1-
من بين أوصاف محتملة لرواية يوسف زيدان “عزازيل”، الفائزة بجائزة البوكر العربية، يبدو وسمها بالرواية الفلسفية فائضا عن الحاجة، حتى وإن جاء على لسان المؤلف نفسه، أو استنبطه آخرون من حقيقة اشتغال المؤلف بالفلسفة.
ففي كل الروايات، في التحليل الأخير، مطالعات فلسفية، بقدر ما يتسع مفهوم الفلسفة أو يضيق. ومع ذلك، “عزازيل” ليست رواية أفكار وتجريدات نظرية، ولا هي بحث في الميتافيزيقيا، وأسرار الوجود والعدم، أي كل ما يحرّض على التعامل معها كرواية فلسفية.
ولا هي، أيضا، بالرواية التاريخية، حتى وإن صوّرت أحداثا وقعت بالفعل، ما بين أواخر القرن الرابع، ومطلع القرن الخامس للميلاد، في مصر وبلاد الشام، زمن الإمبراطورية البيزنطية، وحفلت بوجود شخصيات حضرت وعاشت في تلك الفترة. فالتاريخ يحضر في الرواية كخلفية عامة لا تمارس فيها الشخصيات التاريخية دور الفاعل الرئيس، بقدر ما تُسهم في ضبط إيقاع السرد ضمن محددات زمانية ومكانية معلومة.
وبالقدر نفسه يبدو الكلام عنها باعتبارها “شيفرة دافنشي” العرب، في إحالة إلى الرواية ذائعة الصيت لـ”دان براون” فائضا عن الحاجة، أيضا. فالمقارنة بين العملين غير ممكنة، في الواقع، لأن رواية براون، التي تستخدم تقنيات التحقيق التاريخي، تتخلّق في إطار أسطورة قائمة في المخيال الثقافي الأوروبي منذ زمن الحروب الصليبية، وتتمثل في محاولة لتأويل الأسطورة، والمقصود، هنا، فرسان الهيكل، بطريقة جديدة.
بينما “عزازيل” لا تتخلّق في إطار أسطورة بعينها، ولا تمثل محاولة لأسطرة الانشقاق اللاهوتي في المسيحية، أو تأويله وفك مغاليقه، بطريقة جديدة، أو تزعم اكتشاف أسرار مثيرة. كل ما في الأمر أن الصراع اللاهوتي يمثل خلفية عامة لتجربة شخصية تخص فردا بعينه، هو الفاعل الروائي.
2-
ومع كل هذه التحفظات على تداعيات أثارتها الرواية منذ صدورها، وإن كانت لا تعالج بنية أو تقنيات السرد الروائي، يمكن القول بقليل من المجازفة إن “عزازيل” تجربة فريدة في الرواية العربية، فهي لا تضيف جديدا وحسب، بل وتقترح على الرواية العربية أفقا يتمثل (ربما للمرّة الأولى) في الخروج على تقليد التجارب الرضيّة للطبقة الوسطى في المراكز الحضرية العربية، في علاقتها مع المدينة كتجربة ثلاثية الأبعاد:
الانتقال من الريف إلى المدينة المترافق مع تشكيل وإعادة تشكيل دائمين للطبقة الوسطى، بناء وبلورة الهويات الحديثة بين سندان مجتمعات تقليدية عتيقة عاجزة ومتسلطة، ومطرقة حداثة كولونيالية وافدة وجائعة، وأخيرا، الصراع على السلطة، وظهور النظم السياسية السلطانية والمملوكية والعثمانية الحديثة والمستحدثة، وهي نظم هجينة اجتمعت فيها عناصر تقليدية وأخرى حديثة مما جعلها نموذجا فريدا، يكاد يكون حكرا على العالم العربي، ووصفة أكيدة للإخفاق التاريخي والحضاري.
يمكن العثور في الرواية العربية منذ أواسط القرن الماضي على علامات بارزة، أو آثار أركيولوجية، لما أسميناه بالتجربة ثلاثية الأبعاد، والتي غالبا ما استعانت بتقنية السيرة الذاتية، التي تتجلى في المصائر الفردية لأبطالها سير ومصائر مدن ومجتمعات، كخيار أوّل، ووحيد أحيانا، في لعبة إنشاء العالم عن طريق السرد، وتضمين السرد رسائل سياسية وأيديولوجية.
في سياق كهذا تفتح “عزازيل” أفقا جديدا لا من حيث خروجها على تقليد السيرة الذاتية، ولا الكف عن توظيف العلاقة بالمدينة، بل من حيث نقل الموضوع إلى أفق التاريخ، الذي يتجاوز الفاعل الروائي وهو في أغلب الأحيان المؤلف الذي يطل علينا من وراء قناع الراوي.
لذلك، يمارس يوسف زيدان (ولا يهم ما إذا كانت الممارسة واعية، أم كانت ضربة حظ) حجبا مزدوجا للمؤلف: فالرواية مخطوط قديم، بلغة تحتاج إلى ترجمة، يعود إلى أوائل القرن الخامس للميلاد ، والترجمة تتم على يد شخص أوصى بنشرها بعد وفاته، وقد قرأ المخطوط في وقت ما شخص آخر غير المترجم، وعلّق عليه باللغة العربية. وبهذا المعنى يكاد دور المؤلف، الذي يكتب اسمه على غلاف الرواية، ويعلن ملكيتها، ينحصر في وظيفة المحقق، وهي الوظيفة التي يمارسها زيدان في إطار الوظيفة العمومية.
3-
هذه التقنية، أيضا، ليست جديدة، إذ يمكن العثور عليها في الرواية الإنكليزية التاريخية (روايات النبلاء والفرسان والقلاع والساحرات، واستكشاف عوالم المستعمرات) منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وهي تستهدف، في الغالب، حجب صوت المؤلف، وإضفاء خصوصية أركيولوجية، وصدقية تاريخية، ناهيك عن حس التشويق والمغامرة، على نصوص جديدة.
تتضافر مع حجب المؤلف عملية حجب للفاعل الروائي نفسه، الذي لا يفصح في المخطوطة عن اسمه الحقيقي، بل يختار لنفسه اسما (هيبا) يشتقه من اسم عالمه رياضيات يونانية (هيباتيا) من الإسكندرية، كانت تعلّم الفلك والرياضيات، وتحوّل مصرعها على يد غوغاء متعصبين، بتحريض من السلطات الكنسية في المدينة، إلى لحظة فارقة في حياته، خاصة وقد شاهد سحلها وإحراق جثتها بأم عينيه.
وتتضاعف عملية الحجب هذه عندما تتجلى شكوك في سياق النص حول العلاقة بين الفاعل الروائي وعزازيل، أي الشيطان، الذي لا يتجلى كفاعل مستقل، بل يتخلّق كبديل محتمل لهيبا، أي الفاعل الروائي نفسه. في عملية الحجب المزدوجة أي تبادل الأدوار بين الفاعل الروائي وعزازيل ما يعزز النظر إلى الثاني باعتباره الفاعل الروائي الرئيس، أيضا.
وقد عُقدت في تعليقات كُتبت حول الرواية مقارنة بينها وبين فاوست الأسطورة الجرمانية. وهذه مقارنة غير ممكنة، فالشيطان في فاوست فاعل مستقل، بينما يتجلى وجوده في عزازيل لا كقوّة محركة للفاعل الرئيس، أو أحد طرفي صفقة معلومة، سواء عن طريق الحلول، أو التوجيه عن بعد، وإنما كوجه محتمل من وجوهه. فهو وعزازيل واحد.
وفي هذا الصدد ثمة ما يحيل، أيضا، إلى “قلعة في الغابة” للروائي الأميركي نورمان ميللر، الصادرة قبل سنوات قليلة، والتي حاول من خلالها العثور في سيرة أدولف هتلر على معنى الشر. يمارس الشيطان في رواية ميللر دوره عن طريق الحلول، على غرار فاوست، ولكن دون عقد مبرم.
المشترك بين “عزازيل” يوسف زيدان، و”فاوست” غوته، وتأويلات لكتّاب آخرين استلهموا الأسطورة الجرمانية، و”قلعة في الغابة” لميللر أن الأعمال الثلاثة تحاول استقصاء معنى الشر، الذي يجسده الشيطان ـ الشيطان صيغة بلاغية لفكرة مجرّدة تحاول حصر الشر في كينونة تقبل الحصر والتصنيف من ناحية، وتسهم من خلال التضاد في تفسير معنى الخير، الذي يصبح مشروطا بنفيها، من ناحية ثانية ـ لكن الفرق بينها يتجلى في حقيقة أن عزازيل يوسف زيدان لا يحضر ضمن صفقة، ولا يمارس الحلول، أو التسلل الخفي.
ولعل تجاوز فكرة الصفقة والعقد وإن كان يقلل من السمات الشيطانية لعزازيل، ويقلل من احتمال تحويل الفاعل الروائي إلى مجرد واسطة، يجسّد نموذجا أكثر تعقيدا وأقرب إلى النسبية منه إلى الحقيقة المطلقة.
4-
ولعل في نموذج أكثر تعقيدا ونسبية (كما تجلى في “عزازيل”) ما يفسّر عمليات الحجب المزدوجة التي طالت المؤلف واللغة والفاعل الرئيس. للحجب، هنا، وظيفة أساس تتجلى في تحويل حكاية راهب مصري، يعيش في زمن انتصار المسيحية، وأفول ديانات العالم القديم الوثنية، وما يقترن بالأولى من صراعات على السلطة والنفوذ باسم حماية الدين القويم، وبالثانية من حسرات تاريخية، تليق بالمهزومين، إلى حكاية عن الإنسان في لحظة انتقالية بين عالمين، أحدهما في طور التأسيس والآخر في طور الأفول.
لذلك، تقبل “عزازيل” القراءة باعتبارها رواية عن المنفى. والمنفى، هنا، مزدوج أيضا: الغربة والاغتراب في الوطن وخارجه. كما تقبل القراءة باعتبارها رواية عن التعصّب الديني، الناجم في كل زمان ومكان عن استغلال الدين لتحقيق مكاسب ومطامح دنيوية، في لحظات انتقالية يتحوّل فيها العامة المغسولة عقولهم إلى برابرة وأدوات مسنونة ومجنونة للقتل.
ويمكن أن تُقرأ أيضا كرواية عن الصراع بين الدوافع الأساسية وأدوات الضبط، أو الحواجز الأخلاقية والثقافية التي تنصبها المجتمعات الإنسانية على سبيل المراقبة والتقنين وضمان النظام العام. وهي غالبا ما تزداد عنفا وعدوانية وتعصبا في اللحظات الانتقالية.
في اللحظات الانتقالية حيث يتأرجح اليقين بين عالمين، مآزق شخصية وجماعية كثيرة تقبل التعميم على أكثر من زمن، والتجلي في أكثر من مكان. وهذا، بالتحديد، المقصود بالخروج على تقليد التجارب الرضيّة للطبقة الوسطى في الرواية العربية.
بهذا المعنى، وبالرغم من توظيف “عزازيل” لتقنية السيرة الذاتية، وتجربة العيش في المدينة والهرب منها (وهي مؤلمة في مجتمعات قريبة الصلة بجذورها الفلاّحية)، وبالرغم من تخليق الفاعل الروائي على خلفية الحراك الاجتماعي والسياسي، إلا أن فاعلها الروائي، وبما يكوّنه من عناصر أصيلة وأصلية أرضية وسماوية، إنسانية وشيطانية (إذا شئت) ينفتح على إطار إنساني أوسع من تجربة المدينة والهوية والنظام السياسي ضمن حدودها وخصوصياتها العربية المألوفة.
5-
أخيرا، ثار بعض اللغط من جانب مراجع كنسية احتجت على تناول زيدان لفترة من تاريخ الكنسية في مصر، واعتبرت ما جاء فيها من تصوير لقتل الوثنيين والصراع بين المراجع الكنسية، أو حتى شهوات الراهب هيبا، محاولة للنيل من سمعة المسيحية وتشويه تاريخها.
وهذا يشبه في الواقع ما يمارسه صاحب الحسبة في مصر، وما تمارسه “لجنة البحوث” في الأزهر من رقابة على المصنفات الفنية والنتاج الأدبي. وفي هذا دليل آخر على حقيقة أن الرواية معاصرة، أيضا، بقدر ما هو التعصّب الديني معاصر، وبقدر ما تتخفى مطامع ومصالح دنيوية خلف شعارات دينية، وبقدر ما يتحوّل العامة في اللحظات الانتقالية التي يعيشها العالم العربي إلى برابرة وأدوات مجنونة ومسنونة للقتل، حتى أنهم يفجرون أنفسهم في مدن عربية مختلفة، في الأسواق، والفنادق، والمركبات العامة ليتمكنوا من قتل أكبر عدد ممكن من أناس لا يعرفونهم، ولا يبادلونهم العداء.
وإذا كانت “عزازيل” قد تمكنت من القبض على معنى اللحظة الانتقالية، من خلال سيرة راهب مصري عاش في مطلع القرن الخامس للميلاد، فهي إذ تشهد على الحاضر، أكثر مما توّثق للماضي، تفتح أفقا إنسانيا أوسع أمام الرواية العربية إذ ترسم صورة للشرق القديم، الزاخر بتعددية دينية وعرقية وثقافية ولغوية، والمهدد في الوقت الحاضر، كما حدث في الماضي، بفقدان خصائصه التاريخية باسم الصفاء القومي والديني، ومع هذا وذاك تحقق الإمتاع والمؤانسة، معا. وهذه وتلك من سمات الأدب الجيد في كل زمان ومكان. ومن حسن الحظ أن هيبا الراهب استجاب لتحريض عزازيل، الذي طلب منه تدوين ما عاش من تجارب وعاصر من أحداث، فمن يكتب ـ كما قال عزازيل ـ لا يموت.
Khaderhas1@hotmail.com
إقرأ أيضاً على “الشفّاف”:
وسف زيدان: “عزازيل” استغرقت منى 30 سنة وحاولت أن أنفض الغبار عن تاريخ مصر المنسي
«عزازيـل» بوكـر.. مـاذا تربـح الروايـة؟