يشكّّل “نداء بيروت 2009” حدثاً فكرياً سياسياً بامتياز، كونه صدر في أعقاب الحرب على غزّة، وجاء ليؤكّد على التداخل بين مشروع السلام الدائم وبين تفعيل مبادرة السلام العربيّة، كما جاء ليحدّد، بأكثر ما يمكن من صراحة نظريّة وسياسيّة، ما يتهدّد العالم العربي جراء “اللقاء الإسرائيليّ الإيرانيّ على اعتبار المنطقة العربيّة مجالاً حيوياً لنفوذ كل منهما”.
أهمّ ما في النداء إضاءته، بعبارات واضحة وحاسمة، على مشكلة المشكلات في المنطقة، أي المصادرة الإيرانيّة للصراع العربيّ الإسرائيلي وربطها الحقوق العربية بفروض الطاعة والالتزام بخياراتها، واستفادة التطرّف الإسرائيليّ من هذه المصادرة الإيرانية للتفلّت من عملية السلام. يسير التلاقي الإيراني الإسرائيلي إذن على قاعدة “تماثل الضدّين”: تطرّفين يحاصران اعتدالاً. أما الاعتدال فليس يمكنه ردع التطرّف إلا بدمجه لقضيتين: السلام والديموقراطيّة.
ثمّة إذن محور جوفيّ إيرانيّ إسرائيليّ ليس له مصلحة في تسوية عربيّة إسرائيليّة وإنما في نوع من سايكس بيكو إيرانيّ إسرائيلي يقوم على تقاسم مجال النفوذ وتفتيت الكيانات الوطنية في المشرق العربيّ، مستفيداً من عناصر الضعف العربيّة الأساسيّة، حيث انتقل العالم العربيّ من مرحلة كانت الكلمة فيها للانقلابات العسكريّة إلى مرحلة صارت فيها كلّ السلطة للمخابرات، وتحوّلت فيها شبكات الإرهاب الى الشكل المركزي للـ”تنفيس” عن الاحتقان الشعبيّ، وإلى الشكل المركزيّ أيضاً لإعادة إنتاج السطوة المخابراتية في طول العالم العربيّ وعرضه. طبعاً، هذا ما لم تقله الوثيقة، أو لم ترد الخوض به، لكنّه متمّم لما تثيره من موضوعات، مثلما هي قضية السلام الدائم مرتبطة بالأساس بقضية الديموقراطية. أما “الاعتدال العربيّ” فهو حالة انتقالية إما باتجاه السلام والديموقراطية وإما باتجاه العودة إلى.. الممانعة.
منطق الحرب الدائمة
في مقابل منطق الحرب الدائمة الذي يشكّل علامة الالتقاء بين إسرائيل في مرحلة اجتثاث مؤسستها الحاكمة لآخر أطياف اسحق رابين، وبين إيران في مرحلة الانقلاب على كل ما وعدت به مرحلة محمد خاتمي من إصلاح وانفتاح، يستعيد نداء “السلام الآن للبنان” فكرة مركزية في الفلسفة المؤسّسة للحداثة السياسيّة، وهي فكرة السلام الدائم، التي كان الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط أبرز من سوّغ لها. السلام الدائم يعني الانتقال من عالم محكوم بتعاقب الحرب والسلم كتعاقب الليل والنهار إلى عالم تخضع فيه الحرب نفسها للسلم أي للقانون. السلام الدائم يعني أيضاً الانتقال من عالم يحصر فيه القانون داخل كل دولة وتسود فيه شريعة الغاب في ما بين الدول، إلى عالم يصير فيه القانون ناظماً أساسياً للعلاقة بين الدول.
أما كيفية ترجمة مفهوم السلام الدائم لبنانياً وعربيّاً، فيحتاج إلى متابعة ما حمله “نداء بيروت 2009” من أفكار ورؤى والانطلاق من الأفق الذي ترسمه مبادرة السلام العربيّة إلى المجال الذي يمكن أن يصنعه ميلاد حركة سلام عربية، وهي حركة يمكن أن تجد نموذجاً لها في حركة الاستقلال اللبناني الثاني، وفي القناعة بأن استمرار منطق الحرب الدائمة بات يشكل تهديداً جدياً لمستقبل “العروبة”.
تتأسس حركة السلام العربية على قاعدة أن منظومة “الممانعة” ليست بأي شكل من الأشكال الوريثة الشرعية لحركة التحرّر العربية المعبّر عنها تاريخياً بالتجربة الناصرية في الخمسينيات وبالثورة الفلسطينية في الستينيات والثمانينيات. ولا تزعم حركة السلام العربية في المقابل أنّها استمرار لحركة التحرّر العربيّة السالفة، وإنّما هي حركة تنطلق من وجوب الاعتراف بالهزيمة القومية والحضارية والعمل على تحسين شروطها.
وفي مقابل المصادرة الإيرانية للصراع العربي الإسرائيلي التي تقوم على إيثار كل ما من شأنه انتصار المتطرفين على جانبي الصراع، وبالتالي “تماثل الضدّين”، فإن حركة السلام العربية معنية بالأساس بتقديم نموذج مغاير ثقافياً وأخلاقياً وسياسياً للنموذج الذي تمثّله العدوانية الإسرائيلية.
والانتقال من مبادرة السلام العربية إلى حركة السلام العربية يعني الشروع في تحرير “الصراع العربيّ الإسرائيليّ” من المصادرة الإيرانيّة ليس لإرجاعه إلى عصر ما قبل دخول إيران على الخطّ، وإنّما لطرح تصور شامل للسلام الدائم في كل منطقة الشرق الأوسط بما فيها إيران.
فالشرق الأوسط الكبير وحده، من بين كل أقاليم العالم، هو الذي يخضع اليوم لمنطق الحرب الدائمة كما وصّفته وثيقة “نداء بيروت 2009″، في حين أن أقاليم العالم الأخرى على تفاوتها الرهيب في ما بينها تندرج جميعها في مشروع السلام الدائم.
تهديد للبنان بامتداح ساحته
بموجب الثورة الإيرانيّة، انتقلت إيران من محور إلى آخر في ما يتعلق بالصراع العربيّ الإسرائيليّ. كانت الحليفة الأبرز لإسرائيل في المنطقة قبل الثورة، وصارت حاملة لواء تدمير إسرائيل بعد الثورة. بيد أن الانتقال الإيرانيّ لم يكن شاملاً. فإيران الثورة برّرت بشكل أو بآخر لإيران الشاه عدم وقوفها إلى جانب العرب في الحروب النظاميّة الأربعة التي خيضت ضد إسرائيل. الذريعة الأيديولوجيّة الإيرانيّة كانت أنّ الحروب انتهت إلى الهزيمة، وأنّ الانتقال من طور الحروب النظاميّة إلى طور المقاومات غير المؤطّرة في دول كفيل بالقفز مباشرة من زمن الهزيمة إلى زمن “الانتصار الإلهيّ”.
والنظام الإيرانيّ دخل على خطّ الصراع العربيّ الإسرائيليّ في مرحلة انسحبت فيها أكبر دولة عربيّة من منطق الحرب الدائمة، وانفردت بسلام ارتكز على تركة الحروب النظاميّة السالفة واستعادة الأرض. كما دخل النظام الإيرانيّ على خط الصراع العربيّ الإسرائيليّ في مرحلة عرفت أزمة المقاومة الفلسطينيّة في ظلّ الاستنزاف السوريّ لفكرة القرار الوطنيّ الفلسطينيّ المستقلّ.
لأجل ذلك كلّه كان محتوماً منذ انتصار الثورة الإيرانيّة أن تقترن هيمنتها على قضية الحقوق العربيّة في فلسطين بالهيمنة على المصالح العربيّة، والهيمنة على جدول الأولويات العربيّة. وخير دليل على ذلك أن إيران التي قلبت رأساً على عقب خطابها الأيديولوجيّ في ما يتعلّق بالدولة الصهيونيّة لم تبدّل كثيراً في طريقة التعبير عن مطامعها التوسّعية والإلحاقية في منطقة الخليج، كما أنّ الحرب الإيرانيّة العراقيّة وإن كان يتحمّل نظام صدّام حسين المسؤولية الكبرى في إشعالها ليس يمكن إعفاء النظام الذي انتجته الثورة الإيرانية منها، ولنا سند في مذكرات آية الله منتظري.
منذ قيامه، شرع نظام الملاليّ في الهيمنة على الصراع العربيّ الإسرائيلي، ووجد في ظروف ما بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 ضالته، كما وجد في لبنان تربة خصبة لتقبّل خطابه الأيديولوجيّ وتوجيهاته التنظيميّة والسياسيّة، ومع أنّ الهيمنة الإيرانيّة على الصراع العربيّ الإسرائيليّ لجمت في أعقاب هزيمة نظام الملالي أمام صدّام حسين، فإن الظروف الناتجة عن احتلال الكويت والحرب على العراق أحيت مجدّداً تلك الهيمنة، وكان لتخلّع عملية السلام دوراً أساسيّاً في تأمين هذه الهيمنة، وذلك من خلال تكثيف التحالف الإيرانيّ السوريّ من جهة، والاستفادة الموضوعيّة من انهيار المسار الذي رسمه اتفاق أوسلو في الأراضي الفلسطينيّة. أما “النموذج اللبنانيّ في المقاومة”، أي النموذج المركزي لتصدير الثورة الإيرانيّة خارج وطنها الأم، فظلّ القاعدة الأبرز للهيمنة الإيرانيّة على تراث الصراع العربيّ الإسرائيليّ وآفاقه.
ويتعارض التصوّر الإيرانيّ للصراع العربيّ الإسرائيليّ مع استقلال واستقرار لبنان بمثل ما يتعارض مع عروبة لبنان. لماذا؟ لأنّ هذا التصوّر يغالي في تقدير الطبيعة المهدويّة للساحة اللبنانيّة ودورها الخلاصيّ الحاسم في الصراع العربيّ الإسرائيليّ.
بموجب هذا التصوّر لن يكون تحرّر الفلسطينيين من صنع الفلسطينيين أنفسهم، ولا من صنع التضامن العربيّ، ولا حتى من صنع النظام الإيرانيّ مباشرة، وإنّما بالواسطة اللبنانيّة، ومن طريق ارتدادات “النموذج اللبنانيّ في المقاومة”.
وبموجب هذا التصوّر ليس تحرّر الفلسطينيين وحقّهم في تقرير المصير هدفاً بذاته، بل إن الهدف المركزي هو تدمير إسرائيل، والسبيل الوحيد الذي يفقهه هذا التصوّر لتدمير إسرائيل هو زعزعة مرتكزات الثقة بين العسكريين والمدنيين فيها، مع العلم أن الجماعات الملتزمة بالتصوّر الإيراني ترفض وبشكل قطعيّ أي تمييز بين العسكريين والمدنيين في إسرائيل، وترى في كل تمييز من هذا القبيل على أنّه شرّ من شرور.. التطبيع!