كم كان مثيرا للشفقة مشهد بضعة اشخاص معترضين على قانون الانتخابات الجديد، وخصوصا فقرة التمديد تحت ذريعة الإعداد والتدريب والمغنطة وما الى ذلك.
وكم كان مؤلمًا ومقززاً أن يتعرّض بعضهم، ومنهم صبايا بعمر الورد، للضرب المبرّح والسحل ردا على ما قيل عن بعض الممارسات من قبل المتظاهرين كرميِ البيض والبندورة على النواب. ومع أنّ معظم المتظاهرين قد دأبوا على مواجهة السلطة في كثير من تجاوزاتها وفسادها، إلاّ انّ قلة المشاركين تبعث على القلق، رغم انتماء معظمهم لنخب متعلمة من المجتمع، اذ ان بينهم مخرجين ومحامين وناشطين معروفين.
ومع ذلك، فإنّ المرء لا يستطيع إلاّ أن يقدر ويحيي شجاعتهم وتصميمهم وصلابتهم، رغم بعض الممارسات الطفولية التي تنفّر اخرين ربما رغبوا بالمشاركة، فضلا عن انها تشجع القوى الأمنية على ممارسة القمع الذي وصل بالبعض لدرجة السادية، ما يضع على عاتق المسؤولين، بما فيهم من هم في قمم اهرام السلطة حملا ثقيلا. ولن يفيدهم شعور بعضهم بأنهم أنصاف آلهة يمتلكون الأهرام وقممها، خصوصا حين يعتقدون أن ضعف الإعتراض المباشر وإعراض فئات واسعة عن المشاركة هو دليل ضعف وإحباط، وفِي حده الادنى دليل ارباك.
لقد عاشت البلد طويلا على أنغام الهواجس والمظلوميات التي عزفتها الفرق الثابتة والجوالة للطوائف والمذاهب والفئات والمناطق والتي شكلت ستارا للمحاصصة التي حكمت كافة مراحل التفاوض ووصلت احيانا بالبعض لسلوك سياسة حافة الهاوية، بينما رد آخرون بقرع الطبول واستنفار الخيول التي لم تفارق الحلبة السياسية اصلا. حتى أنّ محللين كثر استغربوا الوصول لقانون جديد بعد أن اطلق الجميع العنان لحفلات زجل دستوري متتالية، أين منها حفلات زين شعيب وزغلول الدامور وأين منها محافل السنهوري وداللوز.
هل تمخض الجبل فولد فأرا؟ ام ماذا تنفع الماشطة مع الوجه الكالح؟ ام أنّ العملية قيصرية والولادة طبيعية؟
لا شك بأن إنجاز قانون انتخابات وإدخال النسبية يشكل نقلة نوعية، حتى وإن كانت هذه النسبية ملبننة ومقيدة بمجموعة من القيود وغارقة بمجموعة من التفاصيل تحتاج لمنجمين الى جانب جهابذة الدستور، علما أنّ فضاءنا يفيض بالنوعين.
لن نذهب لحد شتم الطبقة السياسية وصولا للندب والمناحة على شبه الديمقراطية التي تحكم ما تبقى من حياة سياسية في البلد. فهذه الطبقة ليست مفصولة بالكامل عن النخب المجتمعية التي تتسربل بأزماتها البنيوية من فكرية وثقافية واقتصادية واجتماعية وصولا للأزمة الكيانية، فضلا عن اشكالية مفاهيم ايضا، خصوصا مع نشوء مفهوم المجتمع المدني وإشكاليات التعريف حتى في المجتمعات الديمقراطية. وهذه الأزمات، وللمفارقة، هي اكثر حدة عند اصحاب السوابق اليسارية وبشكل بائس عند بقايا الأحزاب والشخصيات ذات “المنبت العلماني” والتي تتناغم مع شعارات المقاومة والممانعة. ولن نغوص كثيرا بالمعادلة التي تقول بأنّ النظام السياسي اللبناني قوي والدولة اللينانية ضعيفة، وهو موضوع ملتبس ويحمل مضمرات سياسية، رغم أنّه ظلل بعض شعارات العبور للدولة التي رفعها آذاريو ١4، كما رفعها اصحاب المظلوميات، خصوصا جماعات المجتمع المدني في المركز كما في بعض الأطراف، حيث يدفع الناس ومن اللحم الحي ثمن غياب الدولة وسيادة منطق الدويلة وتفلت السلاح، وفِي بعض الأحيان ثمن الكيدية والسلبطة والكيل بمكيالين.
لن أدخل بتفاصيل قانون الانتخابات الذي أقر أخيرا، ولكن أسارع لتسجيل الملاحظات التالية:
اولا: إنّ النسبية تتطلب أحزابا عابرة للطوائف، وممتلكة لبرامج، بغض النظر عن المنطلقات الفكرية التي ممكن أن تتعدد وتتقاطع او حتى تتعارض، لأن ترتيب اللوائح تقوم به قيادة الحزب أو التيار في هذه الحالة.
ثانيا: إنّ الصوت التفضيلي الذي يرتب اللائحة سيكون طائفيا وربما مذهبيا واكيد فئويا بالإجمال، كما انه سيؤثر على وحدة اللائحة، علما أن لهذه السلبية بعض الايجابيات لجهة شعور الناخب بقوة التأثير .
ثالثا: إنّ طريقة توزيع الدوائر لا تحتاج الى عبقرية لاكتشاف غلوها المذهبي، ولا يبدو أنها ستساعد على حل قضايا المظلومية والهواجس، ولن تشكل عامل استعادة ثقة للأقليات عموما وللمسيحيين خصوصا، علما أنّ اداء البعض يساعد في تفكيك بعض مفاصل الوحدة الداخلية والتي تعاني اصلا من التصدع والتشقق، فضلا عن تعارض هذا الأداء مع اتفاق الطائف.
رابعا: إنّ التمديد سنة تحت ذريعة بطاقة ممغنطة لن تقوم سريعا، كما أعلن وزير الداخلية هو ليس مسألة تقنية بل يَصْب في إطار صفقة سياسية، أخذ منها كل طرف حسب قوته وحسب مصالحه الانتخابية في معادلة ربط النزاع السائدة والتي تفكك جزء من رباطها لمصلحة الدويلة على حساب الدولة. علما أنّ مدة السماح الإقليمية والدولية والتي تتطلب هدوءا لبنانيا ليست مفتوحة، وهي تخضع لحسابات يجري تسنيدها في المنطقة المنكوبة على قدم وساق، ما يجعل عملية الانتظار محفوفة بكل المخاطر والاحتمالات، رغم إيجابية اللبننة النسبية.
خامسا: سيكون الإختراق الديمقراطي العابر للطوائف نادرا، إن لم يكن مستحيلا، فضلا عنصعوبة الإختراق النسائي الحر مع سيطرة أمراء وفحول الطوائف على اللوائح القوية.
لا يجادل اثنان بأنّ القوى والتيارات السياسية الرئيسيّة هي قوى طائفية ومذهبية رغم التلون والإنفتاح النسبي لبعضها، ولا جدال بأنّ المحاصصة والزبائنية هي أساس في أي صفقة سياسية، كما أنّ المشاريع والإدارة تعتبر غنائم سياسية، ما يجعل الفساد شائعا ومحميا، خصوصا أنّ الدولة ليست سيدة، وأن هناك هيمنة من طرف يمتلك فائض قوة يجري ترجمتها بمناح شتى، ما يجعل الهيبة متراخية، إن لم تكن شبه معدومة، رغم النجاحات الأمنية والعسكرية في مجالات كثيرة.
ولكن هل هذا يعني أننا امام ابيض واسود وما على “الأوادم” الا التكتل؟ ام أنّ هناك مساحة رمادية؟ ثم من يقود تكتل “الأوادم” الذي نسمع دعواته في هذه الايام، خصوصا حين يتوسع مفهوم المجتمع المدني ويتحول لبدل عن الضائع الحزبي، فنصبح كأنّنا امام مجتمع مدني بمواجهة مجتمع غير مدني، حتى أنّ البعض وصف اعتصام الضباط المتقاعدين باعتصام للمجتمع المدني.
تعالوا نسأل السؤال التالي:
اذا نجح شخص من جماعة المجتمع المدني في الانتخابات النيابية، هل يبقى مدنيا؟ وهل نضمر تقسيما جديدا بين مجتمع سياسي حاكم ومجتمع مدني معارض او بين طبقة سياسية وطبقة مدنية!
هناك خلط بين الانتخابات البلدية والانتخابات النيابية، وهناك ارتباك بين المدني والسياسي وفي تحديد مجالات العمل في الفضاء العام، يساعده استكمال الإطباق على بقايا الحركة النقابية لاحتوائها.
ومع أن نتائج الانتخابات البلدية أفزعت القوى السياسية الحاكمة جميعها، خصوصا مع تجربة “بيروت مدينتي”، وحتى مع التجربة الطرابلسية التي سادها التباس شديد، إلاّ أنّ الطرف المهيمن بالقوة لن يتأثر كثيرا رغم تجربة بعلبك مدينتي ومثيلاتها في المناطق ذات الغالبية الشيعية، وستشتد قبضته حين يخترق المذاهب الأخرى بفعل النسبية التي فرضها، وإن معدلة.
ولنسأل سؤالا آخر اكثر وضوحا:
حين يتراجع المستقبل وأشباهه سنّيا وغير سنّيا، هل يذهب الفرق لقوى علمانية، ديمقراطية ودولتية، ام للقوى الأكثر طائفية والأكثر هيمنة والأكثر تبعية والأكثر انتهازية والأكثر خشبية؟ ومن يدري في أيّ اجواء ستحصل الانتخابات، إن حصلت! مع التطورات الجيوسياسية في المنطقة وتداعياتها، خصوصا حين يذكرنا السيد نصرالله انه يقبض على القرار السيادي بالوكالة عن طهران مكررا لازمة شتم مصدر رزق مئات آلاف اللبنانيين عند كل مفرق.
وربما نضمر سؤالا ثالثا لطالما راود مستقلي ١٤ آذار ولطالما شغل بال كثر في مقدمهم الراحل سمير فرنجية:
كيف نبني القوة الإعتراضية المستقلة التي تستحضر لحظة ١٤ آذار السيادية ومعانيها الوطنية، والتي يمكن ان تشكل تيارا ديمقراطيا فضفاضا،عابرا للطوائف وحاملا لتطلعات اكثرية الشعب اللبناني المقهور والذي ستزيده الشيعية السياسية الصاعدة قهرا، معرضة كيانه وانتماءه العربي للتبدد بعد أن عرّضته المسيحية السياسية والسنية السياسية لأخطار جمة.
من غيرهذا المدخل السيادي والوطني والديمقراطي، فإن الدعوة لتجميع المتضررين وتكويم المعارضين وتكديس المعترضين هي دعوة بلا روح.
هذا لا يعني أننا لا نعير أهمية للمطالب الحياتية ولمجابهة المحاصصة والفساد والتي نشتم رائحتها مع النفايات، بالعكس يجب ان تشكل هذه القضايا حافزا أكبر للعمل المشترك من أجل وقف التدهور المذهل في واقع وحياة اللبنانيين والذي، في جانب كبير منه، مرتبط بانهيار كبير في السيادة. ففي 2006 كنا ننتظر مليون سائح فحصلنا على مليون مهاجر، والآن يعدنا السيد نصرالله بإبدال مليون سائح ومليون ناخب بمليون جهادي شيعي، على شاكلة جهاديي القتل في العراق وسوريا واليمن! والمتدربين في هنغارات الحرس الثوري السليماني، ما سيستتبع ربما مليون جهادي سني نيو- داعشي، خصوصا حين يلغي نصرالله في مطارحاته الحدود السياسية بين لبنان وسوريا وتصاعد العنصرية ضد اللاجئين السوريين.
وكما أرادت القوى السياسية التقليدية الإستفادة من التمديد، فلتستفيد القوى الديمقراطية من هذه الفترة للضغط لتحسين الواقع الحياتي والإقتصادي والبيئي المتدهور، كما من أجل تطوير الحوار باتجاه تكتيل القوى الإعتراضية على أسس سياسية واضحة والتي يمكن أن يشكل إختراقها الإنتخابي النسبي إختراقا نوعيا في الحياة السياسية اللبنانية.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس – لبنان