادة ومناخات المرح ؟ فلا تستطيع حتى أعيادنا ومناسبتنا السعيدة استدعاء الفرح بقدر ما توقظ في أنفسنا رغبة في السفر لأحضان الماضي، فنهرع إلى صوره نستدعيها وتفاصيله نستحضرها.. ونلملم أطرافها علّها تمنحنا تلك السعادة الضائعة والأمان المفقود.
فهل تلجأ الثقافة العربية المخفقة في تخليق وبرعمة أسباب الفرح وتفاصيله للماضي لتحتمي بجنباته من بؤس واقعها الحالي؟ وهل تلتحف بدف انجازاته وعظيم مجده من فقر حاضرها ومن هول أحداثه.. ومن ذلك الإحساس بالعار المصاحب لانزوائها بعيدا عن ركب الحضارة الحديثة وعدم تمكنها من اللحاق بالأمم الأخرى ومن عدم قدرتها على الإنجاز أو على الأقل المساهمة في صناعة هذه الحضارة ؟! وهل يفقدنا حاضرنا القاسي القدرة على الحلم وبرعمة أزهاره فنلجأ للماضي ؟! وهل الحنين للماضي هو اعتراف بالعجز وتقرير مؤكد على الرغبة في الالتصاق بالماضي لأننا ببساطة عاجزون عن التحرك قدما إلى الأمام ، ولا نملك الإرادة والاستطاعة على الإنجاز ولا على تخليق الجمال وإنتاج الفرح ؟
ولكن مهلا مهلا قبل أن نكيل الاتهامات لثقافتنا ومفرادتها المسافرة إلى الماضوية، وقبل أن نلوم العربان وحنينهم للماضي التليد والعز البائد، علينا أن ندرك أن (النوستالجيا) أو الحنين إلى الماضي ظاهرة موجودة في مختلف الثقافات وعند كل الأقوام، وأنها ليست حكرا علينا معشر العرب. فكل الثقافات تتغنى بالزمن الماضي الجميل حينما كان الحب يهدهد القلوب ويغمرها بالدفء والحميمة، ويتوقون هناك كما نفعل هنا إلى أغاني الطفولة وأهازيجها ومراتع الصبا وملاعبه، ويلجئون إلى ذاكرتهم ليستخرجوا منها أحداث وذكريات موغلة في القدم ولكنها قادرة دائما على تصفية النفوس من كدرها وتنقيتها من هواجسها.
وفي تقديري أن النوستالجيا ظاهرة مرتبطة بالإنسان في كل مكان وبرحلته وخطوات سيره في رحلة الحياة الشاقة، ولعلّها قديمة قدم وعي الإنسان بذاته وبالمراحل التي يمر بها طفلا وشابا وشيخا، فهو يدرك أن لا شيء يبقى على حاله وأن الشباب لا يدوم وأن المرض والكبر والفناء يلاحق الإنسان حيث لا مفر ولا مهرب ! فالحنين إلى الماضي الجميل في الحقيقة ليس إلا حنينا للنفس في أبهى حالاتها وفي أغنى وجوهها وأكثرها حيوية وبهجة.. وحنينا للماضي ليس إلا حنينا لأنفسنا وقد صفت من المكدرات وراقت من الأحزان.
ولكل نفس إنسانية أحافير فرح ونقوش بهجة تلتصق بجدار الذاكرة منذ أن يعي المرء وجوده في هذه الحياة ومنذ أن يدرك الإنسان ذاته ! فلهذه الظاهرة علاقة وثيقة بالذاكرة وأهميتها في تكوين وجدان الإنسان، وبارتباط الطفولة بالدهشة والقدرة على اقتناص الفرح ونهشه من بين براثن الملل والرتابة.. دهشة الطفولة التي تسبغ على الأشياء ألوانها القشيبة المبهجة والقادرة أبدا على استخلاص البسمة حتى من أعمق ثنايا الأحزان والهموم.. فذلك الفرح يسكن دوما على ضفاف تلك النظرة الطازجة التي ترى الأشياء وكأنها تراها لأول مرة !! ولعل الأسعد حظا منا هو ذلك القادر دائما على استدعاء الطفل القابع داخله ليلهو ويمارس لعبة الحياة بعمقها ومدها وجذرها وأبعادها المختلفة.
وجه آخر من الصورة يكمن في الحياة المعاصرة التي أصبح فيها الإنسان ترسا في آلة تستهلك آدميته وإنسانيته، حياة يشكل الركض والجري في أروقة الحياة العنصر الأهم فيها !! ويلعب فيها التنافس الشرس والتسابق المحموم على التميز والنجاح دورا رئيسا، يجعل حياة الإنسان مرجلا ساخنا قادرا دوما على نفث دخان القلق والمخاوف والهواجس. فتلقي هذه الهواجس بظلالها على الإنسان فتعبث بسكونه وإطمئنانه وتقلص قدرته على الإحساس بالفرح.
تغير أساليب الحياة وطرائق معيشة الإنسان الفطرية والبسيطة وميلها للتعقيد والتركيب ساهم في ابتعاد الإنسان عن الطبيعة ومنعه من التواصل المباشر معها، بما يحققه ذلك التواصل من أحاسيس عميقة بالجمال والسلام وقدرة على النفاذ إلى عمق الأشياء. ففقدان التواصل مع عناصر الطبيعة يحجم الفرح داخل الإنسان ويحوله هو ذاته إلى آلة رتيبة تعيد إنتاج الأحداث يوما بعد يوم بتكرار وملل!! وربما يكون أكثر الناس سعادة هو الذي يشعر بتوحده مع الطبيعة وعناصرها من خلال تماسه معها واحتكاكه بها، ومن خلال محاولته لإعادة الصلة بها وتجديد العلاقة معها سواء كان هذا التواصل ماديا حقيقيا أو عبر الفن والأدب الذي لا بد له أن يستخدم الخيال ليحقق هذا التواصل!
رغم أن النوستالجيا ظاهرة إنسانية ولكنها تزداد وتشتد حدتها عندما يكون الحاضر بائسا وتعيسا فلا غرابة في أن الإنسان العربي هو الأكثر إحساسا بها. فبؤس الواقع العربي وما يرزح تحت قسوته المواطن من قمع سياسي واجتماعي ومن فقر وسوء أحوال معيشية، ناهيك عن غياب الحريات وفقدان حرية التعبير ونير الحروب المشتعلة في أنحاء متعددة من عالمنا العربي لابد أن يقود الإنسان للحلم بالماضي ومحاولة الهرب إليه بدلا من محاولة تغيير هذا الواقع فلا أمل يرجى منه ولا حلم من الممكن الإمساك بتلابيبه. كما تلقي الهيمنة الدينية والتشدد والتطرف بظلالها على مجتمعاتنا العربية برمتها لتدخل المتع البريئة في خانة المحرمات والممنوعات، ويتسلل التوجس للكثير من الممارسات العادية العفوية فينظر لها بعين الشك والريبة!
ففي ظل التوجس والخوف لا بد أن يتوارى الفرح وتندثر معالمه.. وفي ثقافة توأد فيها البهجة وتفشل في تخليق الأحلام لا بد أن ينتنابنا الحنين كلما هب النسيم للزمن الماضي الجميل!!
Amal_zahid@hotmail.com
* المدينة