لماذا لم يحدث في ليبيا ما حدث في مصر وتونس؟
لأن لكل بلد خصوصيته الاجتماعية والسياسية. ومصدر الخصوصية الليبية أن لا وجود لقوّة موّحدة تستطيع حسم الصراع أولا، وأن حساسية النخبة العائلية الحاكمة في طرابلس إزاء صورتها في الشارع الليبي نفسه، وفي العالم، تختلف عن مثيلتها في مصر وتونس ثانيا.
في مصر وتونس سقط رأس النظام لأن الجيش رفض الاصطفاف إلى جانبه، ولأن النخبة الحاكمة تتأثر بالضغوط الداخلية والخارجية. أما الوضع في ليبيا فمختلف تماما. لا وجود لمؤسسة الجيش، الذي تم تفكيكه على مدار العقدين الماضيين، فتحوّل إلى وحدات لا تخضع لقيادة موّحدة، بل تتلقى أوامرها من أبناء الحاكم وأقاربه. وبالقدر نفسه فإن الضغوط الحقيقية التي تؤثر على النخبة الحاكمة هي الخارجية، بينما لا تحظى الضغوط الداخلية بالاعتراف، وإن كانت مرشحة للمساومة.
قيل الكثير من الكلام على مدار الأسبوعين الماضيين عن الحاكم الليبي وغرابة أطواره، وممارساته الهزلية، حتى أن بعض الفضائيات استعانت بخبراء في علم النفس لتحليل شخصية العقيد.
والواقع أن غرابة الأطوار، والممارسات الهزلية، وجنون العظمة، حتى وإن كانت صحيحة، إلا أنها تفسر جانبا من سلوكه، لكنها تظل ناقصة ما لم نضع في الاعتبار حقيقة أن العقيد يتكلّم بطريقة، ويمارس الحسابات السياسية بطريقة أخرى، وفي حالات كثيرة على طرف نقيض من ممارساته البلاغية وتصرفاته الهزلية، وثيابه الغريبة، وحارساته الفاتنات، وخيمته البدوية.
بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، مثلا، وعندما كشّرت الولايات المتحدة عن أنيابها، وأعلنت الحرب على الإرهاب، كان العقيد القذافي أوّل حاكم عربي يحاول الاتصال بالأميركيين لتقديم براءة الذمة، وعرض الخدمات. وفي هذا السياق جرى ترتيب لقاء بين مبعوث له وأحد كبار المسؤولين في وكالة الاستخبارات الأميركية.
جرى اللقاء في لندن، وأشرف على ترتيبه الأمير بندر بن سلطان، السفير السعودي في واشنطن. وقد حضر مبعوث القذافي، واسمه موسى كوسا، متأبطا ملفاً يضم معلومات لدى أجهزة الأمن الليبية عن بعض المشبوهين وشخصيات تربطها صلات معيّنة بتنظيمات الإسلام السياسي والقاعدة. كانت معلومات الليبيين مفيدة في نظر الأميركيين، لكنها لم تكن كافية. فقد طلبوا من مبعوث العقيد تفكيك البرنامج النووي الليبي.
ومبرر هذا الطلب أن الأميركيين تملكهم الذعر بعد الحادي عشر من سبتمبر من احتمال حصول بعض الجماعات الإرهابية على أسلحة نووية تكتيكية يمكن استخدامها في هجمات إرهابية في الولايات المتحدة وخارجها. لذلك، استندت إستراتيجية الحرب على الإرهاب إلى فكرتين أساسيتين: ملاحقة الإرهابيين وقتلهم أو اعتقالهم من ناحية، والحد من انتشار الأسلحة النووية من ناحية أخرى.
وقد وافق العقيد على الطلب الأميركي بتفكيك البرنامج النووي، كدليل على حسن النية، وعلى الرغبة الصادقة في التعاون. جرت كل تلك اللقاءات في الخفاء، بطبيعة الحال، أما على التلفزيون فكان العقيد في الفترة نفسها مشغولا بشن الحرب على الإمبريالية، وتسويق صورته كمناضل عنيد.
وبالمناسبة، فعل واحد من الحكّام العرب مع الأميركيين تحت الطاولة ـ وهو شخص أدركته حرفة المقاومة والممانعة ـ أكثر مما فعله العقيد في هذا السياق. من حسن الحظ أن ثمة الكثير مما يُقال في هذا الشأن.
على أية حال، المقصود بهذا الحادثة ليس التناقض بين الظاهر والباطن في سلوك العقيد، بل المدى الذي يمكن أن يصله في سبيل الإفلات من مآزق يراها خطيرة ومستعصية. وهذا ما تجلى في سلوكه على مدار الأسبوعيين الماضيين.
وبما أنني واظبت على مشاهدة التلفزيون الرسمي الليبي خلال هذه الفترة، وإذا استثنينا الأغاني السخيفة، فإن الأخبار والمشاهد المصوّرة تُعتبر نصوصا بليغة، ويمكن تحليلها بلغة السياسة، ناهيك عن كونها كوميديا مسلية.
بالنسبة للمعارضة الداخلية، مثلا، لم تعترف النخبة العائلية الحاكمة في طرابلس بالمعارضين، لكن التلفزيون الليبي لم يكف عن بث مشاهد لمواطنين في طرابلس يتقاضون مساعدات مالية بأمر من العقيد.
وقد صُوّرت تلك المشاهد في البنوك بطبيعة الحال، وكانت الكاميرا حريصة على إظهار قبضة اليد التي تمسك بالدنانير، والوجه السعيد لصاحبها، ولم يندر أن نرى بين الفينة والأخرى شخصا يقبض على الدنانير ويجأر بأعلى الصوت: الله، ومعمر، وليبيا وبس.
كما أخبر التلفزيون الليبي مشاهديه بأن المواطنين لا يحتاجون إلى دفع ضرائب ورسوم خاصة بالسيارات الجديدة المستوردة، ناهيك عن تسهيلات مصرفية لقروض الزواج وبناء المساكن..الخ. الخلاصة أن العقيد يفاوض شعبه بالمال.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالضغوط الخارجية، فإن الأداء الكوميدي للعقيد والناطقين باسمه لم يحجب حقيقة أن ثمة ما يشبه الذعر في سلوكهم، وأن الأوراق المتوفرة في أيديهم، والتي يفاوضون عليها هي: النفط، والهجرة غير الشرعية، والحرب الأهلية، والقاعدة، وصوملة ليبيا. والمهم في هذا الشأن، بصرف النظر عن صدقية هذه الأشياء ومدى احتمال تحققها في الواقع، أن العقيد لا يفاوض العالم بأوراق بيضاء، بل يستخدم كل ما لديه من أدوات الإقناع بحسابات باردة.
ومع ذلك، فإن العقيد يخوض معركة خاسرة، بعدما فقد الشرعيتين الداخلية والخارجية، ولن تغيّر الحسابات الباردة المتأخرة، من حقيقة أن خروجه من المشهد مسألة وقت لا غير.
ولكن ما الذي سيبقى في الذاكرة من العقيد: الكوميديا السوداء، أم الحسابات الباردة لحاكم لعب ويلعب بكل ورقة ممكنة للبقاء طافيا فوق سطح الماء؟
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني