المؤتمر الصحافي ل “لقاء سيدة الجبل”
31 تشرين الأول 2011
الصديقات والأصدقاء، أُحييكُم جميعاً وأشكرُ حضوركم الكريم. تشرَّفنا بدعوتكم إلى هذا اللقاء، لنتوجَّهَ عَبرَكُم إلى الرأي العام بحصيلةِ ما اتَّفَقَت عليه كلمةُ المجتمعين وتوجُّهاتَهُم في “لقاء سيدة الجبل” بتاريخ 23 تشرين الأول 2011.
نريد أن أذكّر بأن “لقاء سيدة الجبل” انعقد تحت عنوان “دور المسيحيين في الربيع العربي”. وهذا يعني اولاً أن المجتمعين – قبل اللقاء وبنتيجة مداولاته – متفقون على أن ما يحصل في المنطقة العربية منذ نحو سنة هو ربيعٌ “بالفعل” يدعو الى الأمل والإستبشار. وهو يعني ثانياً أن المجتمعين يشعرون بانتماءٍ أصيل إلى هذا الربيع ووعوده. وهو يعني ثالثاً أنهم يَرَو٘نَ لأنفسهم دوراً في تعزيز هذا الربيع، انطلاقاً من خصوصيتهم المسيحية، وهويَّتهم اللبنانية بالشراكة مع المسلمين واقعاً وتعريفاً، وانتمائهم إلى العروبة الحضارية التي يعبّر عنها اليوم أبطالُ الإنتفاضات السلمية الديموقراطية خيرَ تعبير.
هذه المعاني تَضمَّنتها الوثيقة التي بين أيديكم، والصادرة عن اللقاء، الذي ضمَّ 684 شخصيّة مسيحية لبنانية، من سياسيين وقادة رأي وناشطين في الشأن العام، كما تخلَّلَتهُ 48 مداخلة من قبل المشاركين.
هذا الأمر دفعنا الى ادخال تعديلات على نص الوثيقة التي عرضت في الخلوة خصوصاً لجهة التذكير بدور الكنيسة في بلورة الأسس والمفاهيم التي ارتكز عليها اتفاق الطائف واعتبار هذا الاتفاق نموذجاً يقدمه لبنان لارساء ديمقراطية عربية تقوم على الجمع بين المواطنة والتعددية.
كذلك جرى ادخال فقرة خاصة تتعلق بثقافة السلام والعيش معاً، متساوين في حقوقنا والواجبات، متنوّعين في انتماءاتنا المتعددة، ومتضامنين في سعينا المشترك نحو مستقبل أفضل لجميعنا، مسيحيين ومسلمين.
وقد إنبثق عن لقاء سيدة الجبل هيئة متابعة مكوّنة من: ادمون رباط، اسعد بشارة، الياس ابو عاصي، الياس الزغبي، الياس مخيبر، انطوان قسيس، ايلي محفوض، بطرس معوّض، بهجت سلامة، جان حرب، جواد بولس، دوري صقر، رجينا قنطرة، زياد الصايغ، سامي نادر، سعد كيوان، سمعان اسكندر، سمير فرنجية، سيمون ج. كرم، شارل جبور، شوقي داغر، طانيوس شهوان، طوني حبيب، فارس سعيد، فهد زَيفَه، كمال اليازجي، كمال ريشا، مروان صقر، ميشال ي. الخوري، ميشال حجي جورجيو، ميشال ليان، نسيم الضاهر ونوفل ضو، للقيام بالخطوات الأتية:
الخطوة الأولى: تنظيم لقاءات حوارية في كافة المناطق اللبنانية لمناقشة وثيقة “دور المسيحيين في الربيع العربي” وتطويرها، وتأمين التواصل مع الانتشار اللبناني للغاية ذاتها.
الخطوة الثانية: الاتصال بالفعاليات المدنية في كافة الطوائف اللبنانية وفي المجتمع المدني لتحضير مؤتمر وطني حول “دور لبنان في الربيع العربي”.
الخطوة الثالثة: المساهمة في انشاء مركز للأبحاث والدراسات حول ثقافة الربيع العربي، ثقافة العيش معاً في ظل الحرية والديمقراطية والدولة المدنية.
*
دور المسيحيين في ربيع العرب
خلوة سيدة الجبل – 23 تشرين الأول 2011
تتضمن هذه الوثيقة ثلاثة أقسام: ما نريد التذكير به على ضوء مواقف الكنيسة، وما نرفضه من مواقف سياسية تعرض المسيحيين الى أخطار أكيدة، وما نريد العمل من أجله لتجديد دور المسيحيين في لبنان والشرق.
أولاً- ما نريد التذكير به
نريد التذكير أولاً بدور الكنيسة في اطلاق ربيع لبنان الذي شكل الإشارة الأولى لربيع العرب. “فلقد وضع نداء المطارنة الموارنة في 20 أيلول 2000 – والكلام للمجمع البطريركي الماروني – الأسس لإنهاء سلطة الوصاية السوريّة واستعادة السيادة والاستقلال والقرار الحرّ (…) فبعد أن كان لبنان ساحة لتسلّط الآخرين، صار ساحة شهادة أبنائه جميعًا لحريّتهم، وزخمًا لأكبر انتفاضة شعبيّة في العصر الحديث. لقد تمكّنت الكنيسة بمشاركة معظم الشعب اللبنانيّ بأن تحفر تاريخ لبنان الحديث بإبرة الحق والإيمان، فوق صخرة الظلم والليل الطويل، فتمكّنت من إنقاذ الوطن واستعادة الدولة”. و”شكلت انتفاضة الاستقلال، اثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، لحظة تاريخيّة، فتحت الباب للخلاص الوطنيّ بتوحّد غالبيّة الشعب اللبنانيّ على نحوٍ غير مسبوق. إنّ خروج الجيش السوريّ من لبنان في 26 نيسان 2005، بعد ثلاثين سنة من سلطة الوصاية، كان تتويجًا لنضال الشعب اللبنانيّ المقيم والمنتشر، وتوحّده، وبمثابة الحلم الذي تحوّل إلى حقيقة”.
نريد التذكير ثانياً بدور الكنيسة في اتفاق الطائف. فلقد “ساهمت الكنيسة المارونية، والكلام للمجمع البطريركي الماروني، في بلورة الأسس والمفاهيم التي ارتكز عليها هذا الاتفاق. ونظرت الكنيسة إلى هذا الاتفاق على أنّه مدخل لطيّ صفحة الصراعات الماضية بين من كان يطالب، باسم العدالة، بتحسين شروط مشاركته في الدولة، وبين من كان يسعى، باسم الحريّة، إلى حماية الكيان وتثبيت نهائيّته. ورأت الكنيسة كذلك أنّ هذا الاتفاق يثبّت أولويّة العيش المشترك على كلّ ما عداه، ويجعل منها أساسًا للشرعيّة”. كما رأت أيضاً أن “مقدّمة اتفاق الطائف حسمت الجدل حول طبيعة العقد الاجتماعيّ بين اللبنانيين فاعتبرت أنّ العيش المشترك هو في أساس هذا العقد وأنّ لا شرعيّة لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”. والمجتمعون في خلوة “سيدة الجبل” يرون أن اللبنانيين – من خلال هذا العقد الإجتماعي وتجربته الغنية – لديهم ما يقولونه لمجتمعاتنا العربية الساعية إلى الحرية والديموقراطية والعدالة في ظل الشراكة الوطنية والعيش معاً.
نريد التذكير ثالثاً بأن الكنيسة كانت سباقة في مطالبتها يقيام الدولة المدنية، الحديثة والديمقراطية القائمة ، كما جاء في المجمع البطريكي الماروني، على “التوفيق بين المواطنية والتعددية” وعلى “التمييز الصريح، حتى حدود الفصل، بين الدين والدولة، بدلاً من اختزال الدين في السياسة، أو تأسيس السياسة على منطلقات دينية لها صفة المطلق”. وهذه المسألة باتت اليوم مطروحة بقوة في كل الدول التي تحررت من أنظمة الاستبداد.
نريد التذكير رابعاً بدور الكنيسة في بلورة مفهوم العيش المشترك بما “يتخطى مستوى التساكن أو التعايش بين المجموعات المتعددة” ليشكل نمط حياة مميزاً، “يؤمن للانسان فرصة التواصل والتفاعل مع الآخر بحيث تغتني شخصيته من تلقيها جديد الآخر، وتغني هي بدورها شخصية الآخر، وذلك دون إلغاء للخصوصيات والفوارق التي تصبح في هذه الحال مصدر غنى للجميع”.
ثانياً- ما نرفضه
نرفض أولاً وضع المسيحيين في مواجهة ربيع العرب الذي يرتكز الى قيمتي الحرية والعدالة، وهما قيمتان تقعان في أساس الكرامة الانسانية، بعيداً عن منطق الايديولجيات التي تقسم العالم بين معسكرين، خير وشر، والتي أقامت عليها أنظمة الاستبداد شرعيتها الأساسية. فهذا الربيع العربي يشكل خبراً سعيداً للبنان، الذي ظل، على مدى أكثر من نصف قرن، موضوعاً لمحاولات حثيثة رمت، بدعوى “تعريب” نظامه، الى جعله شبيهاً بالأنظمة المحيطة. أما اليوم، فها هي المنطقة العربية – في سعيها المصمم للتخلص من عبوديات القرن الماضي والتهميش التاريخي – تنحاز الى معنى لبنان، بما يحمل هذا المعنى من قيم الحرية والديمقراطية والتعددية والانفتاح على العالم.
نرفض ثانياً ربط مصير المسيحيين بمصير أنظمة القمع والاستبداد التي حولت العالم العربي الى سجن كبير، فاخرجت شعوبها من الحاضر والمستقبل ووضعتها على هامش التاريخ. إنه موقف أخلاقي يفرضه ايماننا بالانسان وحقه في الكرامة والحرية، فلا نقبل أن نكون مع الجلادين ضد الضحايا. وهو أيضاً موقف وطني اذ تتحمل هذه الأنظمة الاستبدادية مسؤولية حرب كلفتنا ثمناً باهظاً : 144240 قتيلاً، 17415 مفقوداً، و197506 جرحى. هذا الى تدمير مدننا وقرانا، وهجرة مئات الألوف من أبنائنا، وتفتيت مجتمعنا، ومصادرة مؤسساتنا، وتعميم الفساد، وتحويل القضاء الى أداة لتصفية الحسابات …
نرفض ثالثاً كل المشاريع الهادفة الى ضرب الحضور المسيحي الاصيل في هذا الشرق وتحويل المسيحيين الى مجرد أقلية تبحث عن حماية لها من هنا أو هناك. والخلاف ليس، كما يصوره البعض، خلافاً حول اختيار الجهة التي نُوكِلُ إليها مهمة تأمين الحماية – حماية خارجية سورية، ايرانية أو غربية، أو حماية داخلية “شيعية” لمواجهة خطر “سني” أو “سنية” لدرء خطر “شيعي” – انما هو خلاف حول مبدأ الحماية نفسه الذي يحول المسيحيين الى أهل ذمة ويفقدهم حضورهم ودورهم. وهذا ما لا يمكن القبول به.
نرفض رابعاً العنف الذي يواكب هذا الربيع العربي. فهو عنف الأنظمة الاستبدادية في مواجهة مطالب الشعوب المشروعة. وهو أيضاً وفي الوقت نفسه عنفُ قوى التطرف التي ما زالت تتشبَّث بمنظومات ايديوليجية متداعية، وتحاول جاهدةً وقف عجلة التاريخ.
ثالثاً- ما نريده
نريد أولاً اطلاق دينامية مدنية في الوسط المسيحي قادرة على التواصل مع ديناميات مدنية شبيهة لها في الطوائف الأخرى وفي المجتمع المدني من أجل إعادة الحياة الى ربيع لبنان والتشارك مع القوى الديمقراطية التي ظهرت في ربيع العرب بُغ٘يَةَ وَض٘ع تصوُّرٍ سليم لعالم عربي ديمقراطي وتعددي قادر على استعادة دوره وموقعه في العالم بعد تغييب قسري دام نصف قرن.
نريد ثانياً استعادة دور المسيحيين التاريخي في الشرق والمساهمة في اطلاق نهضة عربية ثانية تؤسس لثقافة جديدة، “ثقافة العيش معاً”، ذلك أن العيش معاً، متساوين في الحقوق والواجبات ومختلفين في انتماءاتنا المتعددة، بات يشكل اليوم – بسبب التغيرات النوعية الهائلة التي أدخلتها العولمة – تحدياً جسيماً ليس فقط للعالم العربي، بل للبشرية جمعاء.
نريد ثالثاً العمل على انهاء دورة العنف المستمرة منذ عقود وبناء سلام لبنان بالتعاون مع كل المخلصين. فنحن اليوم أمام لحظة مصيرية: اما العودة بلبنان الى ما كان عليه في العقود الثلاثة الأخيرة، ساحة عنف مجاني للقوى الاقليمية والخارجية، تستجيب لأوهام البعض في أنّ مستقبلهم لا يزال يتطلب مزيداً من الدماء والعذابات والدمار، وإما إعادة صوغ لبنان بلداً يطيب العيش فيه، ودولة قادرة على النهوض بمسؤولياتها.
سلام لبنان يحتاج أولاً الى استخلاص دروس الحرب والادراك، كما جاء في المجمع البطريركي الماروني، أنّ مصير كلّ واحد منا مرتبط بمصير الآخر، وأنّ خلاص لبنان يكون لكلّ لبنان أو لا يكون، ويقوم بكلّ لبنان أو لا يقوم، ذلك أنّه ليس من حلّ لمجموعة دون أخرى، ولا لمجموعة على حساب أخرى”.
سلام لبنان يحتاج ثانياً الى استعادة الدولة لسيادتها المفقودة منذ العام 1969 وتأكيد حقها الحصري في امتلاك القوة المسلحة. فلم يعد مقبولاً ولا مبرراً وجود جيشين في دولة واحدة، يخضع أحدهما لإمرة السلطة الشرعية، ويخضع الآخر لإمرة حزب سياسي أو دولة أجنبية.
سلام لبنان يحتاج ثالثاً الى تحرير الدولة من صراعات الطوائف عليها والشروع، تأسيساً على اتفاق الطائف، في بناء دولة مدنية، كي لا تبقى هواجس الطوائف ومخاوفها المحرك الأساسي للتاريخ اللبناني.
سلام لبنان يحتاج رابعاً الى إنهاء حقبة سوداء في تاريخ العلاقات اللبنانية-السورية ودعم حرية الشعب السوري وكرامته وحقه في إقامة نظام ديمقراطي في سوريا، الأمر الذي يشكل الشرط الأساس لإقامة علاقات تعاون وصداقة بين البلدين تضمن مصلحة الشعبين اللبناني والسوري.
سلام لبنان يحتاج خامساً الى طي صفحة الماضي مع الفلسطينيين ، ودعم الجهود الرامية الى إقامة دولة فلسطينية مستقلة هي شرط السلام في المنطقة.
نريد رابعاً ارساء ثقافة جديدة، هي ثقافة السلام والعيش معاً، متساوين في حقوقنا والواجبات، متنوّعين في انتماءاتنا المتعددة، ومتضامنين في سعينا المشترك نحو مستقبل أفضل لجميعنا، مسيحيين ومسلمين. وهذه الثقافة تتطلّب شجاعة الاقدام على العيش معاً متجاوزين مخاوفنا الطائفية المتحدرة من الماضي، وغير باحثين عن “أمان زائف” يُغرينا به الانغلاق داخل “قبيلة” ما، أكانت قبيلة طائفية أو حزبية، تقليدية أو “حديثة”، موروثة أو اختيارية، محكومة لرمزية دينية أو محددة بلون أو راية أو شعار. كما تتطلب أيضاً شجاعة المِضِيّ في “العيش معاً” رغم الصعوبات، مدركين أن مستقبلنا المشترك لا يرتسم لمرة واحدة والى الأبد، بل يتطلب عناية دائمة وتسوياتٍ نبيلةً متجددة.
إن تحديد دور المسيحيين في الربيع العربي ليس شأناً مسيحياً خاصاً، إنما هو شأن المسلمين أيضاً، وهو شأنهما معاً وسوياً، ذلك “أن المسيحيين في الشرق، كما جاء في رسالة بطاركة الشرق الكاثوليك الأولى، هم جرء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسلمين. كما أن المسلمين في الشرق هم جرء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسيحيين. ومن هذا المنطلق، فنحن مسؤولون بعضنا عن بعض أمام الله والتاريخ.”