تُشدد بعض الحركات المنضوية تحت إطار الإسلام السياسي على التزامها بالديموقراطية “كآلية” لتنظيم العمل السياسي والحركي، لكنها ترفض الاعتراف بالديموقراطية كروح ومحتوى ومفهوم وتذهب إلى حد مواجهة المفاهيم الحديثة التي تتأسس عليها. فهي تضع نفسها في منطقة تبرز خلالها الآلية لتنفصل عن المحتوى، رغم أن الآلية ليست سوى وسيلة يستحيل أن تنفصل عن محتواها، وإذا ما انفصلت فستصبح هي الهدف ويتم تجاهل المحتوى، وبالتالي سوف يتم التفريط بالكثير من القضايا المرتبطة بالمحتوى، كقضايا حقوق الإنسان، بالزعم بأن آلية الديموقراطية هي التي تعبّر عن مفهوم الديموقراطية.
والأدبيات التي تستند إليها حركات الإسلام السياسي وتجاربها على أرض الواقع تثبت بأنها لا تقبل بأن يتم احترام الإنسان وفق معيار الأنسنة الحديث بل وفق فهمها وتفسيرها الديني القديم، وهي تفصّل “آلية” الديموقراطية على مقياس مفاهيمها القديمة، وبالتالي ترفع “شعار” الديموقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان، لأمرين: إمّا جهل بحقيقة المفاهيم الحديثة، وإمّا ضحك على الذقون من أجل تمرير مشروعها السياسي الديني للسيطرة على هوية المجتمع وتحويلها إلى هوية أصولية.
وبالنظر إلى مواقفها تجاه القضايا والأحداث، على سبيل المثال الموقف الراهن من معارضة تطبيق قرار إزالة المساجد المخالفة للقانون في الكويت وإدخال البلاد في أتون أزمة سياسية وتراجع الموقف الحكومي بشأن تطبيق القانون، نجد بأن حركات الإسلام السياسي تنطلق من الرأي الديني الفقهي والتاريخي الذي تقع على عاتقه مسؤولية تحديد شرعية أو عدم شرعية تلك الموقف. ولم تكن وسيلة الديموقراطية بالنسبة إليها إلا آلية لتثبيت الموقف الشرعي، بمعنى أنها آلية تحدد جواز أو عدم جواز الموقف.
إن الاعتراف بحرية الاعتقاد لدى الإنسان انطلاقا من حقه كإنسان، وليس انطلاقا من الفهم الديني والجواز الشرعي الفقهي، هو موقف يدلل على مركزية الحداثة ومفاهيمها في هذا الإطار، بوصفها هي الحَكَم لقبول أو رفض تلك الحرية. في حين أن الاعتراف بذلك انطلاقا من التفسير الديني التاريخي يدلّل على أن الخطاب الديني، وليس الخطاب الحداثي، هو البوصلة في تأييد أو رفض حرية الاعتقاد، وفي قبول أو رفض مجمل الحريات الإنسانية الأخرى. فحركات الإسلام السياسي تلجأ إلى آلية الديموقراطية لإلغاء موقف يتعارض مع فهمها للشرع حتى لو خالف ذلك روح الديموقراطية. فهي تختار الآلية وتثبتها في أجندتها الفكرية والحركية كهدف بدلا من أن تكون وسيلة. وإن لم يتحقق مطلبها هذا فإن الديموقراطية ستصبح مهددة، لأنها ستساهم، حسب زعمها، في تثبيت قاعدة مضادة للدين.
كل ذلك يعود إلى أسباب، من ضمنها أن فهم الإسلاميين الحركيين للدين الإسلامي بوصفه منهاج حياة، أو دين ودنيا، قائم على “لاهوت التسلط والهيمنة”، اللاهوت التاريخي الذي يرفض مفاهيم أساسية تتكئ عليها الديموقراطية. فالحياة المدنية والسلم الاجتماعي لا تهددهما مقومات الديموقراطية بل تهددهما المفاهيم الاحتكارية التي تؤسس لظهور الوصاية على مصير الإنسان وعلى حرية الفكر والرأي والتعبير.
من جانب آخر يسعى الإسلاميون الحركيون إلى تأكيد وجود مجال واسع في الدين لاحترام مفهوم حقوق الإنسان، لكنهم غير قادرين على إثبات وجود توافق بين المفهوم وبين فهمهم التاريخي للدين الإسلامي. فوفق النظرة الحداثية، على الأديان ألاّ تخالف الفطرة الإنسانية في سعيها الدؤوب والمتطور لإسعاد البشرية والدفاع عن كافة حقوقها، وترى بأن حقوق الإنسان هي مسألة تحتل مركز الصدارة لدى الإنسان الحديث. ويواجه هذا المسعى معضلة التوفيق بين النصوص “المقدسة” وبين مبادئ حقوق الإنسان. فهناك العديد من الأسئلة الحقوقية الحديثة التي لا يملك الخطاب الديني إجابات عليها، بل في أغلب الأحيان يرفضها، من تلك الأسئلة ما يتعلق بالمرأة، وبالذكورة والأنوثة، وبالمسلم وغير المسلم، وبالمرتدين والملحدين، وبتكوين الأحزاب العلمانية.
