يستوقف زائر جادة الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية النصب التذكاري للمؤرخ وعالم الاجتماع ابن خلدون (1332 – 1406). نراه رافعاً رأسه وبين يديه كتاب، وكأنه يبقى الشاهد على دورة العصور وعمران الدول وانحطاطها.
في الجانب الآخر من الجادة نفسها كان هناك تمثال المجاهد الأكبر بورقيبة الذي نقله زين العابدين بن علي إلى الضاحية القريبة واستبدله بمجسم يرمز لحركته الانقلابية التي اسماها تحول 7 تشرين الثاني 1987. لكن “ثورة الياسمين” التي حصلت منذ عامين حطّمت رموز سيد قرطاجة الحديث وحافظت على مكانة العلامة الكبير، وفي هذا درس حول ديمومة الفكر والإبداع وزوال السياسيين المتحكمين.
ألم يرصد عبد الرحمن ابن خلدون، ابن أفريقيا (كما كانت تسمى تونس)، العلة المؤدية لخراب المراحل الانتقالية في “الصحوة العربية” الراهنة والمتعثرة عندما وصف في “مقدمته” الاستبداد بـ”العسف الذي يؤدي الى خراب النفوس وفساد النوع”، هذا الاستبداد الذي عاد الكواكبي ابن حلب وتمعّن في تفصيل طبائعه ومآلاته، لا يقتصر على طغيان الحاكم وجوره، بل يمتد لعدم الاعتراف بالآخر وإنكار حقوقه وتعميم ثقافة الإقصاء باسم الإيديولوجيا أو تحت ستار الدين.
في مراقبة لأحوال دنيا العرب يمكننا إجراء مقارنة بين لبنان (وسوريا استطراداً) وتونس (ومصر استطراداً) حيث تتعدد نقاط التشابه الثقافي والتفاعل الفكري وإشكاليات الهوية والحداثة. وإذا أردنا فهم أسباب الانشطار السياسي الحاد وتفاقم العنف السياسي من مصر إلى تونس، لا بد من العودة للخلفية الثقافية للمجتمعات العربية. وفي هذا الإطار كان ابن خلدون قد تبنى نظرة موسوعية للتاريخ العربي تفيدنا اليوم في فهم أسباب التخلف وعدم القدرة على اللحاق بالعصر.
وحسب الأنثروبولوجي الأميركي الراحل إيريك وولف: “حلل ابن خلدون في القرن الرابع عشر عملية بناء التحالفات وتفككها ببراعة فائقة، فلقد رأى الأمر في شكل تناوب متصل بين تضامن القرابة “العصبية القبلية” من جهة، وتنوع المصالح الملازم لحياة الاستقرار من الجهة المقابلة”. وذهب ابن خلدون بعيدا في منهج يتخطى الاعتبارات القبلية والعرقية والدينية ويعتمد على الفروع الفاعلة المؤثرة المساهمة في صوغ النهر العام.
بيد أنّ التبني السلبي لنظرية العصبية جعلها معبرا للاستبداد والتحكم بدل أن تكون عنصر قوة للدولة والجماعة. ويسري ذلك على إعطاء الغلبة للحسابات الفئوية والقبلية والمناطقية والإيديولوجية والدينية في مراحل تحول تفترض التفتيش عن القواسم المشتركة في مراحل البناء الانتقالي.
إذا بقينا في المجال الفكري وطرحنا أسئلة ملحة حول صلة الشورى بالديموقراطية ضمن المسار القاضي بضرورة تحديث نظام الحكم، ودور الدين والتراث في عالم متحول، نستنتج بسرعة أنّ الاستبداد حول عالم العرب لصحراء فكرية مع خطر استمرار البكاء على الاطلال أو الحديث عن مؤامرات من دون التحلي بالشجاعة للممارسة النقد الذاتي وتحمل المسؤولية في المخاض الانتقالي الذي لن يكون درباً مفروشة بالورود بل مرحلة يزدحم فيها اللااستقرار مع الجدل الفكري والمتاعب الاجتماعية.
مع العام الثالث للخضّات العربية يقفز السؤال عن جدوى هذه التحولات والانتفاضات والثورات وما إذا كانت ستتحول إلى مواجهة باهظة الثمن في سوريا أو إلى فوضى غير خلاقة هنا أو هناك. من لبنان حيث كان الجواب على ” قمة الاغتيال السياسي” في 14 شباط 2005 بانطلاق حركات “التحول العربي” في 14 آذار، جرى منع الاستقلال الثاني عبر الإمعان في الاغتيال وحجز حركة التاريخ من خلال لعبة المحاور الإقليمية.
وفي تونس وليبيا ومصر واليمن تزداد وتيرة العنف السياسي وكأنّ المعادين للتغيير على اختلاف تنويعاتهم يتّفقون على هدف ضرب أحلام الشباب ومنع قيام أو استرداد الدولة الوطنية.
وإذا كان الاغتيال السياسي ظاهرة عالمية من غاندي إلى جون كينيدي، إلا أن تفاقمه في العالم العربي يطرح تساؤلات موضوعية عن خلفيته الثقافية والتاريخية استنادا لقواعد الثأر والانتقام والاصطفاف القبلي والعشائري والغلو الديني والحزبي.
ولذا يتوجب التوافق على مدونات سلوك في التسامح والخطاب السياسي العقلاني والتمهل في انتظار استكمال المراحل الانتقالية وإلّا ستصبح الحياة السياسية العربية انقلاباً دائماً وستمنى المحاولة النهضوية الحالية بالفشل الذريع.
كم يبدو مفيداً اليوم في خضم الصراعات الدائرة أن نعود إلى مفاهيم ابن خلدون وأن نستحضر ابن رشد وديكارت، فمن دون قسط كبير من العقلانية لن يتمكن العرب من الدخول الى التاريخ من جديد.
khattarwahid@yahoo.fr
إعلامي لبناني
“الجمهورية” البيروتية