1-
ماذا حدث للمصريين؟
تتردد أصداء هذا السؤال في مصر وخارجها. وهذا ما يحاول الدكتور جلال أمين اكتشافه، وتقديم إجابات محتملة تُسهم في تفسيره من خلال كتاب يحمل الاسم نفسه “ماذا حدث للمصريين: تطور المجتمع المصري في نصف قرن 1945 ـ 1995”.
المؤلف اقتصادي ومُعلِّق على الشأن العام، وقد صدر الكتاب في القاهرة في العام 1999، وتكررت طباعته في سنوات لاحقة. وفي هذا الكتاب يطرح أمين فرضية يعتقد بأن غيابها عن السجال العام بشأن ما حدث للمصريين يجعل الفرضيات المتداولة، في هذا الشأن، قاصرة، ولا تلامس سوى جانب من الحقيقة.
ثمة فرضيات كثيرة من بينها أن ما لحق بمصر من تدهور، في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يرجع في أسبابه إلى سياسة “الانفتاح” الاقتصادي، التي بدأها الرئيس السادات في السبعينيات، أو ربما يسبقها إلى هزيمة العام 1967، بينما تعود فرضيات أخرى بالسبب إلى التضخم المالي، والهجرة إلى بلدان النفط في عقدي السبعينيات والثمانينيات.
ولا ينفي أمين وجاهة هذه الفرضيات لكنه يرى بأن ظاهرة الحراك الطبقي، التي عاشها المجتمع المصري بعد الحرب العالمية الثانية وحتى وقت الناس هذا، هي الحلقة المفقودة، التي يمكن في حال استعادتها اكتشاف قصور الفرضيات السابقة ووضعها في سياقها الصحيح.
وللتدليل على ضرورة إعادة الاعتبار للحلقة المفقودة لا يمارس أمين دور المحلل الاقتصادي، رغم امتلاكه للأدوات والمؤهلات المطلوبة، بل يقوم بدور عالم الاجتماع، الذي يرصد التحوّلات الاقتصادية والثقافية والسياسية، كما تتجلى في ظواهر اجتماعية، لا من خلال بحوث ودراسات تناولتها بالبحث والتحليل، بل من خلال ما يشبه السيرة الذاتية لمصري ترعرع في مصر الأربعينيات، وشهد في سني شبابه ونضجه وكهولته سقوط الملكية، وصعود الناصرية وأفولها، مرورا بالانفتاح واقتصاد السوق، وما رافقهما من تحوّلات إجتماعية وسياسية وثقافية بعيدة المدى، ما تزال آثارها بادية للعيان في وقت الناس هذا.
وربما يضفي غياب التحليل النظري المجرّد، واستحضار جوانب من السيرة الذاتية والعائلية للمؤلف، فتنة خاصة على هذا الكتاب. فالمؤلف ابن المؤرخ والمفكر المصري أحمد أمين، صاحب ثلاثية “فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظُهر الإسلام”، والذي أسهم في إنشاء مجلتين مارستا نفوذا كبيرا على الثقافة في مصر والعالم العربي هما “الرسالة” و”الثقافة”. وقد حضرَت في الكتاب الكثيرُ من التفاصيل العائلية، التي وظفها الابن في تفسير ما طرأ على مصر من تحوّلات على مدار نصف قرن من الزمن، ومن خلالها تعرفنا، أيضا، إلى جوانب من الحياة الخاصة للأب.
2-
يبني أمين كل استنتاجاته في هذا الكتاب على فرضية الحراك الاجتماعي، أي صعود شرائح وقوى اجتماعية أو هبوطها في السلم الاجتماعي إلى مواقع لم تكن تحتلها من قبل، ويعتقد بأن ما طرأ من تحوّلات على تكوين وهوية الطبقة الوسطى المصرية يفسّر ما حدث من تحوّلات.
وهذه الفكرة تستهويني بشكل خاص، لاعتقادي بأن جزءا كبيرا من الخلل في تحليل التحوّلات السياسية والثقافية في العالم العربي، يكمن في عدم الربط بينها وبين التحوّلات الاجتماعية، أي علاقات القوّة والتوازن والحراك بين مختلف الطبقات في هذا المجتمع أو ذاك. لذلك، عندما يتكلم القوميون، مثلا، عن الجماهير العربية، في الوقت الحاضر، فيطالبونها بالثورة، أو يتذمّرون من ضعف همتها، تفوتهم حقيقة أن ما كان يسمى بالجماهير في الخمسينيات، ليس بالضرورة جماهير اليوم.