ويؤكد أكثر من مراقب لنشاط حركات الإسلام السياسي أنها تصر على إخفاء ما يجب أن يكشف من أفكار وأدبيات وسياسات، وأن جميعها يرفع بشكل أو بآخر شعارين متضادين في نفس الوقت، هما “الإسلام هو الحل” و”الديموقراطية”، من دون أن توضح قصدها من ذلك، أي من دون الإجابة على الأسئلة التالية: هل تعتبر الديموقراطية بالنسبة إليها مجرد وسيلة تسعى من خلالها للهيمنة أو الوصول إلى الحكم، أم إنها تطرحها كأجندة متكاملة تحتوي الوسيلة والقيم التي تتكئ عليها؟ وهل شعار “الإسلام هو الحل”، بزعم البعض أنها أجندة متكاملة، يمكن أن يحقق ما تصبوا إليه الديموقراطية؟ وماذا لو تعارض شعار الديموقراطية مع شعار “الإسلام هو الحل”.. فأيهما سوف تختار؟
إن أكبر خطر تشكله حركات الإسلام السياسي في مجتمعاتنا هو أن تصبح الطرف الوحيد القادر علي تداول السلطة، لأنها تخفي في برنامجها أكثر مما تظهر. والسؤال الآخر الذي يطرح مجددا هو: لماذا اتهام تلك الحركات بأنها تخفي في برنامجها أكثر مما تظهر؟ والجواب بكل بساطة هو أن ما يجب أن تظهره لا يمكن أن يعبر عن علاقة تصالحية وتعايشية مع الديموقراطية ومع قيم الحياة الحديثة، ومن ثم مع واقع الحياة.
ورغم أن هناك من يدّعي بأن التحولات الديموقراطية في بعض البلدان العربية والإسلامية تؤشر على أن الإسلام السياسي يمكن أن يسلك الطريق السلمي الديموقراطي، إلا أن هناك من يشكك في صحة مثل هذا الإدعاء ويعتقد بأن المشكلة لا تزال تتمثل في التمييز بين وسائل الديموقراطية وقيم الحداثة ومفاهيمها.
إن جميع أدبيات حركات الإسلام السياسي تستند إلى رفض الخوض في تفسير يغربل النص الديني المطلق وفوق البشري ويحوله إلى نص قابل للنقد. لذلك فإن تلك الحركات تقبل على مضض بالتعددية السياسية، وفي المقابل ترفض بالمطلق التعددية الدينية العقائدية والتنوع الفكري واحترام حقوق الإنسان، كما ترفض الرؤى الداعية إلى نسبية الحقيقة الدينية والدعوات الحاثة إلى فصل المقدس عن البشري، وهي موضوعات لابد منها لتحقيق التعايش مع الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحديثة، لأنها تشكل عصب الحياة الديموقراطية في العصر الجديد. لذلك فإن أي تغيير في شعارات حركات الإسلام السياسي يعتبر تغييرا تكتيكيا لأنه لا يستند إلى أرضية فكرية حداثية واضحة وشفافة.
والسؤال مجددا: لماذا هذا الخوف والهلع من مستقبل حركات الإسلام السياسي؟ هل هو خوف مرتبط بتدخل سياسي في الأمر لعرقلة مكاسبها السياسية، والانتخابية، والتحريض ضدها، أم هو خوف واقعي يستند إلى متبنيات فكرية ونظرية ووقائع على الأرض؟
التجربة الانتخابية للحركات الإسلامية العربية لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنتها، مثلا، بالتجربة التركية، بسبب الظروف المغايرة سياسيا واجتماعيا بين الطرفين. فعلى سبيل المثال تعيش الحالة الإسلامية المصرية طبيعتها العربية بمختلف ظروفها وتحدياتها، ولا يمكن لها أن تتجرد من واقعها الديني العربي المصري الذي هو في غالب الأحيان واقع متشدد يرفض الحاضر بقيمه الحديثة. والجماعة الإخوانية في مصر وفي غيرها سواء في الأردن وسوريا والكويت، لم تألو جهدا لتغيير الواقع بل شاركت في دعمه في معظم الأحيان.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي