قرأتُ ما نشرته الصحف في الأيام القليلة الماضية حول مؤتمر في رام الله بعنوان “تجارب توحيد وتفعيل اليسار في فلسطين والعالم”. وفي هذا الصدد أود العودة بالذاكرة إلى ثلاثين عاما مضت، عندما سألتني في بيروت الحرب الأهلية، شابة جاءت من شمال بارد وبعيد، عما يحول دون توحيد تنظيمين يساريين كانا كبيرين في تلك الأيام، أجبت بطريقة عفوية: الغباء.
ومن حسن الحظ أن زلة اللسان تلك وجدت صدى في نفسها، وكانت فاتحة لعلاقة سعيدة ومديدة، ربما هي الأفضل والأكمل في تاريخ طويل من زلات اللسان التي تسم ممثلي “البرجوازية الصغيرة” من أمثالنا بميسمها، فلا تكل ولا تمل.
واليوم، دون مراهنات كثيرة على حظوظ أصبحت أقل، يظل ما قيل في الماضي أفضل المرشحين على قائمة محتملة للأجوبة. ومع ذلك لا بأس من استطراد يطرد غموضا هنا، ويبدد بعض ما التبس هناك.
قبل الكلام عن التوحيد والتفعيل ينبغي التفكير في معنى اليسار. وبشكل أدق ما معنى أن يكون الفلسطيني يساريا في العام 2009، ما هي البضاعة التي يرجو تسويقها، والأهداف التي يسعى إلى تحقيقها؟
وإذا عدنا إلى ما قيل من كلام في المؤتمر المذكور نجد أن دافع المؤتمرين (وهنا أقتبس ما أوردته الصحف) يتمثل في الخروج من حالة الحضور الهامشي لليسار، وحرص اليسار على الدفاع عن الشعب والقضية، وإنهاء حالة الانقسام والتشرذم، وخدمة المواطنين. هذا، طبعا، إضافة إلى كلام عن التجارب المحلية والعالمية..الخ.
هذا كلام في العموميات لا يقدم ولا يؤخر، ولن يخرج أحدا من الهامش، أو يمكنه من خدمة المواطنين، بل سيبقيه على الهامش دائما. فالمهم في حالات كهذه تعريف أشياء من نوع: معنى اليسار (أي بماذا يمتاز على الآخرين) ومعنى الدفاع والخدمة (أي البضاعة وأدوات تسويقها) والشعب والقضية (فالشعب شعوب، والقضية قضايا، والمصلحة مصالح، ولو لم يكن الأمر كذلك لما تشظت الحركة الوطنية، وتفرّق الفلسطينيون أيدي سبأ).
لذلك، بدلا من الكلام في العموميات ثمة ما يستحق التفكير والتدبير، دون التقليل بطبيعة الحال من صدق المؤتمرين، وهم في الأغلب أشخاص عاشوا في أوساط اليسار الفلسطيني المسلّح منذ أواخر السبعينيات، ثم تحوّلوا إلى مستقلين ونشطاء في منظمات غير حكومية تعنى بالمجتمع المدني، وحقوق الإنسان.
ولا أعتقد بأن المنظمات اليسارية القائمة في فلسطين قادرة على توحيد صفوفها، أو الخروج من الهامش. يمكن لمنظمات كهذه أن تبقى على الهامش لسنوات طويلة قادمة، وأن تعيش على ما تبقى من رصيد تراكم في أزمنة مضت. ويمكن أن يتحوّل بعضها إلى ذيل لحماس تحت يافطة أننا في مرحلة للتحرر الوطني تستدعي تأجيل القضايا الاجتماعية، وتغليب التناقض الأساسي مع الاحتلال على التناقض الهامشي مع الشركاء الوطنيين، وكل الكلام الفارغ الذي نعرفه جيدا.
وبالقدر نفسه فإن الحلم الذي يراود مستقلين وأعضاء سابقين في تنظيمات يسارية لتشكيل جبهة يسارية موّحدة غير قابل للتحقيق دون إعادة النظر في الكلام عن التناقضات الأساسية والثانوية، ومرحلة التحرر الوطني..الخ. ففي غزة، كما في رام الله توجد سلطة سياسية تمارس سن القوانين، وتتخذ قرارات تؤثر على حياة ومصير ملايين الفلسطينيين، مما يعني أن القضايا الاجتماعية حتى وإن كان الاحتلال قائما يجب أن تحظى بمكانة مرموقة على جدول الأعمال.
لا أعتقد أن ثمة علاقة، مثلا، بين الاحتلال وقوانين الأحوال الشخصية، ومسائل من نوع المساواة الكاملة بين الجنسين، والتعليم المختلط في المدارس والجامعات. وعلى هذا المنوال ثمة ما لا يحصى من القضايا التي لا تحتمل التأجيل. ولهذه القضايا جمهورها القادر على انتشال الواقفين على الهامش من مهانة الهامشية.
وما العلاقة بين مقاومة الأصولية في فلسطين والاحتلال. الصحيح أن ظهور الأصولية أسهم في إضعاف شوكة الحركة الوطنية، وأطال في عمر الاحتلال، وأبعد حلم الاستقلال والدولة إلى أجل غير معلوم. وإذا لم تكن مقاومة الأصولية جزءا من مسؤولية ومهام اليسار، فكيف يكون جديرا باسمه.
وقبل هذه وتلك، ما العلاقة بين الاحتلال وتكريس النظام الفلسطيني بعيد إنشائه في أواسط التسعينيات لشعبوية في السياسة والثقافة تعيد التذكير بنماذج لأنظمة عربية تحوّلت إلى دكتاتوريات سافرة يحكمها أب قائد، وزعيم ملهم تتغنى بعبقريته الجماهير.
لا علاقة بين كل ما تقدّم والاحتلال. ولا تناقض في الجمع بين مقاومة الاحتلال ومقاومة تلك الظواهر. ثم ما الفرق بين اليسار وغيره إذا سمح اليسار للآخرين باختطاف القضية الوطنية، بل وانخرط أحيانا في مزايدات تحوّل بفضلها إلى ذيل لمن هم أكثر منه عدة وعتادا وشطارة، مقابل دقيقتين على شاشة الجزيرة.
أصيب اليسار الفلسطيني منذ أواسط التسعينيات بما يشبه السكتة الدماغية، وأعتقد بأنه لم يفق بعد بالمعنى الأخلاقي والثقافي والسياسي. على أية حال، إذا لم تكن العلمانية وقضايا الفقر والاستلاب والحقوق المدنية، بما فيها وعلى رأسها قضايا النساء، من هموم اليسار، فما هي همومه بالضبط؟
إذا كان المقصود بإنهاء حالة التشرذم والانقسام توحيد المنظمات اليسارية فمن الأفضل توحيد المواقف في قضايا تفصيلية مثل الانتخابات النيابية وانتخابات النقابات ومجالس الطلبة. أما إذا كان المقصود إنهاء الخلاف بين فتح وحماس فإن عمر سليمان، وزير المخابرات المصرية، يقوم بهذا الدور بطريقة أفضل، ويملك أدوات أكثر إقناعا من المناشدات والدعوات الأخوية. وهذا الدور يبدو سورياليا تماما إذا تحوّل إلى هم من هموم اليسار في فلسطين. ولهذا، وفي هذا، وعليه، ما يعيدني إلى جواب قديم في مدينة بعيدة، فمن شب على شيء شاب عليه.
Khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني- برلين
عن جريدة الأيام