مهما يكن من أمر، يرى أمين بأن المجتمع المصري قبل ثورة يوليو، أي الإطاحة بالملكية، واستيلاء الضباط على مقاليد الحكم، كان يتسم بقدر كبير من الاستقرار بالمعنى الطبقي. فحتى العام 1955 كانت الطبقة الوسطى المصرية تمثل نسبة 19 بالمائة من السكّان، بينما احتلت الطبقة الدنيا 80 بالمائة، واحتلت الطبقة السائدة، التي تتشكّل من أصحاب الملكيات الزراعية الكبيرة والبرجوازية التجارية نسبة لا تزيد على واحد بالمائة. وبالمقارنة مع مطلع التسعينيات، يتضح أن نسبة الطبقة الوسطى بلغت 45 بالمائة، بينما هبطت نسبة الطبقة الدنيا إلى 50 بالمائة، وتوّسعت الطبقة السائدة، أو العليا، التي لا ينتمي أصحابها بالضرورة إلى الطبقة العليا القديمة، إلى 5 بالمائة.
وهذه تحوّلات هائلة إذا أدركنا بأنها تمت على مدار أربعة عقود من الزمن، يندر أن تشهدها مجتمعات مستقرّة، وبهذا القدر من السرعة، وقد نجمت عن مجانية التعليم، وقوانين التأميم والتصنيع والإصلاح الزراعي، وتوّسع بيروقراطية الدولة، ومركزية الجيش والأجهزة الأمنية في مجتمع ما بعد الثورة.
وما من ضرورة لحسابات كثيرة لإدراك بأن الزيادة الملحوظة في حجم الطبقة الوسطى نجمت عن صعود فئات جديدة من الطبقة الدنيا والتحاقها بالطبقة الوسطى. وفي الوقت نفسه يرى أمين بأن الطبقة السائدة القديمة هبطت مرغمة إلى مواقع الطبقة الوسطى، وحتى الطبقة الوسطى القديمة خسرت جزءا من شرائحها التي هبطت إلى موقع الطبقة الدنيا، بينما نجحت شرائح منها في الصعود إلى وتكوين هوية الطبقة السائدة الجديدة. وفي زمن الانفتاح والهجرة إلى النفط، نجحت شرائح تنتمي تقليديا إلى الطبقة الدنيا في الالتحاق بالطبقة العليا السائدة.
استنادا إلى هذه المعطيات يذبح أمين عددا من الأبقار المقدسة في أوساط المعلّقين العرب على الشأن العام، ومن بينها، مثلا، أن الطبقة الوسطى هي الحامل الاجتماعي لمشروع التحديث والتنوير. فقد يكون هذا الأمر صحيحا في ظروف تتسم بالاستقرار، لكنه يؤدي إلى حسابات ونتائج خاطئة في ظل تحوّلات راديكالية سريعة.
فليس صحيحا، كما يقول أمين “إن السادات لم يتمتع بالتأييد والدعم الحقيقي إلا من جانب الرأسماليين وأصحاب الامتيازات القديمة والطفيليين من الوسطاء، بل أنه صادف تأييدا من جانب شرائح واسعة من المستفيدين من الهجرة أو التضخم أو خدمة الأجنبي، ولو كانوا في الأصل ينتمون إلى مراكز اجتماعية دنيا”.
وفي السياق نفسه ثمة فكرة رائجة مفادها أن الطبقات الشعبية، أو الدنيا (حسب تعبير أمين) معادية بالغريزة للتبعية، والنفوذ الأجنبي، والتفاوت في توزيع الثروة. فهناك “من أفراد الطبقات الدنيا الآخذة في الصعود منذ الخمسينيات، والتي بدأت تطفو على السطح بقوة في السبعينيات، من لا يتخذ موقفا معاديا من التبعية الاقتصادية والسياسية، لأسباب تتعلّق بهذا الصعود”. وحتى إذا تعلّق الأمر بإسرائيل يقول أمين: “علينا الاعتراف بصراحة بأن هناك “دعما من نوع آخر تقدمه الطبقات الدنيا الصاعدة، أو على الأقل شرائح واسعة منها، لسياسة التبعية والانفتاح على الغرب وعلى إسرائيل”.
3-
ولكن ما معنى هذا الكلام؟
هل كان انهيار الجدار الحديدي الفاصل بين الطبقات الاجتماعية في مصر، قبل الثورة، سببا في ما آلت إليه أحوال مصر وأهلها؟
لا يرد أمين على هذا السؤال بالإيجاب، لكنه يأخذ على المشروع الناصري حرصه على الشكل دون المضمون. فمجانية التعليم، وإنشاء الجامعات، والتزام الدولة بتوظيف الخريجين، أتاحت لشرائح واسعة من المصريين فرصة الصعود الاجتماعي، لكن ذلك كله لم يترافق مع حرصٍ على جودة ومضمون العملية التعليمية نفسها.
وقد ترافق الحرص على الشكل دون المضمون في مختلف التحوّلات الراديكالية التي أحدثتها الناصرية في المجتمع المصري (الجيش، جهاز الدولة، الزراعة والصناعة، الإدارة، السياسة والثقافة، التأميم والحراسة) مع ميل مطرد إلى التغريب. فحتى أصحاب الملكيات الزراعية والبرجوازية التجارية في العهد الملكي كانوا أقل افتنانا بالغرب، وأكثر معرفة بهويته السياسية والثقافية. لذلك، لم يكن ما حدث في السبعينيات وما تلاها سوى ترجمة لتحوّلات وضعت لِبناتها في عقود سبقت.
ومع الاتفاق مع فرضية حرص المشروع الناصري على الشكل على حساب المضمون، إلا أن تفسير ما حدث في السبعينيات وما تلاها بالتغريب تبدو في نظري أقل إقناعا. وقد كان تحليل أنور عبد الملك لمصر التي يحكمها العسكريون أكثر دقة في تشخيص هوية النظام الناصري. وربما يصح الاعتقاد بأن بذور المحافظة، التي ستتحوّل إلى ظاهرة سائدة منذ أواسط السبعينيات، زُرعت في الواقع قبل ذلك بعقدين.
على أية حال، يربط أمين بين الحراك الاجتماعي وما ساد من ميول جديدة أسهمت في انهيار سلم القيّم، ويعزو ذلك إلى انتصار منطق السوق “فنحن بصدد شيء آخر من مجرد الانفتاح أو الرأسمالية، أو التغريب، وهو تحويل كل شيء خطوة بخطوة ليصبح محلا للبيع والشراء، حتى روح الإنسان نفسه”.
وفي هذا السياق يكرّس فصولا ممتعة لمناقشة ظواهر اجتماعية استنادا إلى ملاحظات وتجارب شخصية وعائلية. ومن بين تلك الظواهر حفلات الأعراس في الفنادق، والسيارات الخاصة، والخدمة المنـزلية، والموسيقى والغناء، والهجرة، ومكانة المرأة، ومكانة اللغة العربية، وظاهرة التعصب، والتفسير اللاعقلاني للدين.
تصلح هذه الملاحظات فرادى ومجتمعة لتأسيس علم للاجتماع المصري. فظاهرة التعصّب، مثلا، يعزوها إلى الشرائح الدنيا في الطبقة الوسطى الجديدة، التي كانت حتى وقت قريب جزءا من طبقة اجتماعية أدنى، وهي تشعر بتهديد خاص لمكانتها، وبرغبة أكيدة في نيل احترام الذات والآخرين.
وكذلك الأمر بالنسبة لظاهرة التفسير اللاعقلاني للدين، التي نجمت في رأيه عن تفشي ظاهرة الربح السريع، دون أسئلة بشأن الجدوى الاجتماعية، أو المصلحة العامة. فقد ظهرت مع شركات توظيف الأموال، التي تَعِد بأرباح سريعة دون التساؤل بشأن الطرق المتبعة، ومع الإثراء السريع في بلدان النفط، وهذه الظاهرة اللاعقلانية تستدعي غطاءً أيديولوجيا عثرت عليه في التفسير اللاعقلاني للدين.
ولا يمكن، بطبيعة الحال، التعامل مع فرضيات كهذه باعتبارها خلاصات سوسيولوجية، فهي في أفضل الأحوال المادة الخام التي يمكن تحويلها عن طريق البحث إلى حقائق اجتماعية وسياسية وثقافية.
فالتعصّب وكذلك التفسير اللاعقلاني للدين لا ينجمان عن اعتبارات فردية فقط، بل يمثل كلاهما ترجمة لعملية معقدة يتداخل فيها السياسي سواء تمثّل في مشروع للدولة، أو في محاولة لاستغلاله من جانبها، مع الاجتماعي سواء تمثّل في صعود اتجاهات بعينها من أسفل لأسباب طبقية، أو في تصعيدها بإجراءات من أعلى. وبالقدر نفسه لا ينجو كلاهما من تقاطع المحلي مع الإقليمي والدولي.
بيد أن هذه الملاحظات لا تقلل من أهمية الكتاب، ومن ضرورة التعاطي مع الفرضيات، وخاصة ما يذبح منها أبقاراً مقدسة، بأكبر قدر ممكن من الجدية. ويُحسب لجلال أمين بأنه وظّف السينما والموسيقى والغناء، وحتى محطة القطار القديمة في القاهرة، في تحليل الظواهر الاجتماعية، ووضعها في سياقها التاريخي والسياسي الصحيح. وهذه أشياء لا تحظى بمكانة مرموقة في الدراسات السياسية والاجتماعية التي يكتبها العرب.
وإذا كان أمين قد قدّم إجابات محتملة بشأن ما حدث للمصريين، فإن الكثير من فرضياته تصلح للتوظيف خارج مصر، فمن حق أبناء الحواضر التقليدية في العالم العربي أن يطرحوا السؤال نفسه: ماذا حدث لنا؟
ما حدث في الحواضر العربية يختلف من حيث الوتيرة والتفاصيل عمّا حدث في مصر. لكن الحراك الاجتماعي الناجم عن تحوّلات راديكالية سريعة صنعتها أنظمة شمولية، وثقافة النفط منذ أواسط السبعينيات، وسيادة منطق السوق والربح السريع، والتعصب والتفسير اللاعقلاني للدين، أشياء تكاد تكون مشتركة. هذا، على الأقل، ما ينبغي لأبناء الحواضر في العالم العربي ألا يُسقطوه من حساباتهم كلما طرحوا سؤالا من نوع: ماذا حدث لنا، وماذا حدث للمصريين؟
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام
Khaderhas1@hotmail.com
ماذا حدث للمصريين؟ – اولا , لم يحدث شيء للمصريين , الشر بره وبعيد .. وهذا الكاتب (شيوعي “يساري” على ناصري على اخونجي) وكله على كله لا يعول عليه. في (عصر الانفتاح العظيم) وصلت ثلة “اي بضعة عشرات الالآف ان لم يكن مئآت الالآف” من المصريين للاردن , والاردن اساسا مزيج من الشام والجزيرة وعدة مؤثرات اخرى : شيشان , شركس , ارمن , دروز .. وحتى اكراد , حاوي من جميعه (اي منفتح اصلا : بالمعنى الايجابي) .. فوفق عشر مقاييس (كونية) للحرية والحضارة والرفاه والاستقرار , يحتل الاردن (الآن) الموقع (52) عالميا , بينما تحتل مصر الموقع (94)… قراءة المزيد ..
ماذا حدث للمصريين؟ لهادي المزوغي — hedi.mzoughi@gmail.com ما استرعي اهتمامي في المقال المقاربة المتصلة بتفسير ظاهرة التعبير اللاعقلاني للدين وربطها “بظاهرةالربح السريع دون أسئلة بشأن الجدوى الآجتماعيةأوالمصلحةالعامة” ويقدم الكاتب على ذلك مثلا “شركات توظيف المال التي تعد بأرباح سريعة دون التساؤل بشان الطرق المتبعة… وهذه الظاهرة اللاعقلانية تستدعي غطاء ايديولوجيا عثرت عليه في التفسير اللاعقلاني للدين” ومع وجاهة التفسير فإن الأسئلة عديعة تنبثق في نفسي.إذا جاز أن نتقبل هذه المقاربة برطها بالتحولات الطبقية في المجتمع المصري قبيل الثورة 52وبعدها وسياسة الانفتاح مع السادات وما تلاها فهل شهدت أفغانستان على سبيل الاستدلال مثل هذه التحولات في البنية الاجتماعية حتي ينشر فيها… قراءة المزيد ..