ثمة خيط غليظ يجمع شعارات المشاريع والاجندات «المقاوِمة». خيط هو من صميم جهازها الايديولوجي الجاذب والقامع في آن. ولا يختلف، الا في الوجهة المعتمدة، عن اجهزة التحكّم الايديولوجي التي تتميّز بها أنظمة الحكم المستهدفة من قبل اصحاب هذه المشاريع. ولا حرَج هنا إن كان خلف هذه الشعارات والاجندات «المقاوِمة» أنظمة حكم بعينها تقود وتدعم مجموعات واحزاب شقيقة «معارِضة» لأنظمة بلادها، يؤخذ عليها ما تأخذه على انظمة الحكم التي تعاديها. الحرَج هنا مرفوع، خصوصا هنا، في منطقتنا المعتادة على لعبة الحق والقوة وعلى مهارة المتلاعبين بهما.
اذاً الخيط الغليط الآن. ما الذي يجمع منظمات «المقاومة» واحزابها وشخصياتها وإعلامييها ومثقفيها وجمهورها المسنود بـ«دولها»؟ وفي ثلاثة مواقف محصورة؟
الموقف من خلية «حزب الله» في مصر؟ الموقف من محاكمة قتلة رفيق الحريري والنظام السوداني على جرائمه بحق اهالي دارفور؟ الموقف من دولتهم، دولة بلادهم، والتي «يعارضونها» بطبيعة الحال، نظرا لتعارض سياستها مع سياسة الدولة الداعمة لهم؟
في الموقف الاول، تقوم محاجّة «المقاومين» المؤيدين لنشاط الخلية التابعة للحزب اللبناني، على فكرة ان «سيادة» مصر وحرمة أراضيها وقوانينها وعهودها واتفاقاتها (كامب دافيد)… كلها ناقصة. وما النشاط «اللوجستي» الذي شرعت به الخلية «المقاوِمة» في الاراضي المصرية الا نقطة في بحر الاتفاقات الامنية غير المرضْية والاملاءات الاميركية والضغوط الاسرائيلية والعصابات المتنوعة ورجال الاعمال المبرّئين الخ. نقصان السيادة والاستقلال هي الحجة التي يقوم عليها النشاط «المقاوم» على الاراضي المصرية. سيادة منقوصة؟ اذاً فلننتهكها، فلنخترق حدودها، ولنهدّد امنها واستقرارها… لعلنا بذلك ننال السيادة المطلقة.
في الموقف الثاني، نفس الموّال. «المقاومون» وموقفهم من التضامن مع عمر البشير ومن قتلة رفيق الحريري، المجرمون الكبار مفلتون من القصاص. هناك أولمرت وليفني وبوش، والمجازر والتعذيب والفضائح الانسانية…، نحاكم البشير إذاً قبل محاكمة هؤلاء؟ لا طبعا. طالما ان المجرمين الكبار احرار من المحاسبة، فبأي منطق نحاسب الصغار، خاصة اذا كانوا من معسكر «المقاومين»؟
في الموقف الثالث اخيرا: الدولة القائمة الآن، «النظام العربي» بكلمات اخرى، عفنة، مهترئة، فاسدة ومستبدة. فلنقضِ اذاً على هذه الدولة. فلنشلّ مؤسساتها، وننخر هيبتها، ولنعطّل القليل المتبقّي من ايجابياتها، فلنضعْضع أسسها ومنظومتها الاخلاقية او المواثيق الدستورية التي تقوم عليها، ونصرخ بعد ذلك «دولة غير شرعية!». ولنخلق دويلة داخل هذه الدولة، دويلة قوانينها خاصة، غير قوانين الدولة؛ وليتربَّ جيل بأكمله على كراهيتها الخ. لعلنا نقيم بعد ذلك الدولة المثالية.
الذي يجمع بين هذه المواقف الثلاثة هو المطلق. اذا لم تكن السيادة مطلقة، فلنقض عليها. واذا لم تكن العدالة مطلقة فلنحبطها. واذا كانت الدولة غير مثالية، فلنزعْزعها. والفكر المطلق الذي تستمد منه هذه المواقف دعامتها «النظرية» الخلفية، فكر غيبي، قبْلي، ما قبل حداثي، غير مطابق للواقع، متجاهل للقفزة النوعية التي حققتها البشرية عندما أعْملت عقلها، فاكتشف قانونا جديدا، اسمه النسبية. ومن بنات النسبية هذه، الديموقراطية، التي تعرّف نفسها بأنها النظام السياسي الاقل سوءاً الذي عرفته الانسانية. النظام الذي لا «جنة» فيه، ولا كمالا كاملا مطلقا؛ بل هو حث حثيث على مواصلة العمل من أجل تحسين النظام.
والمشكلة ان هذا «المطلق» المسخّر للجهاز الايديولوجي «المقاوِم»، ليس قابلا للتصديق. فلا احد يظن او يتخيّل ان عدالة مطلقة او سيادة مطلقة او دولة مثالية سوف تكون من نصيبنا على هذه الارض. إلا اذا تغلبت إرادة التصديق على إرادة السؤال. وهذا وجه من أوجه الايديولوجيا، في اكثر اوضاعها فجاجة… ولا احد يصدّق، أيضا، بأن خلف هذا التذرّع بالمطلق، هناك تعفّف «مقاوِم» عن التعامل مع النسبي، او من «البرغماتية»، كما تُغلّف الأمور بأناقة، سواء كنا بصدد «المسؤولين» و»القادة» المنتمين الى المعسكر المقاوِم، او بصدد «المواطن» البسيط. فالطرفان يخطبان بالمطلق ويتصرفان بالنسبي، فيخطئان، لكثرة الغرور، في تقدير مهاترات التاريخ، ويغرقان في لعبة مدوّخة من القفز بين المطلق والنسبي. والنتيجة ما نراه امام اعيننا. ديناميكية سياسية حادة غالبا، لكنها عقيمة وتدميرية ومن غير طائل الا المزيد من الخوض فيها. يسمونها «حراكا سياسيا»، للتأنق ربما ايضا هنا.
الخيط الغليظ ايضا يربط قادة ومنظري «المقاومين»، المحروسين بـ«كاريزما» القائد وجماهير القاعدة الشعبية المفْتونة به. مطلق ملعوب، ونسبي متخبّط، لا يعرف أين البوصلة بالرغم من الايمان والتشدّد والمحافظة…
انه الفصام العربي المعهود. وابرز تمثلاته علاقة العرب بهذا العالم، وبالغرب تحديداً. من جهة إجماع على نبذ هذا الغرب ونبذ تفوقه وتوكيد هيمنته وانحلاله وعنصريته وتكبّره و«فشله»، خصوصا الروحي والفني والاخلاقي والسياسي… بإسم تصورات مبْهمة مثالية كلها مطلقة وغير ممكنة في اي تاريخ، حتى «الذهبي» منه… تصورات يدعي صاحبها انه يملكها في جعبته، ويكفي لكي يخرجها منها ان يطرح الغرب ارضاً. ومن جهة اخرى: التفاوض مع هذا الغرب سراً، والاعجاب به سراً، والاستشهاد باعلامه للتثبّت من حقائق ملتبسة، ومحاكاة فنونه البصرية والاعلامية كلها… ناهيك عن الهروب اليه سراً، وعلانـية اذا امكن… واستخدام كل انجازاته التكنولوجية الهائلة. وهو في هذا غير آبه، غير منتبه الى التعارض الصارخ بين مطْلقاته الاولية، المقدسة المثبتة، وبين إرتباكه الفادح في نسبيته المعيوشة المشوّشة. فبأي سلاح، في هذه الحالة، يقاوم «المقاومون» مشاريع الامبريالية والصهيونية؟ والنظرية عندهم بهذه البلادة والفوضى؟ اية دولة او عدالة او سيادة تقوم على أيديهم؟
*كاتبة لبنانية- القاهرة
dalal.elbizri@gmail.com