الوزير-المعجزة جبران باسيل كان موفّقاً باللحظة التي اختارها، هو المعتاد على النجاح…. انتظر حتى ظهور لجوء الفلسطينيين الجديد ليقترح، هو ومن بعده وزراء “مقاومين ممانعين”، إقفال الحدود اللبنانية بوجههم، وبوجه السوريين الذين سبقوهم بالهروب من جحيم حليفه بشار. من دون أن يقصد، اختار لحظة عبقرية، هي من صميم ثقافة الهواجس اللبنانية العريقة. انتظر عامين إلا قليلاً بصمت… غائصاً في شجون الكهرباء التي يسعى إلى تأمينها… وما إن أطلّ اللاجئون الفلسطينيون، حتى تفتّقت قريحته… قيل يومها، تبريراً أو تفسيراً، ان عقله القروي المشغول بحساباته الانتخابية، هو الذي دفعه إلى المبادرة بهكذا اقتراح. لكن التفسير أو التبرير لم يجدا من يتحقّق منهما، ولا من يشكّ في حقيقتهما، ولا من يتصور الآفاق التدميرية الواسعة التي تفتحها أبوابهما.
كل ما فعله إقتراح الوزير باسيل وصحبه هو نبش الهواجس من بين قبور الحرب الأهلية الساخنة السالفة، معيداً أشباحها إلى واجهة المخيلة: الفلسطينيون، المسلحون، الذين هبطوا على لبنان إثر طردهم من أرضهم عام 1948… الاختلال الديموغرافي، الحرب الأهلية، الطائفية المؤجّجة، مشاريع التوطين… عادوا كلهم، يفسرون للبنانيين الذين لم يرافقوا ذاك التاريخ، تلك الحرب الأهلية، على انها كانت “حرب الآخرين على أرضه”. كأن اللبنانيين ينعمون اليوم بأبهى عصور العيش المشترك… ثم جاء تدفق اللاجئين الفلسطينيين ليفسد هذه الجنة التي هم فيها….
كان هذا مستوى “السجال” الذي “دار” حول اقتراح الوزير. لذلك لم يكتمل. رغم اسهمه النارية، وأشباحه الكثيرة. البعض ردّ عليه بحجج كلاسيكية، بتطمينات، وبتسجيل نقاط، بالسخط والاستنكار. كأن هذا البعض منزّه، هو الآخر، من مراميه القروية الانتخابية… والأبلغ من الردود، والردود على الردود، كان الصمت الصارخ من جهة رؤوس حربة “الممانعين” والمتمسكين بسلاحهم حتى تحرير كل فلسطين. فاذا استثنينا وزيري الخارجية عدنان منصور (أمل) ووزير الدولة علي قانصو (القومي السوري)، لم يصدر من قيادة “حزب الله”، استحساناً أو استنكاراً. أن يصدر عن غيرهم موقف، أكانوا متوسطيهم أو “صغارهم” ، ولا يكون لهيئة أركانهم الا الصمت ازاءه، فهذا يعني المعنى العميق للـ”مقاومة” الذي يبطنه “حزب الله”. “خذ أسرارهم من صغارهم”، ومن متوسطيهم أيضاً: فتقديس سلاح هذا الحزب، المستلهم من قدسية القضية التي يدعي الكفاح من أجلها، لا يقصد به تقديس الشعب الفلسطيني، إنما نفسه. نتكلم عن التقديس المزعوم للقضية، كي لا نقول الاهتمام بمصير شعب هذه القضية، أو تجنيبه أهوال لجوئه ومصائبه. “القضية العادلة” عند “حزب الله” هي فكرة، يجب أن تظل مجرّدة، غير مجسَّدة، غير مترجمة على أرض الواقع ترجمة أمينة. فاذا خرجت عن التجريد تعطلت طاقات الحزب على التلاعب بها.
لمزيد من الوضوح: إذا أخذ “حزب الله” على عاتقه حماية كل لاجئ فلسطيني، قديم أو جديد، ورعايته وتأمين ظروف إنسانية لعيشه إلى ما هنالك من أوجه أنسنة سياسية لمعنى حمل لواء القضية…. إذا كان هذا سلوكه أو أولوياته، فلن يكون “حزب الله” الذي نعرفه: صاحب إرتباطات ومشاريع ومصالح إقليمية، سلاحه الوحيد عشرات الآلاف من الصواريخ…
على كل حال، ليس “حزب الله” غريباً عن بيئته اللبنانية العربية. فما من حزب نادى بحقوق جماعة إلا وكانت هذه الحقوق ممعنة في تجريديتها. يمكنه أن يدوس على كرامة أصحاب هذه الحقوق، أن يتسبب لهم بالمصائب، ويولي قضيتهم في الآن عينه أولوية مطلقة. لا تجد كل هذه الأحزاب غضاضة من هكذا تناقض، خصوصاً عندما لا تحتاج إلى توزيع الأعطية الرامية إلى تجديد سلطتها. التذاكي لا يقتصر على هيئة أركان الممانعين. حلفاؤهم أيضا تبنوا خطاب القضايا المقدسة والإمبريالية والصهيونية والمؤامرة الكونية… وسوف يسجل التاريخ أن وزيرا لبنانياً برز من بين هؤلاء الحلفاء. سبقه لسانه الانتخابي، على ما اعتقد، ففضح باقتراحه اغلاق الحدود على الهاربين من نظام ممقوت، المعنى العميق لمفهوم الـ”ممانعة” الذي كان سائدا وقتذاك.
لكن السجال لم يأخذ مداه. ربما تجنباً لتكبير الفضيحة، أو تمديد الكذبة. ربما لأن مجريات أخرى، أكثر إلحاحاً، مثل “البوينتاج” الانتخابي، أو غنائم التحالفات، فضلاً، طبعاً، عن القانون الانتخابي الذي يتخيل كل طرف انه أعظم مطافاته. فعندما يركز سياسيونا على تجديد نيابتهم عنا، عندها كل شيء يهون…
خذْ مثلا واحداً: ان لبنان هو البلد الحدودي الوحيد مع سوريا الذي استقبل اللاجئين، السوريين والفلسطينين، من دون أن يقيم لهم مخيمات، من دون أن يؤطر وجودهم؛ على غرار تركيا والاردن والعراق. مصر استقبلت أعداداً كبيرة منهم، لكن مصر بعيدة، وهي، بملايينها التسعين، تهضم الأخضر واليابس. ديموغرافيتها هنا نقطة قوتها. أما لبنان…. فاستقبل بعشوائية… فكان هذا التفاوت في تقدير أعدادهم: فأرقامهم، حسب الجهات الرسمية هي130,000 و300,000 حسب الجهات الإعلامية أو الكواليسية. لماذا؟ ماذا وراء هذا الاستثناء اللبناني؟ أولاً، طبعاً، مثل نشيد الطابور في الصباح، ان لا وجود لدولة في لبنان تبادر وتنظم وتحصي الخ. وان هذه الدولة لا تملك الموارد الكافية للإغاثة أو الايواء والى ما هنالك من واجبات اللجوء الانساني. أوائل المنشدين لألحان غياب هذه الدولة هم القابضون على مفاتيحها… هذا عادي في لبنان! ولكنه في الواقع اصبح مثل اللغة الخشبية الهابطة على العقل بالباراشوت، تحجب واقعاً أكثر مما تكشف. الحقيقة ان الشفافية في هذا الموضوع وحده، ليس من مصلحة اللاعبين في كلا الحلبتين، العابرين للحدود السورية، في كلا الاتجاهين…
لذلك، لن يأخذ السجال مداه. لن تتبلور التصورات. لن يظفر اللبنانيون مناخا رحبا يحتضن هواجسهم، يفرز بين المفتعل منها والحقيقي. يجدون أنفسهم، في واحدة من مراحل الثورة السورية في وضع غائم عائم. في آذانهم كلمات، تختلط فيها الاشباح بالوقائع وأعمال تنجيم (ازدياد الطلب على المنجمين). ما يحوّل قلقهم الى شعور غامض بكارثة آتية، لا يعرفون متى ولا كيف. كأنهم ينتظرون الطوفان. وكأن هذا الطوفان قادم من بحر الظلمات، من بعيد. اقتراح الوزير باسيل ثم مناقشته بالطريقة التي تمت، هي واحدة من الأمثلة على ضآلة مدى الكلام، على الحدود المرسومة سلفا لكل سجال. مع ان انفجار سوريا وتبعثر السوريين في لبنان يغلق دورة التداخل القائم بين المصائر، الشخصية خصوصاً، للشعوب الثلاثة: اللبناني والفلسطيني في المرحلة الأولى من هذه الدورة، السوري الفلسطيني، بشكل مختلف، مثل السوري اللبناني، باتجاه واحد. ثم الآن اللبناني السوري، ومعهما الفلسطيني، صاحب اطول مسار. بذلك تكتمل الدورة، وفي جميع الاتجاهات. أسباب هذا التداخل ليست جغرافية فحسب. تُنافسها جملة من الأسباب الأخرى، تاريخية وبنيوية. واذا أهلملنا الوزير باسيل وقادته الميدانيين، وأخذنا هذا التداخل بالاعتبار، فان مخاوف كثيرة ستتبدد… منها تلك المحمولة على أكتاف اللبنانيين، من احتمال أن تكون بلادهم عرضة لتسونامي بشري قاتم الملامح، سوف يطيح بالتوازن الهش، الذي وضع سقفا لخسائره: اشتباك من هنا، انفجار من هناك… تعطل القانون والكهرباء، تعمم الفساد، انهيار نظام السير والوزارات… انهيار مقومات الدولة… الى ما هنالك من بوادر هلاك وطنهم وسط رنين سجالات مبتورة وكلمات فقدت محتواها.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
[المستقبل->http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=553842
]