يقدم كتاب (“مغاربة في البرتغال –خلال القرن السادس عشر-دراسة في الثقافة والذهنيات بالمغرب من خلال محاضر محاكم التفتيش الدينية البرتغالية”)، تاريخ تواجد المغاربة بالبرتغال وأحوالهم الثقافية والاجتماعية، وظروف انتقالهم من المغرب إلى “لشبونة” وباقي المدن البرتغالية. ويقف مطولا عند حيثيات وظروف إقامة المهاجرين، إراديا أو قسريا، وطرائف عيشهم، بأرض مسيحية غير مؤهلة آنذاك، بحكم تاريخها السياسي والثقافي، لاستيعاب الغيرية والإختلاف الثقافي والمّلي.
يجيب المؤلف عن كيفية وظروف انتقال وتهجير المغاربة إلى البرتغال في سياق تاريخي موسوم بالاختلالات السياسية والمجاعات والأوبئة والجوائح والنوائب والقحوط، والاقتتالات القبلية المتواصلة والهجوم البرتغالي المتواتر على الثغور المغربية.
يرجع الكاتب تلك الهجرة إلى الأسباب التالية:
1-الأسر الجماعي والقنص من طرف “قناصة” محترفين معروفين “بالحناشة” في المصادر المغربية،
(ولم يخلد ابن مالك إلى الراحة وقتا طويلا. إذ لم تمض إلا أيام معدودة حتى اتفق مع الحاكم على فتح بلدة “تافضنا”. قصدوا البلدة صباحا وأقاموا المراقبة حتى ظهر السكان، عندها خرجوا من مخبئهم وانقضوا عليهم ولاحقوهم ودخلوا البلدة ونهبوا كل شيء، وقتلوا أغلب المسلمين إذ كانوا يدافعون عن أنفسهم، كما أسروا عددا من النساء والأطفال من الجنسين، وكذا بعض الرجال والدواب المختلفة والخيل والأمتعة.)
(-جندي برتغالي مجهول –تاريخ سانتاكروز-أكادير –نص برتغالي من القرن السادس عشر –الترجمة العربية : أحمد صابر –منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية –أكادير-الطبعة الثانية -2007-ص.28).
2-الشراء
(ونظرا للإقبال على الإنسان المغربي، اختصت بعض القبائل بضواحي أكادير، حيث كان العبيد يمثلون أهم سلعة، في اقتناص إخوانهم في الدين وبيعهم للنصارى. وقد أطلعنا احد أفراد الحامية البرتغالية على الطرق المستعملة من لدن تلك القبائل وطريقة البيع بأكادير، كما أشار في رسالته المؤرخة في ماي 1518 إلى أن تجارة الرقيق بذلك الثغر كانت تضمن للملك البرتغالي أهم الأرباح.)
(-أحمد بوشرب- مغاربة في البرتغال خلال القرن السادس عشر –مطبعة فضالة –المحمدية –الطبعة الأولى -1996-ص.31) .
3-بيع الأبناء والنفس إبان مجاعة 1521
(وحيث إنها (=يقصد مدينة المدينة) كانت خاضعة مدة طويلة لملك البرتغال، فإن أخ ملك “فاس” دمرها أثناء رحلته إلى الإقليم، لكنها عمرت مرة ثانية بعد ذلك، غير أن السكان لم يطيقوا صبراً أمام اتساع نفوذ الشرفاء والمجاعة الكبرى لسنة ألف وخمسمائة وإحدى وعشرين، فباع جلّهم أنفسهم وأبناءهم لكسب الخبز بحيث أمست الآن مقفرة.)
(-مارمول كربخال –إفريقيا – ترجمة : احمد التوفيق / محمد حجي / محمد الأخضر –محمد زنيبر / احمد بنجلون-دار نشر المعرفة –الرباط -1989- الجزء الثاني -ص.100)
4-“الاحتماء بالخصم البرتغالي ضد السلطة الحاكمة خصوصا فيما بين 1549(سنة دخول السعديين لـ”فاس عاصمة الوطاسيين) و1578 (سنة وقوع معركة وادي المخازن )،
5-الارتداد و”التنصر” الاضطراري خصوصا إبان مجاعة 1521 ،
يقول دامياو دي كويش ما يلي: (“اجتاحت في عامنا هذا،1521، مجاعة شديدة هذا القسم من إفريقيا؛ كما اجتاحت الجزيرة الإيبيرية، فكانت من الفداحة أن اضطر معها المغاربة سكان “آسفي” و”آزمور” إلى طلب المرور من الملك “دون منويل” للمجيء إلى البرتغال عساهم وقد اعتنقوا المسيحية أن يصيبوا فيها قوتا، وهو ما لم يكن في مقدورهم أن يفعلوه يومئذ في بلدهم بسبب ما كان فيه من قحط شديد…”)
(-برنار روزنبرجي وحميد التريكي – المجاعات والأوبئة –في مغرب القرنيين 16و17-ترجمة : عبد الرحيم حزل –دار الأمان-الرباط –الطبعة الثانية -2010-ص.45).
يمتح المؤلف من وثائق محاكم التفتيش وكتابات الإخباريين البرتغاليين، كما يمتح من مناهل الكتابات العرفانية المغربية، لرسم المشهدية الثقافية والذهنية بمغرب القرن السادس عشر.
لقد انكبّ الباحث على محاضر المحاكمات وكتب الاعترافات وكتب التبليغات وكتب الزيارات ولوائح الحفلات الدينية وقوائم المعتقلين ولوائح المسلمين للقضاء المدني، ليقدم لمحات عن وجود المغاربة بالبرتغال، وظروف عيشهم، ووقائع محاكمة المتنصّرين منهم من قبل محاكم التفتيش.
كما اهتم بكتب التراجم والمناقب، ليقدم لمحات مركزة عن التمثلات والمتصورات الثقافية، الرائجة حينئذ لدى المغاربة. إن الشخصية الثقافية لمغاربة البرتغال، مطبوعة بالعرفانيات، وبالكرامات تحديدا. فهي أكثر ميلا إلى التوفيق بين المناقبيات والمعتقدات الشعبية الألفية، المتواترة على الأرض المغاربية منذ قرون مديدة.
لقد عاش المغرب غبّ الانتصارات البرتغالية المتوالية، وإبان الاقتتالات البيقبلية وتواتر المجاعات والجوائح والآفات الصحية، وحالات” التنصر” الاضطراري ، ما سماه أحمد بوشرب “أزمة ضمير”، قادت المغاربة إلى الغوص، أكثر فأكثر، في المقدس المشخصن وفي التماس العزاء والسلوى والخلاص لدى العرفانيين والصوفية الملامتية وأرباب الأحوال والجذب عموما.
الوضعية الثقافية للمهاجرين /المهجرين :
هل يملك المهاجرون، العبيد والأحرار، الإمكانات الثقافية للاندماج في مجتمع مخالف بالكلية للمجتمع المغربي؟ هل امتلك المتنصّرون الثقافة والوعي اللازمين لإدراك الفوارق الثقافية، بين المجتمع المغربي والمجتمع البرتغالي، والدفاع بالأدلة الناهضة والحجج المدعومة، عن اختيارهم الملّي؟ هل امتلك مغاربة البرتغال القدرة الثقافية على المقارنة والموازنة والمحاججة، أم لا تخرج اختياراتهم عما تميليه العادة وما تفرضه التنشئة الثقافية، وما يمليه الانتماء إلى ذاكرة جماعية مشتركة إجمالا؟
الواقع أن المغرب عاش، إذاك، أزمة ثقافية نتجت عنها “أزمة ضمير”، حسب تعبير أحمد بوشرب. لقد بحث الوعي الثقافي المغربي عن تعليل توالي الاهتزازات السياسية والعسكرية، والجوائح والمجاعات والطواعين والآفات الطبيعية، وانتصارات الخصم العقدي. ثمة اختلال في الموازين لا تستوعبه الذاكرة التاريخية، ولا يستسيغه الوجدان التداولي.
من المؤكد أن الوجدان التداولي، عرف اهتزازات كبرى بتأثير الانقلاب المحدث في مسار المعنى وفي مجرى التاريخ الكوني؛ لقد تمكن البرتغالي، بمجهود ارتكاسي، من اكتساح الفضاءات المحررة من الخطابات الثيولوجية المنسوخة، ومن دفع الذات المغربية إلى إعادة النظر الجذرية في تشكيل وشكلانية الدليل، وفي متانة خطاب يحدد المسارات المتبقية للتاريخ الكوني، وفي مراجعة منطق المعنى ذاته. وهذا ما يفسر التحوّل من مقدس تقني –أدائي إلى مقدس التحامي، ينخرط فيه الناس، بكل طيات وتشققات وانكسارات أجسادهم، وبكل أنسابهم الثقافية بدون فرز ولا تنظير ولا نمذجة صورية. وهذا ما ستتمكن الجزولية المنعشة للشاذلية من تحقيقه.
لم يتمكن البرتغاليون آنذاك من احتلال بعض الثغور فقط (سبتة و طنجة والقصر الصغير ومازغان وأزمور وأسفي وفونتي ..) ، بل نفذوا سياسات اختراقية للعمق الفضائي، وللوعي المغربيين، بدلالة استقطابهم لأشخاص نافذين، قبليا وجهويا (يحيي أو تعفوفت بدكالة ومالك بن داود بسوس .. مثلا) وتشكيلات قبلية.
نقرأ في مشروع المعاهدة بين ملك البرتغال وأهل “أزمور” (1486) ما يلي
(أما بعد فسلام كريم موفور الجلال موقر بالتعظيم والتأثير والأفضال يخص هذا العماد وغاية الاعتقاد مولانا دون جون أرشده الله سلطان برتقال والغربين وكناية الدهبين يقبلون يديكم مع رجليكم الكريمة خدماؤكم الموهوبون إليكم بالنفس والمال والأهل قبيلة بني هنا وخاصتهم وعامتهم وكافتهم وجمهورهم أصحاب مدينة أزمور حفظهم الله وكلاهم وأصلح حالهم ومالهم …)
(-عبد الأحد السبتي وحليمة فرحات – المجتمع الحضري والسلطة بالمغرب –من القرن الخامس عشر حتى الثامن عشر –قضايا ونصوص –دار توبقال للنشر –الدار البيضاء –المغرب –الطبعة الأولى -2007-ص.24)
ثمة جرح نرجسي، تؤججه أحداث دالة، ووقائع فكرية وثقافية عاصفة، بالتوازن العام آنذاك؛ فبعد محاصرة القلاع والحصون والأسوار، انبرى المهاجمون لمحاصرة البيادر نفسها، والتحكم، تاليا، في الحركات والسكنات وفي إيقاع الحياة في المناطق النائية أحيانا.
(-لقد ذكر الإخباري البرتغالي (رودريغش) ، الذي عاش بـ”أصيلا” ودوّن أخبار برتغالييها، أن سكان الهبط أصبحوا بسبب خوفهم من الغارات البرتغالية يقومون بدرس محاصيلهم وهم على ظهور جيادهم تأهبا للفرار .)
(-احمد بوشرب-مغاربة في البرتغال-ص.46) .
لم يملك الحسن الوزان إلا سكب العبرات أمام خرائب و أطلال مدينة “أنفا”، وأن يتحسر على حيوية اقتصادية وثقافية أنهاها البرتغاليون، وأدامها العجز الجماعي عن تحريك التاريخ الراكد. وسكب العبرات، ليس تعبيرا عن تأثر عاطفي يؤججه الوجدان الثقافي المشترك فقط، بل هو تحسر على ماجريات منقطعة، على تواريخ مشروخة، على نرجسية مجروحة، على تاريخ يسير القهقرى، ويغور دوما في دوامة.
(وبقيت أنفا مهجورة خربة إلى الآن. ولما ذهبت إليها لم أستطع إمساك العبرات، لأن معظم البيوت والدكاكين والمساجد ما زالت قائمة، تقدم أطلالها للأنظار مشهدا جديرا بالرثاء. فهناك بساتين خالية استحالت إلى غابات، وما زالت مع ذلك تنتج بعض الفواكه .)
(الحسن الوزان –وصف إفريقيا –-الجزء الأول –ص.197-198) .
وحيث إن العقل الفقهي مرتبط بمقتضات حضارية لازمة لاشتغاله، فإنه سوف، يركن، نسبيا، إلى “الزاوية”، لتتولى الاهتيامات العرفانية والانخطافات والجذبات الملامتية والكرامات الخارقة للعوائد، قيادة الأذهان وإعادة تأثيث المتخيل الجماعي. وحدها الكرامة قادرة على استبيان علائم الوقت واستبار حقائق الحاضر والآتي، وعلى تأنيس الوحشي وترويض الوحشة والوحشية.
وللتمثيل على تمثّلات الوقت، واشتداد أزمة الضمير المشار إليها، نحيل على شاهدين معبّرين عن حاجة المخيلة الجماعية لأشخاص كرزميين ومخلصين، وعن خضوع السلطة السياسية “السعدية” نفسها للسلطة الرمزية لأشخاص ذوي وضعيات شعبية خاصة.
(وهو أحد من خرق الله له العوائد، وقلب له الأعيان، وأظهر على يديه العجائب، وذلل له القلوب، وصرفه في الوجود، وأوقع له الهيبة التامة في الصدور، والوجاهة البهية في العيون، وأقامه حجة وقدوة، وهو أحد أركان “الطريقة الشاذلية”…)
(ابن الموقت المراكشي-السعادة الأبدية –في التعريف بمشاهير الحضرة المراكشية –مراجعة
(ولما تغلب السلطان أو عبد الله محمد الشيخ على “مكناسة” ألحّ بالمطالية لأخذ “فاس”.فجاءه الشيخ أبو الرواين وقال له: اشتر مني فاسا بخمسمائة دينار، فقال له السلطان: ما انزل الله بهذا من سلطان، هذا شيء لم تأتِ به الشريعة، فقال: والله لا دخلتها هذه السنة، فبقي عليه أشهرا والأمر لا يزداد عليه إلا تعصبا، فقال الأمير أبو محمد عبد القادر لأبيه السلطان المذكور: يا أبت افعل ما قاله لك الشيخ أبو الرواين، فإنه رجل مبارك من أولياء الله، وما زال به كذلك حتى أذن له في الكلام معه، فكلمه الأمير عبد القادر فقال: ادفع المال. فدفعه له، فقال له: عند تمام السنة يقضي الله الحاجة، وأمري بأمر الله سبحانه.)
(-ابن عسكر الشفشاوني –دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر – تحقيق : محمد حجي –منشورات مركز التراث الثقافي المغربي – الدار البيضاء –الطبعة الثالثة -2003-ص.74)
وهكذا تستدعي وضعية سياسية-ايكولوجية استثنائية أشخاصا استثنائيين، قادرين بحكم التحامهم العميق بالبنيات العميقة للمتخيل المغربي، على التجاوب والاستجابة لانتظارات أناس مهددين في وجودهم البيولوجي بدءا، وفي وجودهم الثقافي والاجتماعي تاليا. ليس مستغربا أن يتراجع الدليل الفقهي أو الكلامي إلى الخلف، لتكتسح الكرامة لا أنماط الكتابة فقط، بل أنماط القداسة وطرق صياغة الجسد الطقوسي بالتحديد.
ولما امتلك الصوفية هذه الحظوة غير المسبوقة في تاريخ المغرب، فمن الضروري أن تتراجع أسهم الفقهاء الكلاسيكيين، في بورصة الثقافة الشعبية، وفي التأثير في ماجريات الحياة العمومية. لا يملك الوعي الشعبي أمام أزمة المعنى، وانقلاب المعايير، وغياب بداهة ثقافة ثابتة في دوامات عصر انتقالي، إلا الاحتماء بامتلاء العلامة الصوفية، والانتظام في سلك الطرق، والانخراط في “الزوايا”.
وضعية المغاربة بالبرتغال:
قدم أحمد بوشرب توصيفا ضافيا لعيش المغاربة في البرتغال، في ذلك المنعطف التاريخي، المطبوع بالتذبذبات والاهتزازات، وغياب الاتساق، اجتماعيا وسياسيا. من المؤكد أن البرتغال ، لم يستوفِ شروط الاستقبال ولا مقتضيات التوطين والإدماج. فبقي الكثير من المهاجرين والمهجرين خارج دورة الإنتاج، وبقوا على التخوم، يتدبرون المعيش ويعدون العدة للفرار إلى المغارب. واضطر من لم يتنصّروا بعد إلى “التنصر” لضمان اندماج اجتماعي واقتصادي وثقافي مقبول في مجتمع كاثوليكي محافظ ثقافيا. وبدلا من أن يمكّنهم التنصر من تحقيق الحظوة الاجتماعية، فإنه أوقعهم في اشتباكات مضمرة أو معلنة، خفية أو بارزة، مع وعيهم بذواتهم وبتواريخهم الملية والثقافية ومع الوجدان الكاثوليكي المطالب بالاجتياف الكلي، والاستبدان التام، للفداء اليسوعي. وحيث إن التنصّر لم يكن نتيجة لمسارٍ مساري كثيف أو لتجارب قدسانية من النمط “البولُسي”، أو لاهتيامات “أسيزية”، فإنه اتّصف، في الأكثر، بسماتِ التكيف الإضطراري مع واقع طارد عقديا وثقافيا، وصادّ عن الاندماج الفعلي في أغلب الحالات.
فقد قارن المتنصرون بين مصير العلوج ومصيرهم، ولاحظوا الفوارق الكبرى في وضعيات المتحولين، عقديا، في الجهتين . ومن الجدير بالذكر أن الأسلمة اقترنت بالعناية وبالتقريب من مواقع النفوذ، محليا وجهويا، في مجتمع جاذب عقديا مثل مغرب القرن السادس عشر، وراغب دوماً في تعزيز مواقعه في حروب الرمزيات. ويكفي تأمل حظوة مؤمن العلج الجنوي ،وتبوئه مكانة اجتماعية ماتعة في الأوان “السعدي” الأول ليكشف عن الفروق الاجتماعية والثقافية والرأسمال الرمزي الخاص بنتائج الاستقطابات الملية في الجهتين.
حاول مسلم ويهودي مغربيان متنصران إقناع مهاجر يفكر في التنصّر الاضطراري بالاحتفاظ بمعتقده الأصلي، بعرض الحجج التالية:
“لقد أتيتم إلى هنا لتتنصّروا، وسمعتم أن هذه البلاد لا تختلف عن بلاد المسلمين. فهناك، حينما يريد مسيحي اعتناق الإسلام يعطونه الخيل ويخصونه بالمعاش، كما أن البلاد شاسعة وكل شيء متوفر بها ورخيص، أما هنا، فستموتون جوعا وسيسيئون معاملتكم وسيجلدونكم، لماذا تركتم بلادكم؟ إن بلادكم أفضل من بلاد النصارى، كما أن دينكم أسمى من دينهم”
(-أحمد بوشرب-مغاربة البرتغال خلال القرن السادس عشر –ص.127).
عاش المتنصرون المغاربة بين تنصّر برّاني شكلاني وإسلام ثقافي مغروس في التقاليد العرفانية، وفي تاريخ امتزاج الشريعة بالعرف أولا، وبالحقيقة ثانيا. من البديهي أن يكون التنصر المفروض، هنا، آلية للتكيف الحذر والتكتيكي مع مجتمع يقظ، ومنافح عن طهرانية الخطاب الكاثوليكي. وهكذا عاش الكثيرون بين طقوسية برّانية مفعلة ومعلنة، وطقوسية جوانية مبطنة ومفعلة في الحدود الدنيا. وكل خرق لهذا التوزع يؤوّل اجتماعيا كقرينة أو مؤشر دال على تكتيكية التنصّر المعلن، والارتباط الوجداني بالرحم الأولى. من الضروري، في وضعيات الترصد، سد منافذ اللاوعي الثقافي والتحكم في الانفعالات الفردية والجماعية ، وضبط إيقاع المجموعة الإثنية أو الملية، حتى لا يتسرب المكبوت الثقافي ويعلن عن المخفي. وتلك تجارب عاشها الموريسكيون الإسبان بكثير من المعاناة والقلق الوجودي.
التهم المنسوبة إلى المتنصرين :
لقد تعددت التهم المنسوبة إلى المهاجرين المغاربة المتنصرين والى بعض من سمّتهم وثائق محاكم التفتيش بمسلمي الشارة، نذكر منها ما يلي:
1- تدبير الفرار إلى المغرب،
2-وضع الطعام على الأرض مباشرة لا على الطاولة،
3-النوم على الجانب الأيمن ،
4-عدم اختلاط الرجال والنساء أثناء الأكل ،
5-ترديد الشهادة و البسملة والحمدلة ،
6-بكاء الموتى على الطريقة المغربية ،
7-تقديم “الكسكس” صدقة للترحم على الزوج المتوفى،
8-القسَم بالأولياء وخصوصا بأبي العباس السبتي ،
9-تناول اللحم خلال الصوم المسيحي ،
10-السخرية من القربان المقدس ومن الصليب والكنائس ،
11-استعمال اليد بدل الملعقة في أكل الكسكس ،
12-التصدق بالخبز والتين المجفف ،
13-“الدماع”أي النواح على الموتى ،
14-تقديم الكسكس في العقائق والأفراح ،
15-جمع دم الذبيحة ،
16-استعمال مائدة قصيرة الأرجل ،
17- محاكمة سوداني بتهمة مسح الذكر بعد التبول ،
18-اللواط والعلاقات المثلية،
19- احتراف السحر والشعوذة.
التداخل بين العقدي والثقافي :
اختلط الانتساب النحلي والثقافي لدى المتنصرين المُصرّين رغم وضعهم الثقافي الصعب على الاحتفاظ بانتساب وطاني. لقد نسب المحققون التفتيشيون البرتغاليون والمتنصرون المتهمون مثلا الأكل الطقوسي للكسكس في مناسبات الوفيات أو الحفلات الجماعية، إلى الملّة، علما أن ذلك وليد التقاليد الثقافية بالمغارب.
(لذا كان ذلك الارتباط عاطفيا، وعلى مستوى النوايا فقط. وبالفعل، تنص المصادر على رغبة كل المتنصرين في العيش في كنف الإسلام، والموت وهم مسلمون. وبما أنه كان يتعذر عليهم القيام بالفرائض، فإنهم اقتصروا على الشهادة. فنادرا ما نجد ضمن ما وصلنا من اعترافات أفعالا ذات طابع ديني محض، إذ كانت في الحقيقة مواقف مرتبطة بهوية ثقافية معينة، وبنمط عيش اكتسب في مسقط الرأس.)
(-أحمد بوشرب-مغاربة البرتغال خلال القرن السادس عشر –ص.208).
لا يميز المحققون التفتيشيون بين أصوليات المعتقد والتكييف الثقافي المحلي لتلك الأصوليات، بقدر ما يهتمون برصد مؤشرات الانتماء الشعوري واللاشعوري للآخر. التنصر من منظور المحققين التفتيشيين، تحويل كلي، وقطيعة مع التنشئة والجذور. وعليه، فكل استعمال أنثروبولوجي للجسد، لا يساوق الأنثروبولوجيا المسيحية، فهو قرينة إدانة للمتنصّر.
واجه المتنصرون المغاربة في البرتغال مسيحيةً لا يعرفون عنها حتى الأوليات (الوصايا العشر و”صلاة الأبانا” (الصلاة الربية) وصلاة “السلام عليك يا مريم” وصلاة “السلام عليك يا سلطانة”)أحيانا؛ كما لا يملكون معارف معمقة في النحلة الأصلية، عكس المورسكيين الإسبان. ليس غريبا أن يتشبع الوعي الملي لدى بعضهم بمعطيات ثقافية جهوية وثقافية خاصة مثل الإيمان بالأوليائية (أبو العباس السبتي) وبالخوارقية (عزوِ قدرات اشفائية للمساجد) والسحرانية والطقوسانية (التركيز على المشقة النفسية والجسدية في الطقوس).
لقد اضطر المغاربة المأسورون أو اللاجئون لأسباب سياسية أو اجتماعية أو جنائية أو إيكولوجية إلى الأندلس للتنصر خصوصا بعد أن فرض “دون أمنويل” ذلك سنة 1496. إلا أنهم لم ينجحوا في الاندماج الثقافي، في المجتمع البرتغالي إذاك، لعدم تأهلهم المعرفي واللغوي والاجتماعي لفهم حقائق المجتمع البرتغالي، ولعدم امتلاكهم لوعي ومعارف نحلية، لتأمل الجسور الصعبة بين الملتين بمعرفة ودراية. فقد تنصّروا أملا في حياة ميسرة، وفي اندماج سوسيو-اقتصادي، في مجتمع برتغالي محدود الموارد الفلاحية والطاقات والمداخيل، ومعرّض لاستقطابات طبقية وثقافية قوية في عصر الاستقطابات الدينية الحادة بين الكاثوليك والبروتستانت. فبدلا من أن يكون التنصر معبراً للانفكاك من حياة الأسر والفقر والاستغلال والعبودية، صار معبرا للإقصاء من قبل الشركاء الثقافيين الأصليين ومن قبل المجتمع المسيحي الرافض أصلا للمسيحيين المحدثين. وقد أشار كثير، منهم إلى الفوارق بين مصائر المتنصرين المغاربة ومصائر العلوج البرتغاليين والجنويين والقشتاليين بالمغارب إذاك.
صدرت التهم الموجهة للمغاربة المتنصرين عن عين أنثروبولوجية لاقطة لحركات وسكنات الأجساد وهي تمارس بتلقائية، السلوكات المستبدنة، وتفصح عن موروثاتها الثقافية وعن انتسابها إلى ذاكرة وتواريخ. لا ترى العين المتلصصة البداهة فيما يحسبه المتنصر بداهة. فالبديهي في ثقافة هو عين النسبي والعرضي في ثقافة أخرى أحيانا. وعليه، فوضعه الخبز على الطاولة على نحو مخصوص، ومسح الذكر بعد التبول، والنوم على الجانب الأيمن، والرقص والغناء وطريقة البكاء، و إعداد واكل الأطباق المغربية، مما لا تفوته العين التفتيشية الساهرة على تحديد الفوارق، والمخالفات. فكل تعبير جماعي محمول على الهرطقة، ولو كان غناء ورقصا وولائم جماعية أو بكاء وندبا و نياحة على الموتى. لا يقبل المحققون التفتيشيون إلا بقلبٍ كلي للمعادلة، تتغير بموجبه حركات الجسد، وتتغير، كليا، علائق الفرد بالأشياء والكلمات والآخرين.
فالمحقق التفتيشي “سيمائي” خبير في تبع مسارات الدوال وخطة وإستراتيجية التدليل، وفي استقراء تشكلات المعنى وانبثاقه من بين الشقوق والخروم والانفراجات.
مما لا شك فيه إذن أن للتناول الطقوسي للكسكس، وظيفية قدسانية، تتعدى الوظيفة التقليدية للأكل؛ فتناول الكسكس باليد ووفق وضعيات جسدية محددة ليس مما تخفى دلالته على محققين متتبعين بدقة، تفتيشية، لكل قرينة أو إشارة، ناطقة بالمخفي وبمحتوى السريرة. ثمة صراع بين الأغذية المقدسة، بين الكسكس والقربان المقدس، تعبر عنه صكوك الاتهام، ولا تخفيه الاعترافات.
من البديهي إذن، أن يستهدف التبليغ عن الأقرباء والأصدقاء، كسر العلائق الجماعية، وعزل الفرد عن الجماعة الملية الأصلية وعن كل مثيرات المتخيل والذاكرة الجماعية.
لقد أدرك الوعي التفتيشي آليات تمفصل العقدي والثقافي، و حث، مداورة أو مباشرة، على إدارة نحلية برتغالية للجسد وتحويل وجهته الثقافية على نحو كلي.
يهتم المحقق التفتيشي بتعقب الروابط الجماعية باعتبارها آليات لاستعادة الفرائض الغائبة، واللحمة الإثنية المفتقدة، في إثر الأسر والاستعباد والعزل الثقافي. يطلب المحقق التفتيشي، من المتنصّر، إدراك معنى الرموز، والطقوس والمعتقدات، وتشرّب كل ذلك، بما يفضي إلى انتساب مِلّي جديد والى انخراط في تاريخ آخر. وهذا ما يرفضه أناس حُرموا من مواطنهم الأصلية ومن ثقافتهم التداولية، ومن هناءة “مسقط الرأس” وبساطة العيش في أوساط “منسجمة”، ثقافيا ومِلّيا.
رغم أن محاكم التفتيش البرتغالية كانت أقل عنقا واحتدادا من نظيرتها الإسبانية، فإن المعتقلين كانوا يخشون مِحَن السجن المؤبد ولبس لباس التوبة والإثقال بالسلاسل والعمل بالسفن الحربية أو الإحالة على القضاء المدني أي الإعدام(خمس حالات).
يؤكد أحمد بوشرب أن محاكم لشبونة ويابرة وكوينبرة، أظهرت نوعا من التساهل، ومالت في الأكثر إلى العفو وعدم تطويل آجال المحاكمات .
قصارى القول أن تنصّر الرحل المأسورين وبعض الأعيان الوطاسيين والسعديين، لم يمكّنهم من التفاعل الايجابي، ولا الاشتباك الضدي الفاعل، مع مجتمع برتغالي، متفاوت السرعات الثقافية والحضارية، وخاضع، دوما، لمفاعيل التفاعلات الجيو-بوليتيكية، والاختلاجات العقدية الحادة، في عصر الاحتجاج البروتستانتي وبروز القوة العثمانية. ولذلك، عاشوا، في الأكثر، موزّعين بين مجتمع يحقق الحق الأدنى البيولوجي، ويطالب بالحد الأعلى الملي، وبين آمال عريضة في إنقاذٍ يتم بالعودة، مجددا، إلى “مسقط الرأس” إثر انتصار وتحرير عثمانيين أو سعديين أو بفعل “مساعدة” من تاجر برتغالي، يهمه العائد المادي أكثر مما يهمه العائد النحلي.!
–المغرب
يرجو “الشفاف” من الأستاذ ابراهيم أزروال الإتصال على الإيميل التالي: pierreakel@gmail.com
“مغاربة أمام محاكم التفتيش البرتغالية”: قراءة في أطروحة أحمد بوشرب (مع النص الكامل)
ولكن، أين نص الأطروحة؟!؟