في أعقاب الثورات العربية من عام 2011، شرعت تونس واليمن ومصر، وغيرها من البلدان بتقنين وضع الأحزاب السلفية التي تعرضت للقمع في السابق باحتوائها في النظام الديمقراطي. وحدث في المغرب أيضاً أن تم إدخال السلفيين في إطار العمل السياسي، بيد أن ذلك تم في بيئة مجتمعية لم تشتمل على تغيير شامل للنظام. ولهذا السبب تواجه الحكومة إشكالية كبيرة: فالحفاظ على سياسات ما قبل عام 2011 والتي وضعت العقبات واحدة تلو الأخرى أمام أي محاولة لانخراط السلفيين اجتماعياً وسياسياً يتناقض مع هدف المملكة المعلن بالانفتاح السياسي، في حين قد يؤدي السماح بالمزيد من الانخراط إلى نتائج كتلك التي نشاهدها في مصر وتونس. ففي هاتان الدولتان، يكتسب السلفيون دعماً مستمراً، في محاولة للسيطرة على المزيد من المناحي الثقافية والسياسية (بما في ذلك التجارة والسياسة الخارجية)، وزيادة الضغط على حكومتيهما لتنفيذ إصلاحات تتسم بالمحافظة.
“اجتثاث التطرف” السلفي؟
في العام الماضي، شمل العفو الملكي السنوي للملك محمد السادس إطلاق سراح قادة سلفيين مغربين بارزين في ظل مزاعم بتورطهم في تفجيرات كازابلانكا (الدار البيضاء) عام 2003. وصدر عفو فوري عن آخرين بعد أن انضم السلفيون إلى “حركة 20 شباط/فبراير” (M20F)، وهي الحركة الديمقراطية التي قادت “ثورة الربيع المغربي” منذ 2011.
وفي جميع الاحتمالات، كان العفو الملكي عن هؤلاء السجناء البارزين تحركاً صحيحاً لكنه ينقصه الكثير من جانب الملك لاحتوائهم سياسياً ومحاولة أكبر لتهدئة المتظاهرين من “حركة 20 شباط/فبراير” والمتشددين السلفيين السابقين. كما أن القصر نظر بعين الاعتبار للسلفيين على أنهم قوة لها ثقل في مواجهة المد الشيعي المتنامي المنتشر غرباً القادم من إيران والذي تراه الرباط يشكل تهديداً طائفياً محتملاً أخطر بكثير من ذلك الذي يشكله السلفيون.
وعقب العفو الملكي، سُمح للسلفيين المطلق سراحهم بالانضمام إلى “حزب النهضة والفضيلة” وهو حزب إسلامي معتدل. وكما صرح الخبير المغربي محمد ضريف “من مصلحة الدولة أن تكون هناك قطط مدجنة تعمل داخل الأحزاب السياسية عوضاً عن التعامل مع قطط متوحشة تعمل خارج الأحزاب”. وقد استخدم زعيم “حزب النهضة والفضيلة” محمد الخالدي نفس هذه اللغة في تفسير هذه الخطوة للملك.
ومنذ ذلك الحين، قبل بعض السلفيين بهذه التطورات وحتى أن بعضهم دافع عن شرعية الملك في مقابل منحهم فرصة في الانخراط السياسي. وكانت بوادر هذا التحول واضحة في الوقت الذي كانوا لا يزالون في السجن واستمر هذا التحول بعد إطلاق سراحهم في إشارة إلى وجود انسلاخ حقيقي عن الفكر السلفي التقليدي والرغبة في الانخراط في العمل السياسي. فعلى سبيل المثال، أصدر الشيخ محمد الفيزازي، أحد القادة المطلق سراحهم، فتاوى ضد المظاهرات ولصالح الحفاظ على وحدة البلاد تحت قيادة الملك. وأثناء وجوده في السجن في عام 2009، انتقد الفيزازي صراحة دفاع تنظيم «القاعدة» عن الإرهاب. وعلى نحو مواز، فإن مبادرة “أنصفونا” وهي عبارة عن وثيقة كتبها أحد القادة السلفيين يُدعى أبو حفص خلال فترة سجنه، تغاضى فيها عن الحكم الملكي وانتقد استخدام العنف. كما تعهد سلفيون آخرون بالتخلي عن خطاب التكفير. ودعم أيضاً القادة المعفى عنهم علناً الاستفتاء على الإصلاح الذي جرى في تموز/يوليو 2011 في المغرب عندما كانوا لا يزالون في السجن على الرغم من مقاطعة العديد من القادة الشبان لهذا الاستفتاء إلى جانب بعض الجماعات اليسارية و”جماعة العدل والإحسان” (أقوى الجماعات الإسلامية المعارضة في المملكة).
وباختصار، فقد برزت علاقة تكافلية من نوع ما بين السلفيين السياسيين والنظام الملكي. ويريد بعض منهم الانخراط داخل إطار العمل السياسي الحزبي، بينما يرغب القصر في الوقت نفسه في الظهور على أنه تعددي مع قمع المعارضين واختيار تيار المعارضة.
هل هم ملتزمون بالسلام؟
على الرغم من هذه التحولات، فبات من غير الواضح ما إذا كان سلوك السلفيين يشير إلى انسلاخ حقيقي عن ماضيهم أم أنه مجرد خوف من العودة إلى السجن أم كلا الأمرين. فعلى سبيل المثال، تعطي المواقف الأخيرة لمحمد الفيزازي انطباعاً بالدعم الدؤوب للنظام الملكي ولكن الحد الذي يبدون فيه مناقضين للفكر السلفي المغربي التقليدي يشير بقوة إلى أنهم جزء من إستراتيجية سياسية مؤقتة.
وفي بداية هذا الشهر، عندما اجتاحت مظاهرات حاشدة كافة أرجاء البلاد احتجاجاً على العفو الملكي للمجرم الأسباني الشاذ جنسياً، وصف الفيزازي المتظاهرين بأنهم منافقون، مدعياً أنهم “آخر من يتحدث عن كرامة الأطفال”. ويتسم هذا الدفاع المستميت عن الملك – ضد المتظاهرين الذين رأوا العفو الملكي الذي تم سحبه بعد ذلك بأنه تضحية بالكرامة الوطنية مقابل استمرار العلاقات الإيجابية مع أسبانيا – بالشكل الكوميدي أو انفصام الشخصية غالباً، عند مقارنته بالانتقادات القاسية التي وجهها الفيزازي للسياسة الخارجية المغربية قبل سجنه. وعلى نحو مشابه، تم النظر إلى خطابه المفتوح في أيار/مايو 2013 الذي طالب فيه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقه “بالتوبة بسبب تأجيج النزعة الانفصالية والفتنة” و”التصالح مع المغرب وإعادة فتح الحدود” على أنه تعهد منطوي على تذلل وخنوع بالولاء إلى الملك أكثر من كونه محاولة واقعية للتقارب بين الجزائر والمغرب.
وتتناقض تصريحات قادة سلفيين آخرين بصفاقة أكثر مع ادعاءاتهم بفتح صفحة جديدة. فعلى سبيل المثال، يعتبر البربر من الأقليات المعروفة جيداً ذات العدد الكبير الذي يتزايد يوماً بعد يوم في المغرب، والتي شكلت أهدافها الأساس الذي انطلقت منه “حركة 20 شباط/فبراير” والتي يعتبر بعض السلفيين جزءاً منها. ولكن في شهر آذار/مارس، أدان حسن الكتاني، أحد القادة السلفيين المطلق سراحهم، الاحتفال بالسنة البربرية الجديدة واصفاً إياه بأنه من بقايا الجاهلية وطالب بإنكاره، في الوقت الذي أعلن فيه أحد رموز السلفية المطلق سراحهم عمر الحدوشي صراحة أن البربر “ملحدين وعملاء لليهود وأبناء القردة والخنازير”. وقد ترك هذا البيان المراقبين في حالة تشكك من قدرة السلفيين السياسيين على المحافظة على وعودهم بالانخراط السلمي والتخلي عن التكفير.
ومن المهم أيضاً أن نلاحظ أن العديد من السلفيين المغاربة غير راغبين في الانضمام إلى الأحزاب القائمة أو تأسيس منظمات غير حكومية أو تأسيس حزب خاص بهم أو حتى دخول المجال السياسي. وبدلاً من ذلك، هم يفضلون البقاء في طمأنينة تماشياً مع التحريم التقليدي الذي تتبعه فرقتهم لهذه الأشكال من الطائفية.
خيارات السياسة الأمريكية
على الرغم من وجود النذر اليسير الذي يمكن أن تفعله الولايات المتحدة للتأثير على السلفيين المغاربة بشكل مباشر، إلا أن حث الرباط على الانخراط في هذه القضية ربما يكون مفيداً. وعلى وجه الخصوص، ينبغي على واشنطن الاستمرار في دبلوماسية القوة الناعمة مع تشجيع الحكومة على الاستمرار في سياسة “الانتظار والترقب” في تعاملها مع الضغوط السلفية المتزايدة. وقد ساهم الخلاف بين القادة السلفيين – لاسيما بين الفيزازي ومحمد المغراوي (فقيه مشهور تم نفيه إلى المملكة العربية السعودية بعد إصداره فتوى بأنه يجب تزويج البنات في سن التاسعة) في إضعاف قدرتهم على حشد أتباعهم لذا فإن اتخاذ موقف فعال وصريح ضد السلفية أو إثناء الملك عن إشراكهم في العملية السياسية ربما يكون غير ضروري الآن. ففي واقع الأمر، من المحتمل أن ترسخ مثل هذه الإجراءات وجهة النظر السلفية/الإسلامية القائمة والتي مفادها أن الولايات المتحدة تدعم الحكام المستبدين حفاظاً على مصالحها وتعارض بقوة أي نجاح للإسلاميين.
وربما يعتقد البعض أن سياسة القوة الناعمة تمنح المتطرفين المزيد من الحرية في العمل والاختيار. ومع ذلك، فقد قامت الرباط بإنشاء جهاز أمني متيقظ وتبني سياسة واضحة من عدم التسامح مع الإرهاب بهدف تقليل التهديدات الموجهة ضد الملك والعلاقات المغربية مع واشنطن وأوروبا. وينبغي أن يحول هذا الواقع – مقترناً بالمنهج السلمي الجديد للسلفيين (وإن كان قائماً على الانتهازية) بالانخراط داخل المجتمع – دون وقوع أعمال عنف واسعة الانتشار ناجمة عن بقايا الراديكالية.
واستشرافاً للمستقبل، فمن غير المرجح أن يقوم الملك بالتصريح للأحزاب السياسية السلفية على المدى القريب، ورغم ذلك فإنه قد يأتي الوقت الذي يتعين فيه على الملك مجابهة هذه الاحتمالية بشيء من الجدية والحسم. وفي هذه الأثناء، ينبغي على الرباط أن تأخذ بعين الاعتبار السلوك السياسي للسلفيين وطبيعة دعوتهم ومحتوى مناهجهم التعليمية. إن اتخاذ إجراءات مثل الإغلاق الأخير لمدارس المغراوي في مراكش ترسل إشارة بعدم التسامح مع السلفيين. لكن بدلاً من غلق المدارس القرآنية، ينبغي على الحكومة أن تنبههم أو تمنحهم حوافز لتبني المعايير المتفق عليها في وزارة التربية والتعليم.
ونظراً لأن السلفيين يكتسبون أتباع ومؤيدين، ينبغي على القصر التفكير أيضاً في تجنب أشكال أخرى من القمع (مثل فرض إجراءات صارمة على حرية الكلام، والتمييز القائم على أساس الملبس، والحد من حرية التجمع) وهو ما قد يدفعهم نحو التطرف أو قد يتسبب في مزيد من الاستقطاب). وبالإضافة إلى ذلك، فإن دمج السلفيين في العملية السياسية سيهدئ شيئاً من الغضب المستمر القائم منذ فترة طويلة – بما في ذلك بين السواد الأعظم من المغربيين – فيما يتعلق بقرار الملك بالانضمام إلى ركب واشنطن في “الحرب على الإرهاب”. وفي الوقت الراهن، فإن الإجابة على السؤال الخاص بكيفية التعامل مع السلفيين يقع على عاتق السياسيين المغربيين وما تحتاجه الولايات المتحدة فقط هو أن تبقى على علم بنشاطهم وتحركاتهم.
ڤيش سكثيفيل هي زميلة الجيل القادم في معهد واشنطن.