منذ أن صار “الفيلسوف” باراك أوباما سيدا للبيت الأبيض قبل نحو ثمانية أعوام وهو لا يكف عن التهديد بالإنصراف عن الشرق الأوسط وإيلاء جل إهتمامه نحو آسيا. ومؤخرا قال ضمن إفتراءاته وأحكامه الغبية التي وردت في ما أطلق عليه عقيدة أوباما Obama Doctrine بتفاصيلها المنشـورة في مقال جـفري غولدبيرغ في مجــــلة ” ذ اتلانتيكThe Atlantic “ تحت عنوان ” استراتيجية اوباما: الرئيس الامريكي يتحدث عن قراراته الصعبة حول دور أمريكا في العالم أنه “لا جدوى من الشرق الوسط”. نعم الشرق الأوسط الذي انطلق منه فخامته في بداية عهده كمدخل لتنفيذ شعاره آنذاك القائل “سياسة أمريكية مختلفة”، وهذا الشرق الأوسط هو نفسه الذي اعتبرته كل الإدارات الأمريكية المتعاقبة موضوعا حيويا للأمن القومي الأمريكي، بل اعتبرته مكانا للولايات المتحدة الامريكية فيه مصالح جيوسياسية قصوى إلى درجة أنها تدخلت فيه مرارا وتكرار بالمؤامرات والإغتيالات والحروب بالوكالة واسقاط الحكومات وتنصيبها، ناهيك عن مطاردة وردع وتخويف كل القوى العالمية الأخرى التي أرادت أو حلمت بموطيء قدم فيه. وصدق الكاتب اللبناني راجح الخوري حينما كتب في صحيفة الشرق الأوسط (19/3/2016): إن “أهمية الشرق الأوسط ليست صناعة أمريكية، ربما كانت معظم مآسيه أمريكية”، مضيفا ما معناه أنه إذا كان أوباما يعتقد أن لا جدوى من الشرق الأوسط، فحري بنا أن نقول له لاجدوى من السياسات الأمريكية التي فشلت في فلسطين، ودمرت العراق، وتعاملت ببؤس مع الازمتين السورية والليبية، وخدعت حلفاء واشنطون التقليديين في الخليج العربي بتعاونها السري مع طهران، وحاولت “أخونة” المنطقة العربية، وأججت ما سمى بالربيع العربي.
أراد أوباما في بداية ولايته أن يقنعنا بأنه سيعمل على إعادة توجيه سياسة الولايات المتحدة الخارجية وتغيير بوصلتها عبر تخصيص آسيا ومنطقة الباسفيكي باهتمام أكبر وموارد أكثر، وذلك انطلاقا من مفهوم يقول أن القرن الحادي والعشرين هو قرن آسيوي بامتياز. وهكذا طرح ما سُمي بمبادرة “الإستدارة” نحو المحيط الهادي، أو بالأحرى أوكل إلى وزيرة خارجيته السابقة “هيلاري كلنتون” رسم ملامح هذه المبادرة والتعبير عنها. فكانت الأخيرة أول من إستخدم مصطلح “الإستدارة” في مقال لها بمجلة فورين أفيرز Foreign Affairs في عام 2011.
وبطبيعة الحال لا أحد بمقدوره أن ينفي أهمية المنطقة الآسيوية/الباسفيكية إستراتيجيا، أو طموحات دوله الصاعدة إقتصاديا، بل لايمكن تهميش مواردها الهائلة وقوتها العسكرية المتنامية وثقلها السكاني المتنوع، ونموها الإقتصادي الهائل، وأسواقها الواسعة. غير أن منطقة الشرق الأوسط سوف تظل لعقود طويلة قادمة ذات أهمية قصوى للعالم، شاء السيد أوباما وخلفاؤه أو لم يشأ، وسواء تحققت أحلام النفط الصخري البديل عن نفوطنا أو لم تتحقق. والدليل على صحة ما نقول هو إزدياد إهتمام الدول الآسيوية والباسيفيكية نفسها بقضايا الأمن والسلام والإستقرار والموارد في الشرق الأوسط.
ثم أن واشنطون بِسَعيِها نحو انخراط أكبر في منطقة آسيا/الباسفيكي، قد تستجيب لمطالب بعض أنظمتها الحليفة للولايات المتحدة منذ زمن الخوف من تمدد شيوعيي موسكو وبكين وتدخلاتهم، لكنها في المقابل ستثير بالتأكيد مخاوف دول أخرى كبيرة وذات حساسية مما تحمله الإدارات الأمريكية من سياسات ومشاريع للهيمنة والتغيير بذرائع حقوق الإنسان والمساواة وحرية التعبير وغير ذلك.
والإشارة هنا ليست للصين وحدها التي لا زالت تـُحكم من قبل الحزب الشيوعي الأوحد وتنظر إلى الأمريكيين كمنافسين متطفلين على منطقة لا شأن لهم بأمورها، وتنتقد باستمرار انتشار قواتهم في بحر الصين الجنوبي. ولا إلى كوريا الجنوبية التي يعتقد مواطنوها أن واشنطون قد تبيعهم إذا اقتضت مصالحها يوما أن تتعاون مع كوريا الشمالية (أخبرني مسؤول كوري جنوبي مؤخرا تنامي مثل هذا الإعتقاد في صفوف مواطنيه في أعقاب الطريقة التي باعت بها واشنطون حلفاءها الخليجيين العرب من أجل التودد إلى الإيرانيين). ولا إلى ماليزيا التي تتخوف من ضغوط الأمريكيين عليها لإجبارها على القيام بخطوات إصلاحية سياسية مثل إطلاق سراح المعتقلين المخلين بالأمن والنظام مثلما ضغطوا على جارتها بورما، على الرغم من إختلاف الحالة الماليزية عن الحالة البورمية جذريا.
وإنما تمتد المخاوف إلى البلد الديمقراطي الأكبر في آسيا (الهند)، حيث لا يزال الهنود يتذكرون كيف أن إدارة أوباما حاولت إشعال فتن سياسية في بلدهم عبر إستغلال بعض مظاهر الفقر والفساد والبيروقراطية، وتجييش الفئات الشبابية المسحورة بتقنيات التويتر والفيسبوك والانترنت، وتحت ذرائع حماية حقوق الأقليات أي تماما مثلما فعلت في الشرق الأوسط غداة سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي في تونس. وكلنا يتذكر كيف أن المتحدث الرسمي باسم الحكومة الهندية “رشيد علوي” خرج عن المألوف وقتذاك ولمح بوقوف واشنطون خلف ما حدث في بلاده في سبتمبر 2011 من تحركات إحتجاجية واعتصامات وإضرابات عن الطعام بقيادة شخص يـُدعى “أنــّا هازاري”، وكيف أنه ذكر الناس بأن هذا الأخير مجرد فرد وليس تنظيما، وبالتالي لم يكن قادرا على تحريك الجماهير وتوغير صدورها ضد الحكومة لولا وجود دعم خارجي وتدريب مسبق ووعود بالتأييد.
* أستاذ في العلاقات الدولية متخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh