إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
وقعت كارثة “درنة” بعد 40 عاماً من حُكم رَعَوي ـ عسكري، حاقد على المُدُن (مُدُن “الطبقة الوسطى”)، وحاقد على التمدن والحضارة. مثله مثل حكم أقرانه في “سوريا الأسد” (حماه، وحمص، وحلب..)، وفي يمن علي عبدالله صالح، وفي عراق صدام حسين، وحتى في مصر الناصرية ولو بدرجة أقل. (بدون أن ننسى حقد حزب الله على بيروت العظيمة، ومسؤوليته عن تدمير مرفأ بيروت.) مع ذلك، لم نجد في تقارير الإعلام (العربي خصوصاً) أي رَبط بين حرب القذافي على “التمدن” والكارثة التي حلت بواحدة من أرقى مدن ليبيا.
أخيراً، يوم أمس، قرأنا مقالة نشرتها جريدة “لوموند” الفرنسية، يعتبر فيها أستاذ جامعة باريس 8 ، (الليبي) “علي بن سعد”، أن الإهمال الكلي للسدود، والتوسع الحضري الفوضوي لمدينة “درنة”، اللذين ضاعفا آثار الإعصار، هما الحصيلة النهائية التدمير الذي قام به القذافي للآليات المؤسسية للمدينة الليبية.
ويقول الأستاذ الجامعي المتخصص بالجغرافيا والعالم العربي:
تخللت الفيضانات تاريخ “درنة” كله. وذلك ما برر بناء سدين، وليس سد واحد. ولكن “إعصار دانييل”، بقوته التي لا تضاهى، لا يمكن أن يُقارن بأي من النوبات التي تعرضت لها المدينة في تاريخها كله. إنه علامة على دخول ليبيا في المستقبل المجهول للتغيرات المناخية في العالم.
والأهم، فقد كشف إعصار دانييل مدى ارتهان حاضر ليبيا، ومستقبلها أيضاً، بماضيها، وخصوصاً بالتِركات المتفجرة التي ضاعفت من الدراما التي عاشتها المدينة.
إن التِركات التي نتحدث عنها ليست تِركة الحرب الأهلية التي أعقبت سقوط القذافي: بالأحرى فإن سببها هو الفوضى التي تسبب بها حكم القذافي، تلك الفوضى التي نجد أصداءها في الفوضى التي تعيشها ليبيا كلها راهنا. وهي نفس الفوضى التي نجدها مباشرةً في الدراما التي عاشتها “درنة”.
إن السدود التي تسبب انهيارهاـ وانفلات ملايين الأمتار المكعبة من المياه التي كانت مخزنة فيهاـ بمضاعفة آثار الإعصارـ لم تشهد أية عمليات مراقبة أو صيانة منذ العام.. 2003! أي منذ حوالي 10 سنوات قبل سقوط القذافي. وقد لعب إهمال السدود خلال ما يقرب من 20 عاماً دوراً كبيراً جداً في إضعافها.
ولكن، مع أن أعمال صيانة السدود توقفت كليا، فإن مخصصات صيانتها ظلت تُصرَف سنويا، وظلت تُسجل على اساس أنه تم تنفيذ اعمال الصيانة.
سلاح دمار شامل
إن ما تكشفه كارثة “درنة” هو نظام جعلَ من الثروات القومية ملكيةً خاصة يتم توارثها، ونظام كان يتم فيه ملء مراكز المسؤولية على أساس “الولاء العشائري” أولاً، ومن ثم كوسيلة لوضع اليد على الثروات القومية. نظام أثر فيه “الافتراس قصير المدى”، والتدخل الزبائني، والأهواء الشعبوية، بشكل خطير، على البيئةـ إلى درجة تحويلها إلى خطر.
اللاعقلانية
إن تلك العقوبة تفسر، جزئياً على الأقل، التناقض المتمثل في تحول مدينة “درنة” إلى الإسلاموية، كما تفسر، بشكل إجمالي، كيف ساعدت الممارسات الاستبدادية على ازدهارالتيار الإسلاموي في ليبيا.
احتكار الإعلام
بعد سقوط القذافي [في عام 2011]، أصبحت “درنة” ملجأ لتحالف من الإسلاميين ومن الثوار المعارضين لاستبداد المشير حفتر. وقد أخضع حفتر المدينة لحصار دامَ عامين اعتبارا من عام 2016، ثم غزاها في 2018 بوحشية كبيرة، والمدهش أن ذلك تم بمساعدة فرنسا التي كان جنودها يحتكون بميليشيا “فاغنر”. وأسفر ذلك عن تدمير جزء كبير من البنية التحتية، وهذا ما يفسر الصعوبات التي تواجه عمليات الإنقاذ، والوفيات العديدة في صفوف رجال الإنقاذ المحليين والدوليين.
وسيلعب هذا التاريخ الحديث دورًا مباشرًا وأساسيًا في الدراما. فمن ناحية، عندما تلقت سلطات شرق ليبيثا معلومات عن اقتراب الإعصار، فإن رد فعل المشير حفتر كان تأكيد سيطرته على المنطقة والحؤول دون أية إضطرابات فيها. وبدلاً من تنظيم عمليات إجلاء السكان، فقد أصدر مرسوماً بحظر التجول لإجبار سكان المدينة على عدم مغادرة منازلهم.
من ناحية أخرى، وبمعزل عن الأجهزة الحكومية والفنية، فقد احتكر مع أبنائه الصورة والإعلام حول سير الإعصار، وحول الإجراءات الوقائية للحماية منه. واستخدم الإعصار كمنصة للتبجح بإدارته وبقدراته للدفاع عن المنطقة. وقد نظر سكان المدينة إلى خطابه على أنه عملية “سياسية” أخرى ولم يصدقوا الخطر الذي يتهددهم حينما صدر التحذير عبر خُطب ممجوجة تحتكر الإعلام.
ولذلك، لم يفكروا في حماية أنفسهم.
وبذلك أطبقَ فكا الخطر على “درنة” وسكانها.