(…) يقارن المصريون بين أفلام اليوم وأفلام الأبيض والأسود، بل بين الأبيض والأسود وواقعهم المخيِّب. كانت بلاداً سعيدة، يقولون، وذات كبرياء وجمال ونظافة وأخلاق. نعم أخلاق، شفافية ودفء وورع؛ من دون فتاوى ولا دعاة ولا وعَّاظ يحتلون صدارة التثقيف الجماهيري. والآن انظر… اللائحة السوداء. يقولون ما لا تكتبه أقلامهم، عن العيب الذي نال منهم، من مظهرهم، الذي أصابهم في الصميم، في دواخلهم، في تصورهم لأنفسهم، لأحبائهم، لأهلهم، لأصدقائهم وجيرانهم وزملائهم وخصومهم.
وما أفلام الأبيض والأسود إلا برهان على أن ما هم عليه الآن ليس سوى ظرف طارئ، دخيل عليهم، أقوى من مسؤوليتهم المباشرة… يواسون أنفسهم، أو هكذا يحبُّون أن يعتقدوا.
اتخاذ السينما مرجعاً ليس من باب الصدف. في مصر، السينما والحياة تكادان أن تكونا شيئاً واحداً. السينما في الحياة أولاً: هي، الحياة، كالمشهد السينمائي، أو الدرامي التلفزيوني. وهذا الانطباع القوي ليس ناجماً عن الإمبريالية السينمائية التي ظلت مصر تمارسها طوال قرن على العالم العربي، فكانت نتيجتها أنَّ أي عربي يطأ أرضها يظن نفسه داخل فيلم عربي: باللهجة المحبَّبة، بالسحنة السمراء، بالردود وصيغ الكلام، بالملامح الراسخة وحركة الجسد، الملتوية غالباً. لكن الإمبريالية السينمائية، أو هيمنتها على «وجداننا»… لا تكفي لتفسير سينمائية الحياة المصرية. هناك شيء آخر، أصله عالم الإشارات والمعاني غير المُصاغة، غير الشائعة، تستنبطه أو تفترضه من الحدْس والإحساس، لا يحتاج إدراكه إلى الأرقام أو الجداول.
من أين هذه السينمائية إذاً؟
الديكور الوافر بداية، ورماله المتحركة: القاهرة كلها مسكونة بالتواريخ، بالنُّصب، بالمباني، بالمتاحف. والعشوائيات صاحبة الشخصية الحجرية الحمراء التي بوسعك أن تراها من السيارة وأنت خارج من العاصمة، تلفُّ القاهرة وكل آثارها، ولا تتوقف عن النمو والتوسع. أنت في مدينة تتحرك من دون هوادة. النيل يسكنه أناس في قوارب، يولد بداخلها أطفال يكوِّنون عائلة بعينها. الذين يتنزهون على أطرافه، أو يضعون الكراسي على جسوره لالتقاط النسمات، قادمون من الأحياء الفقيرة. النظر إلى النيل يقتصر على أعالي العمارات، القديمة والجديدة، التي ترتفع فوق هذه الأطراف. جيران الآثار الفرعونية والفاطمية لا ينتمون إلى طبقات رفيعة؛ غالبيتهم استوطنوا الأطراف القريبة لهذه الآثار، بنوا ما تيسر أو تسمَّروا في عماراتهم القديمة القليلة. جيران الموتى القدماء.
العمارات فضيحة يومية، يسقط الجديد منها والقديم على حد سواء: لهما من الإهمال والفساد حصة الأسد. حقاً عليك أن تستمع إلى صدى التاريخ في هذه المدينة العريقة، الضاجة بالتاريخ، عليك أن تحمي خيالك من واقعها، وملاذ هذا الخيال هو السينما. حتى المدن الصحراوية الجديدة، الهاربة من استعصاء مشاكل القاهرة، لا تفلت من هذا المصير. هذه المدن، أيضاً، لتبتلعها، عليك اللجوء إلى بَصرية السينما الجديدة؛ بكل مشهدية ترتيبها وتوزُّع مبانيها ومُولاتها ومدارسها ومستشفياتها، وبملامح سكانها المرتقين إلى فئة محظوظة.
إذاً أنت داخل خشبة، لا تزال شواهدها قائمة، وإن كانت آيلة إلى السقوط، ولا تزال القصص تتوالد فيها وتسجِّل بصماتها. وهذه الخشبة، فوق ذلك، ليست بالبهاء ولا الجمال الذي عُرف عنها في القِدَم؛ البشاعة مركز صدارتها، البشاعة العملاقة، تتدثَّر بها الروح، وتحفر في بواطن العمران. والرغبة بالهروب من هاتين البشاعتين تحضر في هذا الفضاء المتمادي المحاط بالوقائع الدراماتيكية وشواهدها، وبالخيارات المتعددة التي تتيحها. هذه الخيارات الخيالية هي الإطار الوحيد لممارسة حرية ليست متوافرة مكوناتها في الواقع «غير السينمائي»، لا الحرية السياسية ولا الحرية الاجتماعية.
إنه ميل جماهيري وليس خياراً فردياً، قائماً على إجماع ضمني. بطء الحركة المصرية، المنسوب أحياناً إلى الصبر المصري الصميمي، هو من ضمن المكوِّنات السينمائية بامتياز.
المصريون أصحاب وتيرة سينمائية بطيئة، في كل شيء تقريباً: العمل، التنقُّل، الأجندات، التفاعلات، الإجراءات. يؤطِّر هذا البطءَ نظامٌ من المعاملات والألفاظ لا يمكن الإفلات منه: صيغ التهذيب وعبارات المجاملات الجاهزة والطويلة، صيغ الإطراء المبالغ بها، الألقاب التي تطول كلما ارتقى الشخص في سلم الهرمية، وصْلات الكلام المكررة، ردِّيات المشاجرات المعروفة سلفاً.
هذا التأطير للعلاقات الإنسانية قد يكون استجابةً لنظام حضاري اجتماعي يحمي الأفراد من ضخامة الصحراء وعشوائياتها. لكنه في الآن عينه يوحي لك بأنك أمام أقوال محفوظة، جاهزة، ليس على المتفوِّه بها غير إلقائها، ونادراً ما ينساها في لحظة غضب، أو ينجرُّ إلى هوى، فيخرج عن نصها الأصلي. فحتى الحالات القصوى، مثل الغضب أو الهوى أو الشك، تحضر أقولها وألفاظها. كل هذه الجهوزية اللفظية تحيلك إلى الافتعال السينمائي. سينما نعم، لكنها لا تعود تشدُّ انتباهك، كما تفعل سينما الإيطالية في الثمانينات، مثلاً، التي انكبت على البشاعة بأوجهها.
لماذا؟
ببساطة، لا يبدو أحد مقتنعاً بالدور الذي أوجد بداخله، يلقي كلماته، أو بالموقف نفسه، أو بالديكور الذي يحيط به. فالحرية هذه محدودة، مضجرة، ولكن لا يوجد غيرها. الأدوار قليلة، حتى البطولات الاستثنائية لا تبدو ناجمة عن حرية، بل هي من صناعة القدر. أنت أمام سينما، صحيح، ولكن سينما لم تُرضِ لا الأبطال الكبار ولا الثانويين. الجميع يقوم بدور لكن ليس الدور المأمول، إنه الدور المتوفِّر، الذي وُجد صاحبه فيه بقرار ليس قراره.
هل تكون مشكلة المصريين الفردية مشكلة اعتراف؟ اعتراف بطاقات كل واحد منهم الكامنة، طموحاته، تطلعاته؟ ربما. لكن الواضح من المشهد أنه حتى الذين يُفترض بهم الرضى بالاعتراف إنما يقدِّمون مشهداً سينمائياً بامتياز. قد لا يقنعنا، مثلما لا تقنعنا الأفلام، لأنه ربما، أيضاً، هو نفسه لا يرى أنه يستحق هذا الاعتراف عن جدارة، بل عن صدفة أو حظ؛ ما يزيد من دراماتيكية المشهد، ويطرح على السينما مهمة تَطابقها مع الواقع، أو ترجمته ترجمة حرفية (…).
السينما تقوم بهذه الترجمة، تنقل الواقع من دون أن تكون واقعية، من دون أن تقنعنا بالأدوار التي توزعها على الأبطال؛ فالسينما تغازل الواقع، حتى في الأفلام التي تود أن تكون «صادمة» أو «ناطقة باسم المهمَّشين»، أو «خادشة للحياء». كأن هناك اتفاقاً ضمنياً بين المخرج والجمهور بأن ما يعرضه عليه هو الحياة السينمائية التي يخوض بها في يومياته، بصفته يقوم بـ «تمثيل» حياته. فالجمهور هو الرقيب القوي، أقوى من الرقابة الرسمية التي يضيق بها السينمائيون، ولا يملُّون من استنكار تدخلاتها، من دون أن ينطقوا بكلمة عن الرقيب الأقوى، الجمهور، الزبون. يريد أن يشاهد ما يرضي تطلعاته السينمائية في الحياة الواقعية. لذلك لا انفصال بين وقائع الحياة والوقائع الدراماتيكية. الإسلاميون يعاملون هذه الأخيرة كأنها اعتداء على الواقع. لكن غيرهم يتماهى مع الدراما السينمائية. ما إن يمثِّل بطل دوراً حتى يكنَّى باللقب الذي حمله في الشريط: الزعيم عادل إمام، الدكتورة يسرا، المفتي نور الشريف، الشيخ حسن يوسف، عالمة الذرة ريهام عبد الغفور… يجدون نظراء لهم في الحياة، زعماء ودكتورات ومفتين وشيوخاً وعالمات ذرَّة… يقلدون تعبيرات أبطالهم ويقتربون من سحناتهم ويتبنَّون أناقتهم. والأبطال الثانويون لهم أيضاً أشباههم في الحياة. ولعل شخصية «الغلبان»، المسكين، أكثر الشخصيات شيوعاً: تراه هو نفسه في السينما، وأيضاً في الحياة، شرط أن يعتمد ملامحه الحزينة وانحناءاته واسترساله في المجاملات غير اللازمة، وبطبيعة الحال، نزاهته. بعض «الغلابة» الذين عرفتهم أتقنوا المحاكاة السينمائية إلى حد كبير: وبهذه المحاكاة تمكنوا من أن يُخفوا الجانب القاتم من الغلْبنة، كما تخفيه الأفلام: المداورة، التحبُّب، التلاعب بالمشاعر، الكلام المعسول.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل
[عن دار الساقي صدر حديثاً كتاب جديد للزميلة دلال البزري بعنوان «مصر التي في خاطري». السطور أعلاه من الفصل الأول من الكتاب.