”النهضة العربية” في القرن ١٩ كانت في “الموسيقى” أيضاً، حسب كمال قصار. وقبل أم كلثوم كان هنالك تراث كبير لا يعرف الجمهور الحالي عنه الكثير، وأسماء لامعة مثل “يوسف المنيلاوي” و”فتحية أحمد” و”منيرة المهدية”، وغيرهم. أحد أسباب الجهل بتراث الطرب العربي هو أن شهرة”أم كلثوم” مَحَت ما قبلها! كمال قصّار، الذي يملك أكبر مجموعة أسطوانات طرب عربي تغطي بدايات القرن العشرين قام بإنشاء “مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية”، التي كان أول إنتاجها نشر أعمال “يوسف المنيلاوي”، أو “كاروزو الشرق” (١٨٤٧-١٩١١) لمناسبة مئوية وفاته .
كمال قصّار، ماذا أتى بك إلى عالم “الطرب العربي”؟
قصّار: “أنا أحب الموسيقى بشكل عام، وعندما عشت في باريس بعد العام ١٩٧٥ تعرّفت إلى الأوبرا. ولكنني أحب أيضاً “موسيقى الطرب العربية”. عندي “فضول” إكتشاف الجديد في الموسيقى. أول ما فتحت عيوني تعرّفت إلى أم كلثوم وعبد الوهاب. ثم سألت: ألا يوجد غيرهما؟ حاولت أن أكتشف غيرهما، وأن أكتشف أنواعاً أخرى من الموسيقى.
سنة زواجي، في ١٩٧٥، تعرّفت إلى أغاني “ماري جبران” (إسمها الأصلي “ماري جبّور”) وهي لبنانية عاشت في مصر، ثم قضت بقية حياتها في سوريا.
واكتشفت “فتحية أحمد”، وكان يسمّونها “مطربة القطرين”، أي مصر وبلاد الشام، وكانت في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين تُعتَبَر الأولى، وتليها “منيرة المهدية”، ثم “أم كلثوم”، التي كانت تُعتَبَر الثالثة من حيث الأهمية ولكنها، في النهاية،
طمست كل الآخرين!
الشفاف: كيف يتعرّف المرء على هذه الأنواع الموسيقية الآن؟
قصّار: عندما عدت إلى لبنان في سنة ٢٠٠٠، بدأت أبحث عن كنوز جديدة في الطرب العربي. كنت أسافر إلى مصر، وأيضاً إلى بغداد، حيث تعرّفت إلى “الجقمقجي”، وهو عراقي كردي كان موزّع إسطوانات مشهوراً في الخمسينات، حيث كان هو من يوزّع إسطوانات أم كلثوم وفيروز وصباح.
زرته سنة ٢٠٠١ في بغداد وكانت وضعه المالي قد تدهور، واشتريت منه تسجيلات. وسافرت إلى تونس وحلب والشام والقاهرة والإسكندرية، وفيها كنت أشتري تسجيلات غير معروفة وأعمل منها “كاسيتات” أهديها لأصحابي.
الشفاف: أعطنا فكرة عن “تاريخ” ما تسميه موسيقى الطرب العربي؟
قصَار: بعد “النصر الإلهي”، في سنة ٢٠٠٦، نقلنا أعمالنا إلى دبي! في دبي، تعرّفت إلى “فوروم موسيقى” يدعى “زمان الوصل” يُعنى بالموسيقى الكلاسيكية العربية. وفي “الفوروم” اكتشفت أشخاصاً مثلي ويملكون ثقافة موسيقية.
تعلّمت أموراً لم أكن أعرفها. مثلاً، عرفت أن الفترة التي نعرفها، وهي فترة ١٩٠٠-١٩٣٥، هي في الواقع إستكمال لـ”عصر النهضة” في الطرب العربي الذي بدأ منذ بدايات القرن التاسع عشر في مصر. بموازاة “عصر النهضة” الفكرية والسياسية والعمرانية، هنالك نهضة موسيقية تمثل العصر الذهبي للفنون في مصر وبلاد الشام.
في القرن ١٩، أسّس الخديوي إسماعيل “كونسرفاتوار” للموسيقى. وحاول أن يجعل القاهرة مركزاً ينافس إستانبول فجفف مسنقعا في القاهرة وانشأ حديقة الأزبكية حيث تعددت أكشاك الموسيقى، ورعى الفنون والمطربين.
الشفاف: ماذا عن “النهضة” في القرن العشرين؟
قصّار: في بداية القرن العشرين حصلت ثورة تشبه ثورة الطباعة هي ثورة التسجيل فمنذ 1903 إنبرت شركات الاسطوانات العلمية تسجيل ظاهرة النهضة بشكل محموم وبوفرة كبيرة. وتعاقدت هذه الشركات الاجنبية مثل “أوديون” ، و”غراموفون”، و”باتيه”، ام العربية مثل بيضافون أم المحلية مثل شركة ميشيان، تعاقدت مع مطربي وموسيقيي تلك الفترة وكان حصيلة ذللك الآلاف المؤلفة من الاسطوانات. وما يهمنا من هذه الفترة انها شكلت شاهدا لما عبقت به فترة النهضة التي إبتدأت في مطاع القرن التاسع عشر من تجارب أصيلة ولا سيما ابتكار شكل الدور الذي ساد الحياة الموسيقية في مصر وبلاد الشام حتى عام ١٩٣٥.
الشفاف: هل هذه الأسطوانات ما زالت موجودة؟
قصّار: في يوم أخبرني شخص من “الفوروم” عن مجموعة أسطوانات كان يملكها “عبد العزيز عنّاني”، الذي كان مؤرّخ موسيقى مصرياً. عرضت إسرائيل شراء مجموعة “عنّاني” التي كان ورثته يريدون بيعها، فتدخلت “رتيبة الحنفي”، وهي مسؤولة الأوبرا بالقاهرة، وقمت أنا بشراء المجموعة لأن الأوبرا المصرية لم يكن لديها ميزانية لهذا الغرض!
قبل ذلك، اتّصل بي “فردريك لاغرانج” (وهو أستاذ محاضر ومدير قسم الدراسات العربية والعبرية بجامعة السوربون، باريس٤) ، وقال لي: “ينبغي إنقاذ هذا التراث بأي ثمن. ومجموعة العناني هي النسخة الوحيدة عن العصر الذهبي لهذه الموسيقى”! وأمّن لي صلة مع أولاد “العناني”، فاشتريت منهم ٣٥٠٠٠ إسطوانة و٦٠٠٠ ساعة تسجيل!
الشفاف: هذه مسؤولية كبيرة…؟
قصّار: سألت نفسي ماذا أفعل بهذه “الذاكرة” الموسيقية كلها، وقرّرت أن أنشئ مؤسسة لهذا الغرض. تهدف المؤسسة إلى حفظ الرصيد المسجّل والمدوّن للموسيقى العربية بواسطة أحدث الوسائل التكنولوجية، ودعم البحث الأكاديمي والتوثيق العلمي، والسعي إلى تبصرة الجمهور بالموسيقى العربية.
الشفاف: هل اشتريت مجموعات أخرى؟
قصّار: في ما بعد اشتريت مجموعة “متري المر” ، الذي كان موزّع موسيقى. وفي “صيدنايا” بسوريا، اشتريت مجموعة أخرى. ثم مجموعة من الإسكندرية. وفي الصيف الماضي، اشتريت مجموعة تضم ٨٠٠ أسطوانة من “طنطا” بمصر.
الشفاف: ما هو الحجم الحالي لمجموعة الطرب التي قمت بجمعها؟
قصّار: لدينا الآن ٦٥٠٠ أسطوانة معظمها من فترة ١٩٠٣-١٩٣٥، وجزء أصغر للفترة اللاحقة. وهي تشتمل على موسيقى من مصر وسوريا، وبدرجة أقل من العراق وفلسطين. ونحن نقوم بإعادة تسجيلها “رقمياً”.
الشفاف: عمدتم مؤخراً الى إطلاق مشروع نشر أعمال “يوسف المنيلاوي” لمناسبة مرور مئة عام على وفاته؟ من هو “المنيلاوي”؟
قصّار: لأول مرة تنشر الأعمال شبه الكاملة لواحد من أهم فناني العصر الذهبي في ١٠ “سي دي”، وهي تحتوي على ٦٨ قطعة مغنّاة جرى ترقيمها وإعدادها بأفضل الوسائل التقنية.
أما “المنيلاوي” (١٨٤٧-١٩١١) فهو أكثر الفنانين تمثيلاً لمدرسة “النهضة”. غنّى في البلاط المصري والبلاط العثماني، وكان أجره يفوق أجور جميع الفنانين بما فيهم “عبده الحامولي” فكان يتقاضى ١٠٠ جنيه مقابل أداء قطعة واحدة. وصاحب أهم موسيقيّي عصره وأعظمهم.
اشتهر بـ”دور البلبل جاني ” وكان يُلقّب “كاروزو الشرق”. الآن، لا يعرفه الناس، ولكنني أعتقد أن نجيب محفوظ أشار إليه في إحدى رواياته.
الشفاف: هل لديك إهتمامات أخرى غير موسيقى الطرب العربية؟
قصّار: المؤسسة التي أنشأتها تهتمّ أيضاً بتراث الجماعات السريانية والكردية والقبطية وغيرها من الجماعات في العالم العربي، كما تهتم بالرصيد الحي للجماعات الصوفية وكبار قرّاء القرآن.
للإستزادة من الموضوع، نقترح على القارئ مشاهدة مقابلة كمال قصار مع قناة “الجزيرة” بالفيديو:
https://www.facebook.com/video/video.php?v=10150276133020574&comments