نصف الأشخاص والتصرفات بالجنون، إذا تصادم الأشخاص وسلوكهم مع المنطق، أو ما يمكن تصنيفه في باب
العقلاني، والمفهوم، والمقبول. بيد أن العقلاني، والمفهوم، والمقبول، وقبل ذلك المنطق، هذه كلها تعبيرات إشكالية.
فما يبدو منطقيا في هذا النسق الثقافي والمعرفي أو ذاك، قبل لا يبدو كذلك في نسق آخر. ثمة ما هو عابر للأنساق بطبيعة الحال. وبالقدر نفسه فإن تعبير النسق الثقافي والمعرفي إشكالي إذا حاولنا المقارنة، مثلاً، بين ما يمكن تسميته جزافاً بالنسق الديني، أو القومي، أو المدني العام في عالم العرب والمسلمين من ناحية، وعالم الغرب من ناحية أخرى.
في داخل كل هذه الأنساق توجد أنساق فرعية تتعايش، أو تصارع، لتهيمن على غيرها، وتحتل مكانة النسق السائد. وهذا ما يحدث، عادة، بمساعدة جهاز الدولة المركزية والتعليم، ومؤسسات التشريع، وأجهزة حفظ الأمن والنظام.
ولكن ماذا يحدث عندما يتدخل جهاز الدولة المركزية، والتعليم، ومؤسسات التشريع، وأجهزة حفظ الأمن والنظام، في تغليب نسق على آخر، بعيداً عن تلك القيم العابرة للأنساق، وبما لا ينسجم مع، أو يخدم، مشروع بناء دولة حديثة، بل بما يخدم تغليب طائفة على أخرى، أو مذهب على آخر، أو جماعة قومية على جماعة أخرى. بل، وماذا يحدث، أيضاً، عندما تصبح الخصوصية الثقافية ذريعة لا لتغليب نسق على نسق وحسب، بل وضع أنساق مختلفة ومتناقضة على قدم المساواة (من وجهة نظر دعاة التعددية الثقافية). وماذا يحدث إذا رأي نسق كان فرعياً، ثم أصبح سائداً بفضل جهاز الدولة والتعليم..الخ في محاولة عبور الحدود، وتبديد الأنساق الأخرى، نوعاً من التكليف الإلهي، أو التاريخي.
يمكن تفكيك كافة أنواع التكليف باعتبارها أقنعة أيديولوجية لمصالح دنيوية. وبقدر ما تنجح المصالح في إخفاء نفسها، بقدر ما يبدو التكليف نقياً وتقياً ومترفعاً عن المكاسب المادية الفانية. وفي مسافة قد تضيق أو تكبر بين الوجه الدنيوي والقناع الأيديولوجي المتعالي، تتمفصل الأوهام والاستيهامات الشخصية مع أوهام واستيهامات قومية ومذهبية ومناطقية. تذوب المسافة بين الطموحات الشخصية، ومنها ما هو مدمّر، وبين الطموحات القومية والمذهبية، ومنها أيضا ما هو مدّمر. وفي خلفية هذا التمفصل رهانات كبرى، وتفاعلات كونية.
في تمفصل هذه الأوهام والاستيهامات، وفي اختلاط الشخصي بالعام، والمحلي بالكوني، تنفتح مسافة لمسرح العبث والجنون. وللحفاظ على المسافة بين الوجه والقناع سريّة تماماً، والحيلولة دون فضحها، يُختزل الجنون في الفردي والاستثنائي، غير القابل للتعميم باعتباره عصاباً جماعياً ينجح من وقت إلى آخر في تجنيد الأنصار.
وفي سياق كهذا يمكن التعامل مع كل الحوادث الفردية التي اتُهم القائمون بها وعليها بالجنون. وآخر تجلياتها جرائم القتل التي ارتكبها شخص في تولوز. فهذا الشخص الذي قتل ثلاثة جنود فرنسيين من أصل مغاربي، وعددا من اليهود، أعلن أنه فعل ما فعل “لأن اليهود والنصارى لن ينعموا بالسلام قبل أن ينعم به أهلنا في فلسطين”. وهذه العبارة لبن لادن.
اتُهم هذا الشخص بالجنون. وقبله بقليل اتُهم جندي أميركي قتل عددا من الأفغان بالجنون. الاتهام بالجنون مريح لأنه يختزل فعلاً انتهك المنطق والعقلاني والمفهوم والمقبول في شخص بعينه، وهذا ينطوي على إعفاء للنسق الثقافي نفسه سواء النسق الذي نبت فيه قاتل تولوز، أو نسق القاتل الأميركي في أفغانستان.
ولماذا اختزال الأمر في شخص واحد، وتعريفه بالجنون، بدلاً من البحث في النسق الثقافي والمعرفي عن مبررات الجنون؟ لأن في أمر كهذا ما يفتح صندوقاً للعجب، ويمكّن بني البشر من نزع القناع عن الوجه، واكتشاف حقيقة الأشباح السوداء، والمخيفة، التي تحتشد داخل هذا النسق أو ذاك، وتتسمى بأسماء مغايرة. وهذه الأشياء كلها عملة خارج التداول في أنساق تعاني من جراح نرجسية كثيرة، وتمارس عبادة الذات.
هنا مربط الفرس: القاتل علامة إيضاح تدل على وصول الأشباح السوداء من القاع إلى السطح. والقاتل، أيضاً، أعلى مراحل أزمة هذا النسق الثقافي والمعرفي أو ذاك. في الغرب ثمة الكثير من المقاربات والمكاشفة والدراسة واقتراح وسائل العلاج. وهي شائعة في أجهزة الإعلام، والأكاديميا، وأجهزة الدولة.
وفي عالم العرب والمسلمين محاولة للتنصل من المسؤولية، وبدلاً من اتهام النسق بالمرض، تُرمي المسؤولية على عاتق هذا المجنون أو ذاك. بل والأدهى والأمر أن “المجنون” يصبح بطلاً، وتشتغل أجهزة إعلام تنتمي إلى التيار العام في تسويقه وتعويمه كما فعلت فضائية “الجزيرة” مع هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ومع الزرقاوي، ومع بن لادن نفسه، الذي كان بعض المعلّقين لا يذكر اسمه إلا مسبوقاً بلقب الشيخ وبطريقة تقطر ورعاً وتقوى.
حاول التونسي عبد الوهاب المؤدب تحليل “جنون” القاعدة وهجمات الحادي عشر من سبتمبر، من خلال النسق الثقافي والمعرفي للعرب والمسلمين، وعالم الحداثة، ومن المؤسف أنه كان صوتاً صارخاً في البرية. وقد جاءت ثورات الربيع العربي للتدليل على حقيقة هامشية النسق الفرعي، الذي قام بدور الحاضنة لما لا يحصى من القتلة والانتحاريين و”المجانين”، الذين بدا وكأنهم أسياد المشهد على مدار العقد الماضي.
ولكن في تحوّلات الفترة الانتقالية التي خلقتها ثورات هذا الربيع، وهي ما تزال مستمرة، وفي جرائم القتل في تولوز، وفي أماكن كثيرة أخرى، ما يعيد التذكير بحقيقة أننا لم نشف من “الجنون” بعد، وأن “المجانين” لن يُطردوا من الساحة قبل أن يُطرد الجنون من النسق الثقافي والمعرفي نفسه. وهذا وذاك دونه خرط القتاد.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني