تحدثنا في مقال سابق قبل عدة اعوام عن الجوائز الآسيوية التي تقدم إلى المبدعين والنشطاء في القارة الآسيوية، وقارناها ببعض الجوائز العربية التي بدأت أعدادها في الإزدياد في العقدين الأخيرين، وأبدينا على الأخيرة عدة ملاحظات وعلامات استفهام حول عمل اللجان المكلفة باختيار الاعمال الفائزة والمعايير المتبعة في الاختيار، وقلنا انها لا تخلو من الانحياز تبعا لهوية المؤسسة المانحة، والهوى الفكري لأعضاء لجان التحكيم، ناهيك عن منح الجوائز في الغالب الأعم مقابل أبحاث ودراسات لا صلة لها بمشاكل العالم المعاصر أو لا تضيف إلى التراث الانساني جديدا تنتفع به البشرية، بل وإقتصار منحها على الرموز الفكرية والثقافية والأكاديمية، بمعنى إستبعاد الشخصيات الطبيعية والاعتبارية التي تناضل من أجل مجتمعات اقل فسادا وتمييزا وأكثر ديمقراطية وعدالة ومساواة. وبكلام آخر فإنه يندر إقدام مؤسسات الجوائز العربية على منح جوائزها لمن يضحي بوقته وجهده وماله من أجل التغيير نحو الأفضل، في الوقت الذي تتسابق فيه نحو تكريم أسماء ثبت نفاقها وانتهازيتها وتقلباتها الفكرية، بل تبشيرها بالأفكار المتخلفة والرجعية، وترويجها لطروحات أكل الدهر عليها وشرب ونام.
وهذا، بطبيعة الحال، يختلف اختلافا جذريا عما يجري في شرق آسيا. فلو أخذنا جائزة ماغسايساي، على سبيل المثال، وهي جائزة أنشأت في عام 1957 تخليدا لذكرى ثالث رؤساء جمهورية الفلبين في حقبة ما بعد الحرب الكونية الثانية “رومان ديل فييرو ماغسايساي” الذي قتل في حادثة تحطم طائرة في عام 1956، والذي تميزت شخصيته وقيادته بالنزاهة والبذل والعطاء والولع بخدمة شعبه ودعم حرياتهم وحقوقهم الأساسية، لوجدنا أن نطاقها الجغرافي يتجاوز الفلبين ليشمل كل دول جنوب آسيا و الشرق الأقصى. وهذه الجائزة التي يحصل الفائز بها على شهادة تقدير وميدالية ومبلغ 50 ألف دولار وتعادل مكانتها مكانة جائزة نوبل العالمية، عادة ما يقوم الفائزون بها بالتبرع بقيمتها إلى الفقراء والأيتام والمعوقين وضحايا الحروب والعنف والتعذيب، الأمر الذي لا يحدث الا نادرا عند الفائزين بالجوائز العربية الأكبر قيمة بعشرات المرات.
وجائزة “ماغسايساي” للعام الجاري شهدت ما يدلل ويجذر ما أسلفنا قوله. إذ فازت بها إمرأتان إضافة إلى رجلين وشخصيتين إعتباريتين. وهؤلاء تصدرتهم السيدة “حبيبة شرابي” (55 عاما) حاكمة إقليم باميان الأفغاني، وهي المرأة الوحيدة التي تشغل منصب حاكم في أفغانستان التي عانى نساؤها طويلا من الظلم والتمييز على أيدي قادة طالبان ومن قبلهم قادة المجاهدين. وقد منحت الجائزة لشرابي، التي تنتمي إلى أقلية الهزارة، تقديرا لدورها الرائد في بناء حكومة فاعلة ضد المصاعب الجسيمة التي يواجهها الافغان وسط الفقر والتمييز والعنف والمحن السياسية والعادات الاجتماعية السقيمة. أما الفائزة الثانية فقد كانت “لاهباي سينغ راو” (64عاما) وهي مؤسسة إحدى منظمات المجتمع المدني في بورما (ميانمار) التي اخذت على عاتقها المساعدة في اعادة تأهيل مجتمع دمره الصراع المسلح والديكتاتورية العسكرية والتمييز العرقي عبر تشجيع الناس على تبني ثقافة التسامح ونبذ العنف والتمييز. وتنمي لاهباي كزميلتها الافغانية شرابي إلى الأقليات وتحديدا إلى أقلية الـ “كاشين” التي تعرض أفرادها إلى التهجير والعنف الممنهج والتمييز الديني على أيدي النظام العسكري الحاكم في رانغون.
وفاز بالجائزة هذا العام ايضا الطبيب الفلبيني “أرنستو دومينغو” (76 عاما) تقديرا لجهوده في توفير الرعاية الطبية الرخيصة للفقراء والمعوزين في بلده، وعمله الدؤوب لتلقيح الملايين من الفلبيين ضد فيروس الإلتهاب الكبدي. كما فازت بالجائزة منظمتان الأولى هي لجنة مكافحة الفساد في اندونيسيا المعروفة بإسم “ك بي ك” التي مــُنحت الجائزة تقديرا وإعترافا بدورها المشهود في مكافحة الفساد والتشهير بالمفسدين وجلبهم إلى القضاء منذ تأسيسها في اوائل التسعينات في أندونيسيا المصنفة في المرتبة 118 ضمن قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم والتي تتضمن 180 دولة، والمعروف أن هذه المنظمة الاندونيسية كانت سببا في محاكمة أكثر من مائة مسؤول حكومي منذ عام 2003 ، وكان من بين هؤلاء مشرعين ومصرفيين ووزراء وشخصيات حزبية بارزة من أمثال “ميراندا كلثم” نائبة رئيس المصرف المركزي، و “باسكه زوسيتا” المشرع السابق، و”أنجلينا سونداك” العضو البارز في الحزب الحاكم. أما المنظمة الفائزة الثانية فهي منظمة “شاكتي ساموها” (جماعة القوة) النيبالية المناهضة للإتجار بالبشر والتي أسسها الناجون من هذا العمل البشع في نيبال، فساهموا بذلك في التقليل من إمتهان كرامات النساء وإستغلال الأطفال لأغراض دنيئة.
وفي تصريح صحفي للسيدة “كارمينسيتا إبيلا” رئيسة مؤسسة ماغسايساي حول الفائزين بالجائزة هذا العام قالت: أنهم منحوا الجائزة لأنهم” شاركوا بعمق في إيجاد حلول مستدامة لمشكلات اجتماعية تبدو مستعصية في مجتمعاتهم، وتــُحدث أضرارا بحياة الملايين من المحاصرين بالفقر والجهل والتمييز والاستغلال.
وبالرجوع إلى قائمة الفائزين بهذه الجائزة منذ تأسيسها، نرى الهند على رأس قائمة الدول التي فاز مواطنوها ومنظماتها بالجائزة (50 مرة)، تليها الفلبين (48 مرة)، فتايلاند (21 مرة)، فاليابان (18مرة)، فإندونيسيا وكوريا الجنوبية (17 مرة لكل منهما)، فالصين (12 مرة) فباكستان وتايوان (11 مرة لكل منهما)، فماليزيا وبنغلاديش (10 مرات لكل منهما). وفازت شخصيات ومنظمات سريلانكية 8 مرات، وهونغكونغية وكمبودية 6 مرات، وبورمية ونيبالية 3 مرات. أما سنغافورة ولاوس وتيمور الشرقية وأفغانستان فقد ورد إسمها مرة واحدة فقط في القائمة.
وجملة القول ان العرب مدعوون لتأمل هذا النموذج الآسيوي الوضاء في كيفية توزيع الجوائز والمعايير المطبقة فيها والاعمال التي يجب ان تستهدفها، بدلا من تقديم جوائز مالية سخية لاناس لم يقوموا بأي دور في مجتمعاتهم سوى كتابة دراسات او ابحاث لا تقدم او تؤخر.
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh