أشعلت “القاعدة” عود الكبريت! فقتلت السفير الأميركي (الذي أسهم في تحرير ليبيا من القذافي)، وأحرقت مقر البعثة الدبلوماسية الأميركية في بنغازي. ومن ليبيا تطاير الشرر: مظاهرات في تونس ومصر واليمن والعراق والسودان (السعودية وبلدان الخليج لم تشهد مظاهرات مماثلة) ومحاولات لاقتحام البعثات الدبلوماسية الأميركية.
حدث هذا تحت عنوان الاحتجاج على فيلم “براءة المسلمين”. وقد بحثت عن الفيلم على الإنترنت، وعثرت على مقطع منه لم أتمكن من إكماله، فهو تافه وسخيف، بلا قيمة بالمعنى الفني أو التاريخي. ومع ذلك، تمكّن هذا الفيلم التافه والسخيف من إشعال أكثر من حريق في أكثر من مكان.
بدايةً: اختطف قاتلو السفير الأميركي، ومشعلو الحرائق شاشة التلفزيون من الثوار السوريين، الذين تراجعت أخبار قتالهم في سورية أمام سيل المشاهد والأخبار العاجلة والتصريحات من عواصم مختلفة اشتعلت فيها الحرائق. وقد حدث هذا كله على الرغم من حقيقة أن هجمات آل الأسد بالطيران والمدفعية والدبابات على المدن والبلدات والأحياء المتمرّدة لم تتوقف، وأن أعداد القتلى في ازدياد.
بيد أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فقد أضفى قاتلو السفير الأميركي، ومُشعلو الحرائق، قدراً من المصداقية على ذرائع تقليدية لآل الأسد وغيرهم من الطغاة الذين أطاحت بهم موجة الربيع العربي: “إما نحن أو الفوضى والتطرّف والعنف”.
وهناك في الغرب، وفي مراكز صنع القرار، والأكاديميا ذات الصلة بالمركّبات الأمنية والعسكرية والسياسية، من يؤمن بذرائع كهذه. وهذا ينطوي في نهاية المطاف على خطر التخلي حتى عن الدعم المعنوي والسياسي للثوار السوريين، والقبول بصيغة سياسية يفلت بموجبها نظام آل الأسد من العقاب، خاصة في ظل الظروف الميدانية في الوقت الحاضر، حيث يتجلى نوع من التوازن على الأرض: لا المعارضة قادرة على التقدّم أكثر، ولا النظام قادر على سحقها.
ثمة في كل ما يجري أكثر من مفارقة من عيار ثقيل: الكل يتكلّم عن الصعود المفاجئ للسلفيين في الشارع العربي. بيد أن محاولة الاستفادة من هؤلاء من جانب الولايات المتحدة وأنظمة الطغاة كثقل مضاد “للقاعدة” بعد الحادي عشر من سبتمبر، نادراً ما تنال قدراً من الاهتمام.
بمعنى آخر نعود إلى نظرية: هل صعود الإسلام السياسي ظاهرة نشأت من أسفل إلى أعلى أم من أعلى إلى أسفل. وقد كان الجواب الأكثر صلة بالواقع، وما يزال، إنها نشأت في كل مراحلها ومختلف تجلياتها من أعلى إلى أسفل. وهذا يعني البحث عنها في شبكات المصالح، والدول، والمال والأعمال، والصراعات الإقليمية والدولية، بدلاً من اختزال ما حدث ويحدث في اللاهوت وأسئلة الهوية.
وفي هذا السياق، لم يكفّ الأميركيون عن لعب أدوار، وممارسة سياسات، تندرج في باب الهندسة الاجتماعية والسياسية، غالباً ما عادت عليهم وعلى العالم العربي بالويل والثبور وعظائم الأمور. وفي الأحداث الأخيرة أكثر من دليل وبرهان. فكّروا أن تشجيع “المعتدلين” في صفوف الإسلاميين سيمكّنهم من عزل “المتطرفين”، فانقلب السحر على الساحر.
في ما يجري في بلدان عربية مختلفة اجتاحتها موجة الربيع العربي ما يلقي بظلال من الشك أو التحفّظ (في أفضل الأحوال) إزاء هذا الربيع. وبقدر ما يعنيني الأمر لا أجد شكوكاً حقيقية، أو تحفظات، تبرر النظر بطريقة سلبية، أو حتى حذرة، إلى هذا الربيع الذي يمثل أهم ظاهرة في تاريخ العالم العربي منذ نهاية الكولونيالية، وصعود القوميات المحلية والعروبية، وحتى يوم الناس هذا. لن تتجلى المعاني النهائية والكاملة لهذا الربيع قبل مرور جيل أو جيلين.
كل ما يمكن الكلام عنه في الوقت الحاضر يتمثل في التذكير بحقائق من نوع: أنها ثورات وطنية ديمقراطية، وأن انفتاح الحقل السياسي بعد عقود من العفن والهواء الفاسد كفيل بتوليد الكثير من عوامل الفوضى والعنف إلى حين.
يمكن الرد على مرافعة كهذه بالقول إن الحقل السياسي كان مُغلقاً في بلدان أوروبا الشرقية في ظل الأنظمة الشمولية، وأن انفتاحه بعد انهيار جدار برلين لم يسفر عن قدر مشابه من الفوضى والعنف. وهذا الرد صحيح طالما لم يضع في اعتباره: النفط وإسرائيل، والهيمنة الأميركية التي غالباً ما تتبنى سياسات متناقضة وقصيرة النظر.
وبالقدر نفسه يمكن القول إن الديمقراطية لا تمثل أولوية في فكر وممارسة القوى التي تمكنت من ركوب موجة الربيع العربي، كما أن وطنيتها، فكراً وممارسة، لا تستمد مصادر إلهامها ورموزها من الكفاح المعادي للكولونيالية، ومشروع بناء الدولة القومية الحديثة. وبالتالي، فإن في مجرد نجاحها، وبهذا القدر من السهولة، في ركوب الموجة، ما يعني أن الرافعة الاجتماعية للثورة الوطنية الديمقراطية ضعيفة، ولا يمكن الرهان عليها في أفضل الأحوال.
وهذا صحيح إلى حين، وطالما لم نضع في الاعتبار حقيقة أن ما حدث ويحدث يمثل حلقة في سلسلة تحوّلات اجتماعية وسياسية معقّدة وطويلة، وأن الثورات لا تحدث في معامل معقمة الهواء، بل على الأرض، وتحت الشمس، وهي ليست معرّضة للسرقة والاختطاف وحسب، وبل وللإجهاض عند بعض المفارق أيضاً. فلنعد إلى تاريخ الثورة الفرنسية، مثلاً. هذا كل ما هنالك قبل فيلم “براءة المسلمين” وبعده.
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني