رغم مضي 2300 سنة على نشوء ثم اضمحلال الإمبراطورية الرومانية، ما فتئت عوامل ذبول أكبر مملكة إمبريالية في التاريخ الموضوع المفضل للدراسة من لدن المؤرخين والجيولوجيين في العصر الحالي. إذ كانت الحضارة التي نشرها الرومان من غرب أوربا إلى السواحل الجنوبية والشرقية للبحر المتوسط تمثل حلقة الوصل النابضة، التي ربطت بين الحضارات القديمة التي سبقتها وتلك التي أصبحت امتداداً لها في أوربا والقارتين الأمريكيتين.
ومثل كل الحضارات، بدأت الإمبراطورية الرومانية بالسيف وازدهرت في ظله، ثم أخذت أذرع وعقول الذين حكموها في الأوقات المتأخرة بالضمور والكلل، فانحدرت ضمن مساق واحد من التدهور والأفول لتنكمش على أيدي الأبناء والأحفاد إلى التخوم المحيطة بمدينة روما الصغيرة.
وقد شهدت المرحلة الأخيرة في حياة الإمبراطورية سلسلة من أباطرة ضعاف ومعتوهين وصغار في السن تحكمهم النساء، عجزوا عن فهم قيمة ما خلفه أسلافهم من عمل عظيم. وربما يكون الإمبراطور كركلا أشهر المعتوهين على الإطلاق لانشغاله بالعبث واللهو بقتل السياسيين والمفكرين، ويذكر أنه أطبق يديه على عنق شقيقته الصغرى التي كان يزني بها سفاحاً إلى أن انقطعت أنفاسها. وكركلا ابن الإمبراطور سبتيموس سيفبروس، لأمّ رومانية من أصل سوري (جوليا دومنا) تسلم الحكم عام 211م ومات في 217. وكان كركلا طائشاً نتيجة عته أصيب به لأسباب خَلقية (فيزيولوجية)
والمعتوه هو الشخص الذي يفقد التوازن في العمليات النفسية الداخلية (الحب والكره بشكل خاص) ويعرّفه علم النفس الحديث بأنه يتميز بالنقص في الانتباه والنقص في حب الاستطلاع، واضطراب الفكر مع وجود ارتباطات فكرية تعصي على الفهم، مع عدم القدرة على إدراك الواقع. ويعزى السبب في العته إلى أسباب عديدة، نفسية (الصدمات) وفيزيولوجية خَلقية تتعلق بتركيبة وبناء الجسم، ومن مظاهر الأخيرة نوعان: القماءة، وهي حالة ضعف عقلي تتصف بقصر القامة بدرجة ملحوظة. والثانية يتميز فيها المعتوه بصغر حجم الجمجمة مما تؤدي إلى ضعف عقلي ولادي يتميز بصغر حجم الرأس وصغر المخ وقلة نموه.
وكان انتقال الحكم من نظام القنصلين إلى نظام الإمبراطور الواحد الدكتاتور، ثم الانحدار به إلى نظام توريث الأبناء بدل انتخاب القادة والزعماء السياسيين لمنصب الإمبراطور في مجلس السناتو (مجلس الممثلين أو النواب) هو الذي جاء بالصبيان والمعتوهين إلى الحكم، ومن يومها بدأت الإمبراطورية الرومانية بالذبول.
إلى هنا ونعتذر إلى القراء عن هذه المقدمة الخاصة بشؤون إمبراطوريات مندثرة لا تبدو على علاقة بموضوع مؤتمر القمة العربية، التي سيجتمع وزراء الخارجية الاثنين 26 مارس لإعداد المسودة التي سيعمل عليها الرؤساء العرب لدى انعقاده. وقد استبقت دمشق القمة بسحب اعترافها بلبنانية مزارع شبعا، وهي الذريعة التي تسمح لحزب الله وحركة أمل بالاحتفاظ بسلاحهما بينما لا يسمح للفئات الأخرى بذلك، رابطة الموضوع بحل مشكلة الجولان المحتلة، ومعروف عن دمشق أنها دائماً تغيير اعترافاتها حسب المزاج وبناءً على متطلبات كل ظرف على حدة.
وجاء الموقف الجديد في رسالة اختارت دمشق هذا الظرف لتوجهها إلى رئيس مجلس الأمن الدولي في 21 مارس الجاري حسب وكالة (أ.ش.أ) وخصت القادة العرب بنسخة منها، إلا أن النسخة التي ذهبت إلى الأمين العام السيد مون ذيلتها “الصدف” بانفجار قذيفة هاون على بعد خمسين متراً من مكان انعقاد المؤتمر الصحفي الذي عقده في بغداد مع نوري المالكي، ونقول “الصدف” لأن القذيفة أرسلها للسيد الأمين العام من تعتبرهم دمشق المقاومون ضد الاحتلال، الذين غالباً ما يلقون الترحيب والمرور الآمن بين العراق والعاصمة السورية!
وبعيداً عن الرسائل والغبار الذي يثيره وصولها، من الواضح أن دمشق تنام وتنهض هذه الأيام وهي في حالة نرفزة شديدة الوطء على العقل، لأن مسألة حضور بشار الأسد القمة لم تحسم بشكل نهائي، أو على الأقل لم يحسم فيها طول الخطاب الناري الذي تسمح به القمة، إذا كانت ستسمح أصلاً بتضييع الوقت في الخطب الثورية التي عرف بها الرئيس السوري الشاب.
الأهم من هذا أن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي – مون أبدى قبل أسابيع اهتمامه وحرصه على تنفيذ القرار 1701، وبالذات الفقرة الخاصة بضبط الحدود السورية مع لبنان، وهو ما ترفضه دمشق وتعتبره شأناً ثنائياً بين سوريا والشقيقة لبنان! ثم علمت دمشق أن السيد نبيه بري فشل في الحصول من الأغلبية اللبنانية على بيان يدخل فيه بشار الأسد، أو من يمثله، إلى القمة العربية ليقول للقادة العرب: “اتركوا لنا موضوع الاحتقان الطائفي اللبناني ونحن ننهيه على أفضل وجه”
إلاّ أن فشل السيد بري ليس وحده ما يثير أعصاب دمشق، إنما صادف حدوثه نشر تقرير للعسكريين الروس (21 مارس الجاري) حددوا فيه بداية أبريل القريبة موعداً للضربة الجوية الأمريكية لإيران بسبب استمرار طهران في تحدي المجتمع الدولي بعدم إيقاف التخصيب. ومما يغري بقبول هذا التحديد المناورات الأمريكية الإسرائيلية المشتركة قبل أيام على تشغيل الحزام الصاروخي المضاد لأي هجوم إيراني انتقامي. يضاف إلى هذا تدريبات الطوارئ التي أجراها الإسرائيليون استعداداً لكل الاحتمالات، ومن بينها إعلان حسن نصر الله حرباً صاروخية جديدة على شمال إسرائيل “تضامناً” مع إيران وباسم “الشعب اللبناني”
وفي هذه الحالة قد تعود القوات الإسرائيلية إلى لبنان، وهذه المرة بهدف وضع حزب الله وقياداته في السفن وترحيلهم إلى المكان الذي يختارونه، كما فعلت مع المرحوم ياسر عرفات ومقاتليه عام 1980. وبهذا سيفقد الرئيس بشار الأسد المواضع المحبة في قلب الشقيقة الصغرى “لبنان”
ويضاف إلى كل هذه المواجع التي توتر أعصاب المسؤولين في دمشق اليوم، الشعور المتزايد بأن تحالفهم مع الجمهورية الإسلامية ورطهم في موقف سياسي جعل مصير النظام السوري مرتبطاً بما سيحصل لإيران في الأسابيع القادمة، لأن تعرض الحليف الأكبر لضربة أمريكية يتطلب من سوريا الوفاء بتعهدات، سرية وعلنية، بفتح جبهة الجولات على إسرائيل، وليس الاكتفاء بالتصفيق لرد فعل حزب الله المنسق مع القيادة الإيرانية.
هنا نصل النقطة الأشد حساسية على أعصاب البشر والدول، فإذا فتحت دمشق النار على جبهة الجولان، ماذا سيكون مصير النظام السوري إذا استرجعت إسرائيل الجزء المحرر منها في حرب 1973؟
إن الخطة الأمريكية المتوقعة ستعتمد ضربة جوية تدمر المنشآت العسكرية الإيرانية ومنشآت التخصيب، لتغدو الجمهورية الإسلامية راكعة فوق الجدران المهدمة، وستكون سوريا وجهاً لوجه مع إسرائيل، بينما الدول الأوربية وأمريكا وروسيا، وحتى الصين، باتوا أكثر رغبة في وضع نهاية للصراع في الشرق الأوسط بعيداً عن غوغاء الخطب السياسية، وبعيداً عن الحروب الصغيرة على جانبي الحدود، التي تقضي على الأبرياء من دون أن تمس المقاتلين. لذلك لن يعترض أحد على أي حرب تنشب على جبهة الجولان، أما لتحرر الجزء المحتل منها، أو ليختفي النظام السوري الحالي من الوجود وتنعم المنطقة بالسلام.
وما يعنينا في مؤتمر القمة العربية القريبة، أن يقول القادة العرب لأي مسؤول يمثل النظام السوري فيها ما قاله وزير الخارجية المصري أبو الغيط قبل أسبوع: “ارفعوا أيديكم عن العراق … ولا تستخدموا لبنان ورقة ضغط”
والمصريون مثل السعوديون والأردنيون مستاءون جداً مما يفعله الرئيس بشار الأسد في العراق وفي لبنان لصالح السياسة الإيرانية وتدخلاتها التي ارتقت إلى مستوى تدمير البشر والدول في المنطقة العربية، وهذا يتطلب موقفاً أكثر حزماً من القادة العرب في اجتماعهم القادم، إذ لا يعقل أن يدخل الاجتماع نظام عربي ينسق مع طهران لتخريب الأمن الإقليمي العربي، ويفتخر رئيسه بأن له الدور الأول فيما يجري للعراق من قتل وتهجير وحرب طائفية، إضافة إلى ما يفعله في لبنان من خلال أحزاب طائفية تأتي إليها الأسلحة ورواتب عناصرها من إيران!
لقد تجاوز النظام السوري كل الحدود في العمل ضد العرب من داخل العرب، والكل يتوقع أن يدخل الرئيس بشار الأسد مؤتمر القمة وهو يضع سكيناً حادة فوق عنق الشعب اللبناني ليقول للجميع إن ما يجري في لبنان شأن بين سوريا و”شقيقته” ولا يحق لأحد التدخل في هذا الشأن العائلي الخاص. فإذا لم يضع القادة في مؤتمرهم القادم بالذات حداً لهوس تدمير الأشقاء والشقيقات على يد بشار الأسد، فإن أي مواجهة بين أمريكا وإيران ستحرق نصف المنطقة العربية بأوامر من دمشق دفاعاً، أو تضامنا،ً مع دولة من خارج الجامعة العربية، وسيحدث هذا للمرة الأولى في تاريخ العرب!
arifalwan@yahoo.com
كاتب وروائي عراقي يقيم في إنكلترا