بعد 5 سنوات على اغتيال رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري بتفجير سيارة مفخخة في قلب بيروت، في 14 مارس 2005، فإن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لا تملك متّهمين ولا فارّين من وجه العدالة. ويؤكد المدعي العام، الكندي دانييل بيلمار، أن “التحقيق يتقدم”، ولكن الشكوك تتزايد في بيروت، مع أن المحكمة لم تعد موضوعاً محورياً في اللعبة السياسية اللبنانية.
وكانت المحكمة الدولية، التي تخضع لاتفاق وقّعته حكومة لبنان مع الأمم المتحدة في يونيو 2007، بدفع من فرنسا والولايات المتحدة، رغم معارضة البرلمان اللبناني، موضوعاً للسجال منذ البداية. ويتقدم التحقيق ببطء الآن، وسط ظرف سياسي وقضائي محفوف بالكمائن.
كانت الخلاصات الأولى للتحقيق، منذ العام 2005، قد أشارت بأصابع الإتهام إلى سوريا. ولكن دمشق هلّلت لما اعتبرته إنتصاراً بعد إطلاق سراح الضباط اللبنانيين الكبار الأربعة الموالين لسوريا بطلب من المحكمة، في أبريل 2009. ولم يكن إطلاق سراح الضباط الأربعة ناجماً عن أخطاء في خلاصات التحقيق بل عن الوسائل التي اعتمدها المحقّقون الأوائل: شهود مشكوك في صحة أقوالهم، وأدلة جنائية تم تجميعها خارج الأصول المهنية وغير قابلة للإستخدام أمام محكمة.
ولكن، رغم تلك الأخطاء التي رافقت التحقيق، فإن التحقيق يتقدم. فقد تم تحديد شبكة الهواتف الخليوية التي استعملها المنفّذون. وحسب بعض المصادر، فإن هذه الشبكة تشير إلى بعض مسؤولي “حزب الله” اللبناني. وذلك ما كانت قد أكّدته مقالة نشرتها مجلة “دير شبيغل” الألمانية في مايو 2009، وتضمّنت إتهاماً لأعضاء في العمليات الخاصة لـ”حزب الله”. وفي حينه، تساءل باحث قريب من التحقيق: “من المسؤول عن تسريب هذه المعلومات؟”
ومع أن التسريبات حدثت في لحظة مناسبة للأغلبية البرلمانية المناوئة لسوريا، قبل أيام من إنتخابات يونيو النيابية، فإن مصادر عدة تعتبر أن ما كشفته “دير شبيغل” جدير بالتصديق. ولكن ذلك لا يعني أن المصادر المذكورة تبرّئ سوريا. ويؤكّد مصدر من داخل التحقيق أنه “إذا ما اعتبرنا أن حزب الله (هو المنفّذ)، فيمكننا إفتراض أنه ما كان ليقدم على ذلك إطلاقاً بدون موافقة سوريا، وفي النهاية بدون مساعدة إيران”.
مع ذلك، وحتى لو استند إلى عناصر ملموسة، فإن التحليل لا يكفي لبناء ملف قضائي. ويؤكّد أحد المحقّقين أنه “يستحيل إختراق جماعات أو منظّمات بمثل أهمية الجماعات أو المنظمات التي نفّذت الإغتيال، كما أنه يصعب جداً العمل في بلد تحتوي على مناطق خارجة على القانون”. جماعات يستحيل اختراقها، وشهود يختفون، وساحة جريمة تخضع لعملية تنظيف بالبولدوزر يوم الجريمة بالذات: ذلك كله يعني أن المحكمة تعمل في ظرف سياسي غير ملائم.
هل ما زالت باريس وواشنطن بحاجة إلى محكمة الحريري بعد أن تغيّر الوضع وبعد أن تقارب البلدان، ببطء، مع دمشق؟ إن البلدين ما يزالان رسمياً متمسّكين جداً بالمحكمة، التي يُنظَر إليها “كأداة ضغط” على سوريا، حسب تقدير تقرير نشرته “مجموعة الأزمات الدولية” في يناير 2009. وما تزال المحكمة حتى الآن بمثابة “الجوكر”، الذي تحتفظ به كل دولة لاستخدام ممكن لاحق.
ويعتبر “بيتر هارلينغ” ، المسؤول الإقليمي لـ”مجموعة الأزمات الدولية”، ومقرّه في دمشق، أنه “في البداية، كان هنالك قرار سياسي، اخذته هيئة سياسية. بعد ذلك، باتت العملية قضائية، وتملك حياتها الخاصة، ولديها روزنامتها الخاصة المنفصلة عن المطامح السياسية التي تسبّبت بولادتها”.
مع ذلك، وحسب مصدر في وزارة الخارجية الفرنسية، فإن تكتّم المدعي العام “بيلمار” يسيء سخط الديبلوماسيين “الذين يضعون الكمائن له، ولكنه يحافظ على صمته حول التحقيق”. ويبدي أحد المحقّقين أسفه لأن بيلمار “متعجرف جداً في علاقات مع الآخرين، وخصوصاً مع السلطات الحكومية ومع الأجهزة الأجنبية، مما يعني أنه ليس محبوباً جداً. وهو يشعر أنه قوي للغاية، ولكنه لا يفهم مدى دقّة الملفّ. وهو يريد تكييف وسائل التحقيق الكندية التقليدية مع تحقيق سياسي يتم في بلد لا يخضع لسلطته ولا يفهمه”.
على غرار أية سلطة قضائية دولية، فإن على المحكمة الخاصة بلبنان أن تقدّم إثباتاتها. وبدون تلك الإثباتات، فلا مجال لقيام المحكمة. وإذا كانت أجهزة الإستخبارات في الغرب، وفي المنطقة، تملك تلك الإثباتات، فإن فريق المدعى العام بحاجة إلى تعاون تلك الأجهزة في وقت يعجز عن تقدير مدى إرادتها الحقيقية في التعاون معه.
ولملاحقة منفّذي العملية الإرهابية، فلا مفرّ من عودة التعاون بين العدالة والديبلوماسية. فالمحكمة لا تملك أدوات قضائية كثيرة لفرض تنفيذ قراراتها. ولبنان هو البلد الوحيد الملزَم بالتعاون معها. وكان رئيس المحكمة، “أنطونيو كاسيزي”، قدّم إتفاقات تعاون ثنائية لعدد من دول المنطقة بينها سوريا، وكذلك إلى دول أخرى بينها فرنسا والولايات المتحدة. ولكن أية دولة لم توقّع تلك الإتفاقات حتى الآن.
وفي لاهاي نفسها، تعاني المحكمة من وضع غير صحّي تعبّر عنه إستقالات عدد من كبار مسؤوليها خلال السنة الماضية. وآخرها إستقالة رئيس المحققين، الأوسترالي “نيك كالداس”، الذي سينهي عمله مع المحكمة في نهاية فبراير.
“ستيفاني موباس” ، جريدة “لوموند”