بصفته إبن رجل دين برتبة “آية الله”، فإن مهدي خلجي، الذي ولد في “قم” بإيران، يعرف الدراسة في “الحوزة” الشيعية عن كثب. فوالده كان يحلم بأن يحرز إبنه مرتبة “آية الله” بدوره، وهذا ما دفع مهدي لدراسة أصول الدين والفقه في “الحوزة” من العام 1986 إلى العام 2000.
بعد 9 سنوات من القرار الصعب الذي اتخذه بالتوقّف عن الدراسة في “الحوزة” وبالإنصراف للصحافة والعمل البحثي المستقل، فإن “مهدي خلجي” بات الآن زميلاً رئيسياً في “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى”. وقد أجرى المقابلة التالية مع “إليزابيت ديكنسون” لمجلة “فورين أفّيرز”:
تم إيفادي إلى “الحوزة” حينما كنت صغيراً جداً- كان عمري 11 سنة. وكان والدي يأمل في أن أصبح يوماً واحداً من “آيات الله العظمى”. ولكنني خنت أحلام والدي وتركت “الحوزة، في النهاية. لقد درست حتى وصلت إلى أعلى مستوى، أي المستوى الذي يسمح لك بحضور دروس آيات الله العظمى. وقد درست أًصول الدين وفق المذهب الشيعي، والفقه، والفلسفة الإسلامية.
وحيث أن والدي كان برتبة “آية الله”، فقد كنت أعرف حياة رجال الدين عن كثب. بعد شهرين من عودة الخميني إلى إيران في فبراير 1979، فقد توجّه إلى “قم”، حيث كان والدي هو الذي ألقى خطاب الترحيب به. كان والدي معروفاً جداً، وكانت تربطه علاقة جيدة بالثوريين الآخرين. الواقع أن والدي كان في السجن قبل الثورة.
حول الحياة اليومية في “الحوزة”:
كانت الحياة اليومية لطالب “الحوزة” في أيامي مختلفة كثيراً عما كانت عليه قبل الثورة، ومختلفة عما باتت عليه الآن.
كانت الحياة تقليدية. كنت تنهض باكراً في الصباح لأن عليك أن تصلّي. والعديد من رجال الدين الصالحين كانوا يستيقظون في الثانية أو الثالثة صباحاً للصلاة. وبعد صلاة الصباح، مثلاً في الساعة 5 أو 6 صباحاً، فإنهم يشرعون بالقر اءة. وفي السابعة صباحاً، تبدأ الدروس. في العادة، يستغرق الدرس 45 دقيقة. ويختار كل طالب زميلاً له لنقاش الدرس معه كل يوم. أحياناً، ألعب أنا دور أستاذك، فأدرّسك الدرس الذي تلقّيته أنا بالأمس. وإذا ما ارتكبت خطأً، فأنك تصحّح لي خطأي. وفي اليوم التالي، تكون أنت أستاذي. وعلى هذا النحو، فإن الطلاب يعيدون الدروس ويصحّحون لبعضهم أي سوء فهم. وفي العادة، كنا نتلقّى 3 أو 4 دروس في اليوم.
عند الظهر، كنا نرجع إلى البيت، أما الذين يعيشون في المدرسة الدينية، فإنهم يرجعون إلى مدارسهم. كنا نأكل، ثم نستريح. ثم تُستأنف الدروس في الرابعة بعد الظهر، وحتى غياب الشمس. عند المغيب، كنا نصلّي صلات المغيب. وبعد ذلك، كنا نعود إلى البيت ونبدأ القراءة. وكنا ننام باكراً، لأن علينا أن ننهض باكراً في اليوم التالي.
كانت تلك الحياة التقليدية لطلاب الحوزة. أما الآن، فكل شيء يُدرّس بطريقة خاطئة، بعد أن ضخ خامنئي كميات من الأموال في المؤسسات الدينية. لقد دمّروا البنية التقليدية والبرنامج التعليمي. وأنشأوا مدارس هي أقرب إلى القاعدة العسكرية منها إلى الحوزة التقليدية. وفي كل صباح، يقوم الطلاب بما يشبه الإستعراض، وهذه عادة عسكرية، وليست عادة دينية.
حول أسباب دخول الحوزة:
في أيامي، لم يكن أحد يدخل “الحوزة” لجني ثروة أو لإحراز مكانة إجتماعية، فالوظيفة الدينية لم تكن واحدة من أفضل الوظائف في المجتمع. وقبل الثورة، كان حضور الدروس متوقّفاً على قناعات الشخص الدينية وعلى قراره الشخصي- أي على شعور الفرد بأن لديه مسؤولية دينية. بعد الثورة، كان بعض الناس يذهبون إلى “الحوزة” لأنهم كانوا ثوريين مثاليين. وكانوا يتطلّعون إلى “الحوزة” كمكان للتثقيف الإيديولوجي.
ولكن، تدريجياً، تم تعيين رجال الدين في المراكز الحسّاسة بالدولة. إذا كنت رجل دين، فهذا يعني أن بوسعك أن تحرز الكثير من السلطة السياسية ومن المنافع الإقتصادية. وهذا يعني أن الناس لم يعودوا يذهبون إلى “الحوزة” لدراسة الدين. الناس يلتحقون بـ”الحوزة” لأن “الحوزة” أصبحت مكاناً لتدريب موظفي الحكومة. إنهم يلتحقون لكي يصبحوا أثرياء، ولكي يتقرّبوا من الدوائر السياسية الحاكمة. وبعد 30 عاماً، فإن الجيل الجديد من طلاب “الحوزة” بات فقيراً جداً من الناحية الفكرية سوى أنه بات ثرياً جداً- أي أن الوضع بات نقيض ما كان في الماضي.
حول من يستطيع الإلتحاق بالحوزة:
حينما دخلت “الحوزة”، لم يكن هنالك إختبار إيديولوجي. كان باستطاعة أي شخص أن يدرس في “الحوزة” ، شرط أن يحضر الدروس وأن ينجح في الإمتحانات. ولكن، منذ أن وصل خامنئي إلى السلطة قبل 20 عاماً، بات على الراغبين بالدراسة أن يخضعوا لتحقيق إيديولوجي. وهم يحقّقون، الآن، في أصل الطالب، وفي مدى ولاء أسرته للحكومة، وما إذا كان أي واحد من أفراد الأسرة متورّطاً في نشاطات سياسية، وما إذا كانت الأسرة متديّنة أم لا.
إن ما ذكرته في بعض مقالاتي هو أن خامنئي قام بتحديث “الحوزة”، وقام بفرض طابع بيروقراطي على “الحوزة”، وأنه، عبر التحديث، فرض سيطرته على “الحوزة”. في أيامي، كنا أحراراً في حضور الدروس التي نختارها بأنفسنا. أما الآن، فالوضع أشبه بدخول المؤسسة العسكرية. في الماضي، كان بوسع أيٍّ كان أن يدرّس، وكنت أنا حرّاً في اختيار مدرّسي: أي مدرّس متطوّع، وطالب متطوّع. الآن؟ الطالب لا يستطيع أن يختار مدرّسه، والمدرّس لا يستيطيع أن يختار الطالب الذي يتتلمذ عليه.
حول قرار مغادرة “الحوزة”:
أنا جزء من الجيل الذي دخل “الحوزة” بعد الثورة. كانت لدينا أوهام حول الإيديولوجية الإسلامية، وكنا نعتقد أن الإيديولوجية الإسلامية كانت تنسجم مع وعود قائدها: أي أنها ستوفّر السعادة الدنيوية، والخلاص في الآخرة. الإيديولوجية الإسلامية تقدّم للمرء كل ما تقدّمه الإيديولوجيات الأخرى، على غرار التنمية الإقتصادية، وحرية التعبير، والنهضة الثقافية، ولكنها تملك قيمة مضافة: في حين أن الليبرالية لا تعد المرء بشيء بعد موته، فإن الإيديولوجية الإسلامية توفّر له الخلاص في الحياة الأخرى. ذلك كان اعتقادنا- وذلك كان العالم الطوباوي الذي كنا نؤمن به. ولكن، بعد مرور عشر سنوات، اكتشفنا أن النتائج لم تكن واعدة.
فالواقع أنه حينما أحرز رجال الدين السلطة، فقد شرعوا بتصفية الجماعات الأخرى، سواءً الجماعات السياسية أو الشخصيات السياسية التي شاركت في الثورة. مثلا، كان العديد من رجال الدين البارزين بين جيراننا في “قم”. وأذكر أن جارنا الأقرب كان رجل دين وأنه كان عضواً في “المجلس” منذ كنت أنا طفلاً. وفجأة، اكتشفنا أنه أُعدِم. كان لديه أولاد، ولد أو ولدان، في نفس عمري. وكنا نلاحظ عذابهم، وكان الوضع مؤلماً جداً. إن العديد من رجال الدين الذين آمنوا فعلاً بالإيديولوجية الإسلامية ونشطوا في فترة الثورة قد تعرّضوا للطرد أو للسجن أو للتعذيب أو للإعدام، لمجرّد أنهم انتقدوا الخميني. ذلك واحد من الأسباب التي دفعت طلابا مثلي ليقولون: “حسناً، يبدو أن الوضع ليس على ما يُرام. ما كنّا نسعى له ليس ما يحصل حالياً. إن ما يحصل يناقض المفهوم الرومانسي لليوتوبيا الإسلامية”.
تأثير عبد الكريم سروش
وثانياً، بين الأمور التي تأثّرت بها كثيراً، أنا شخصياً، كان ظهور المثقفين الدينيين، وخصوصاً “عبد الكريم سروش”. لقد بدأ الدكتور سروش بالتوجّه إلى “قم” حينما كنت في عمر 17 سنة. وكنت أحضر صفّه كل يوم خميس، في بيت صغير. وكنا نحضر دروسه سرّاً، لأن رجال الدين كانوا حانقين عليه لأنه يدّرس تأويلاً مختلفاً للإسلام. لقد فتح الدكتور سروش عينّيّ وأعين العديد من رجال الدين من جيلي أنا على الحداثة، وعلى الفلسفة الغربية، وعلى كيفية النظر إلى الإسلام من منظور حديث.
وفي النهاية، بدأت بدراسة الفلسفة الغربية وخصوصاً “إيمانويل كانط”، الذي أثّر بي كثيراً، والفلاسفة الحديثين مثل “نيتشه” وفلاسفة آخرين، بينهم “جان بول سارتر”، و”ميشال فوكو”، و”دريدا”، وغيرهم. وبواسطة الفلسفة، فقد بدأت بنقد الإيديولوجية.
حول مقتدى الصدر:
لا يملك أحد أن يذهب إلى “الحوزة” ويدرس لكي يصبح “آية الله”! أن يصبح شخص ما “آية الله” يختلف عن حصوله على شهادة. يستطيع المرء أن يحصل على “دكتوراه في الفلسفة”. هذا ممكن. ولكن “آية الله” في “الحوزة” هو أشبه بـ”منظّر” (أو “فيلسوف”). هنالك ألوف الأشخاص في العالم يحملون شهادة “دكتور في الفلسفة”، ولكن ليس هنالك سوى عدد قليل جداً من “الفلاسفة”- أي من الأشخاص الذين يبتدعون نظريات جديدة وفلسفات جديدة.
هنالك كثير من الذين أمضوا 30 سنة في الدراسة، وهم الآن متقدّمون في السنّ- تبلغ أعمارهم 70 سنة مثلاً- ولكنهم لم يصبحوا “آيات الله” بعد. يمكن أن تصبح “آية الله” وأنت صغير السن، أو حينما تكون متوسط العمر، شرط أن تكون ذكياً وأن تدرس جيداً، وأن تكرّس نفسك. ولكنك لا تستطيع أن تحصل على مرتبة “آية الله” بسرعة ثم تعود إلى العراق وإلى قيادة “جيش المهدي”. الأمور لا تتم على هذا النحو.
مضحك جداً ان يقول مقتدى الصدر: “أنا أدرس لكي أصبح آية الله”! الحقيقة أن هذا الكلام ليس له معنى سوى باللغة الإنكليزية. ولو قال مقتدى ذلك بالفارسية أو بالعربية، فإن الجميع كان سيسخر منه. ولذلك، فإنه لا يستطيع أن يردّد مثل هذا الكلام سوى أمام وسائل الإعلام الأجنبية.
كذلك، فإذا كان المرء يرغب في دراسة علوم الدين في أعلى مستوى، سواءً في “قم” أو في “النجف” أو في الحوزات الأخرى، فإن عليه أن يحضر الدروس المهمة التي يعطيها مراجع كبار. إن المراجع الكبار لا يعطون دروسهم سرّاً. فهم يدرّسون في المسجد، ويحضر دروسهم عدد كبير من الناس. ولكن، في السنوات القليلة الماضية، حينما زعم مقتدى أنه كان في “قم” لكي يدرس الدين ولكي يصبح “آية الله“، فإن أحداً لم يصادفه في تلك الدروس. إذاً، أين هو؟ أنا لا أعرف. ماذا يفعل؟ أنا لا أعرف. ولكن يمكننا أن نكون متأكّدين جداً من نقطة أساسية: إن أحداً لا يتحدث عنه لأن أحداً لم يَرَه في “قم”!
إقرأ أيضاً: