حتى الفساد له يوم، واليوم الأحد هو يومه العالمي بموجب قرارمن الأمم المتحدة بعد أن اكتشفت “خطورة ما يطرحه الفساد من مشاكل ومخاطر على استقرار المجتمعات وأمنها، مما يقوض مؤسسات الديمقراطية وقيمها والقيم الأخلاقية والعدالة، ويعرض التنمية المستدامة وسيادة القانون للخطر”، وبعد أن باتت ” تقلقها الصلات القائمة بين الفساد وسائر أشكال الجريمة، وخصوصا الجريمة المنظمة والجريمة الاقتصادية، بما فيها غسل الأموال” إلى آخر الأسطوانة التي نحفظها جميعا والتي تتصدر اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.
والفساد، كما الإرهاب والشفافية والديمقراطية والحرية وغيرها، مصطلح ابتذلناه اجترارا وإساءة وتشويها حتى بات بلا معنى، ولم يعد يثير اهتمام المواطن المطحون بين مطرقة سرقة ماله يوميا وسندان انتهاك حياته ذاتها. بل على العكس، فقد تعايش هذا المواطن مع الفساد حتى بات له الصديق المخلص القادر على حل جميع المشاكل، وفتح جميع الأبواب، حتى باب تجنب الموت والعتق من النار. فالمصطلح في وطننا أصبح أكثر من ظاهرة ، انه مؤسسة عالية الكفاءة (كما الإرهاب كما كتبت قبل ثلاثة أعوام في نفس هذا المكان) ، تعمل بلا خوف وبدون ثغرات ، حيث لا إرباك بين المخرجات والمدخلات، وحيث تتحقق الأهداف المرجوة دائما. مؤسسة تتعامل مع المتغيرات بديناميكية ومهارة، وتستجيب لجميع التطورات بمرونة، وتغيير أساليبها وآلياتها كما تشاء. أنها مؤسسة تحكم هرم السلطة والشارع وما بينهما.
في أوطاننا التي تحترم وتجل الفساد كثيرا، وتقيم له مؤسسات وتخصص له كبار الموظفين، يطلقون على الفساد نعوتا تجميلية مثل الفساد المالي والإداري فحسب مما يعطي الانطباع بأن الأمر لا يتعدى مجموعة من الموظفين غير النزيهين الطامعين ببعض القروش لإنجاز هذه المعاملة أو تلك متجاهلين ، كنوع من الضحك على الذقون، حقيقة بديهية لا تحتاج الى عباقرة لاكتشافها وهي أن أصل كل فساد “فرعي” في بلداننا هو فساد سياسي بالدرجة الأولى. فالعراق، في حالتنا هذه وما ينطبق عليه ينطبق على ما سواه من الدول الهاوية التي تسمى بالنامية مجاملة، ليس بفنلندا أو هولندا أو السويد أو الولايات المتحدة حيث يسود القانون على الجميع و تظهر حالات فساد هنا أو هناك. إن الفساد لدينا أصل وليس فرعا وهو أساس النظام السياسي وعصب استمراره. فالمحاصصة السياسية هي ببساطة فساد، وفي ظل المحاصصة تسود المحسوبية والفئوية وقيم الحق المكتسب فيصبح الوطن حصة في غنيمة تغرف الأطراف منها حتى الاستنزاف. وبما أن لكل الشركاء حصص، فمن البديهي أن يسكت هذا عن ذلك، ويحمى هذا ظهر ذياك. ولأن الحصص هي بين أولئك الذين في السلطة والبرلمان والقضاء والإعلام وجميع الأجهزة التي تشكلها هذه الجهات، فلا نتوقع أن تأتي هذه بقانون يهدد هذه الغنيمة بالزوال أو بأجهزة تصادرها، ومن ذا الذي يسائلها بل ويقدمها للمحاكمة ويعاقبها، ولنا في هيئة النزاهة بالعراق التي أمسك أعضاءها بخناق بعضهم البعض أسوة حسنة.
ومثل النظام المشوه هذا، تأتي أنظمة العسكرة والحزب الواحد والقائد الأوحد، التي بدورها تعتبر حاضنات الفساد التقليدية، فالامتيازات حصر على الفئة أو الحزب والحاكم الفرد، والفتات للحاشية والمصفقين والمطبلين، والعظام للجلادين والحرس وهي حلقة متكاملة تنمو تدريجيا باستمرار هذه الأنظمة لعقود ، ولا صحافة ولا قضاء ولا مجتمع مدني ولا رأي عام، ومن الأب للابن والحفيد ، فكلهم ملهمين، وجميعهم أرسلهم الله في المرحلة التاريخية الاستثنائية لإنقاذ الأمة وابتلاع ما تبقى من ثرواتها.
أن الفساد السياسي هو الأب الشرعي لكل أنواع الفساد الأخرى وأشكاله لا حصر لها، فحكم الحزب الواحد الاحد والفرد المؤله فساد، واستغلال الدين سياسيا فساد لا يقل خطورة ويقود الى نفس النتائج، والمتاجرة بالديمقراطية فساد، وتصنيف المواطن عرقيا ومذهبيا فساد، وقد رأينا جميعا ذلك وعشناه وخبرناه، فكلها تؤدي الى مصادرة الأمة بشعبها ومواردها، وكلها تؤسس لنخب فوق القانون، ولم يعد هنالك المزيد مما يقال في هذا المقام.
أن الأرقام الفلكية للفساد في العراق مفهومة إذا نظرنا الى واقع النظام السياسي والاجتماعي السائد، فهذا خط أحمر لأن هذا هو السيد أبن السيد، وذلك خط أحمر لأن فلان ناضل ضد النظام السابق، وذلك خط أحمر لأن علان شريك في العملية لسياسية، وهذا لأنه محمي من هذه الدولة أو تلك وهكذا، وتتسع الخطوط الحمراء لتشمل العائلات والأتباع واتباع الأتباع وتصل للحرس والحمايات والبوابين وحتى لصبيان الشاي. وسابقا، كان فلان أبنا للرئيس وعلان أبن عمه، والثالث خال فرد في حمايته، والرابع من قريته، وهكذا تغير الشكل ولم يتغير المضمون. ولذا يبدو الحديث عن مكافحة الفساد عبثا وتهريجا، فالمقدمات الخاطئة تقود الى نتائج خاطئة، وما أكثر المقدمات الخاطئة.
أكتب هذا في اليوم العالمي لمكافحة الفساد وقد أطاحوا أمس بالمفتش العام للخارجية الأميركية بتهم تتعلق بالفساد، وحتى في الصين القصية أعدموا وزيرا قبل أشهر بتهم الفساد أو التستر عليه أو حتى لتجاهل ممارسات فاسدة، والقصص من العالم أكثر مما تحصى. أما عندنا فلا يقف فاسد أمام محكمة أبدا، وإن وقف لذر الرماد فانه لا يدان، وأن أدين فإن الحكم لا ينفذ أبدا.
وبالطبع، فحين ينشأ الفساد ويترعرع، تزدهر الجريمة العامة والخاصة والإرهاب وكل ما يمكن للقارئ إضافته من تسميات، فإن كان بإمكانك شراء الشرطي والضابط والموظف العام، فما يمنع الارهاب والجريمة من تأسيس مؤسسات لا تقل ازدهارا وتطورا عن مؤسسة الفساد بل وتشاركها أموالنا وأرواحنا.
ومعضلة الفساد عراقيا وعربيا و”عالم ثالثيا” هي انه أصبح ثقافة وليس ممارسة فحسب، فتسمع الجمهور يتحدث بإعجاب عن ذلك الذي “دبر أموره” ممزوجة بأعذار من قبيل “الكل تسرق فلما لا يفعل هو أيضا ذلك” وهكذا، وترى العدد المستعد “لتدبير أموره” في تزايد مستمر.
لن يعد الحديث المكرر عن الإنسان المنتهك والديمقراطية المغدورة والثروات المسلوبة والوطن الذي يذوي مثيرا ، فهذا بات ممجوجا ولم يعد يقرأه أحد، وليس لنا أن نحلم بدولة القانون الذي لا يستثني أحدا، فإننا لم نعشها ولم نر شكلها ولا تبدو قريبة المنال، فهذا الحلم عصي على التحقيق في ظل ما يجري في أوطاننا منذ عقود. أن دولة النظام والقانون التي تصرخ بها جميع الأنظمة والأحزاب والأفراد والناشطين لن تتأسس ما لم يتأسس أولا وعي شعبي ديمقراطي يؤسس لصحافة حرة ومجتمع مدني ناشط يقارع الفساد من الشارع إلى أعلى الهرم السلطوي وينتخب سلطة تشريعية يرمي أفرادها ببزاتهم الحزبية خارج قاعة البرلمان حيث يصبحون ممثلين للشعب بأكمله، وحيث تنتخب حكومات لها شجاعة المصارحة والتنحي عند الفشل ، وحيث لا تغدو هنالك قيمة أمثل وأسمى من الإنسان.
من حقنا في اليوم العالمي لمكافحة الفساد أن نحلم، ومن حق مؤسسة الفساد العملاقة أن تستمر بالسخرية منا بالاحتفال بهذا اليوم معنا عبر هيئات النزاهة ومكافحة الفساد التابعة لها، فهي الباقية ونحن الراحلون.
skhalis@yahoo.com
* كاتب عراقي