رواج رواية »عزازيل« لـ يوسف زيدان قد يعود إلى أن الرواية جديدة في الأدب العربي. انها رواية تاريخية وهذا نوع لم يدرج كثيرا بعد جرجي زيدان ولم تكن الأعمال القليلة التي صدرت في هذا السياق ذات قيمة. ثم أن عزازيل رواية موسوعية ثقافية أي أنها تستثمر تبحراً علمياً وهذا نوع أكثر ندرة ان لم نقل أنه مفقود. عزازيل تعود إلى تاريخ الكنيسة المسيحية والصراع حول الطبيعتين وبالضبط إلى نسطور والمذهب النسطوري الذي أدين في مجمع نيقيه. أما الذي أثار ردوداً عنيفة فهو انحياز الرواية الى الأريوسية والنسطورية باسم العقل، العقل الذي يرى في التثليث راسباً لعقيدة مصرية قديمة كما يرى ذلك الراسب المصري في مواضع كثيرة من اللاهوت المسيحي. لقد بنت المسيحية على ديانات فرعونية اخناتونية وغير اخناتونية. اعادة الاعتبار للأثر المصري في الديانة المسيحية لا ينحصر هنا فحسب. الصراع مع النسطورية كان مركزه الاسكندرية وهنا يحسب للكنيسة المرقسية تأثيرها المركزي في صياغة الايمان المسيحي، لا تحبذ الرواية هذا التأثير سابقا ولاحقا وتدينه باسم العقل الذي يجد في نسطور وأريوس قبله ممثليه. الرواية إذن مُراجِعه بكل معنى الكلمة. انها ردة متأخرة على الايمان الحالي واعادة اعتبار لما اعتبر في حينه هرطقة وانشقاقا ولما يفترض أنه غدا خارج هذا الايمان منذ ذلك الحين. لا بد أن هذا جرأة وهرطقة جديدة لكنها بالطبع أقل مجازفة ومخاطرة من تلك التي كانت لسلمان رشدي في »آيات شيطانية« اذ لا يواجه زيدان عقيدة الردة ولا فتوى بقتل المرتد. سيكون ارتداده لذلك ميسوراً إلى حد ولن يحتاج الى الاختفاء في حراسة الشرطة. ليس في المسيحية خطر يحيق بالمراجعين والمرتدين كذلك الخطر الذي يحيق بالمسلمين أو حتى بالشيوعيين في الأنظمة الشيوعية السابقة، لا أعرف اذا كان يوسف زيدان مسيحيا ولا استغرب ان يكون مسلما فمحاكمته للمسيحية باسم العقل لا تخالف المحاكمة الاسلامية للعقيدة المسيحية، وما يبدو غير معقول للمسلمين يبدو غير معقول لراهبه النسطوري. ليس هذا مستغرباً فالرؤيا الاسلامية لا تختلف جوهرياً عن الاريوسية والنسطورية لكن رواية هرطقة مسيحية في مجتمع ذي غالبية اسلامية. بل في مجتمع تناضل فيه الأقلية المسيحية من أجل نيل حقوقها، لن تجد في مواجهتها سلطة قوية. بل يخشى ان تجد مسايرة من هذه السلطة. وأن تستثمر كحجة على الايمان المسيحي في جملته. كما ان رواية كهذه تدعونا إلى التساؤل اذ كان في الامكان نشر رواية ذات هرطقة إسلامية. ماذا تكون النتيجة عندئذ وهل سيكون صاحبها في أمان.
غير أن »عزازيل« ليس فقط مراجعة للجدل الكلامي المسيحي. انها ايضا تاريخ العسف الذي ساست به الديانة المنتصرة والمتربعة منذ ذلك الحين، في السلطة، مجتمعها، لقد أغرقت بالدم خصمها الوثني وساست بالعنف انشقاقاتها الداخلية. كان الضحية الأولى أب الراهب الراوية الذي قتله مسيحيون في مذبحة ضد الوثنيين، وكانت الضحية الثانية العالمة التي سحرته بعلمها وجمالها هيباتيا ومنها اشتق اسمه في الرهبنة هيبا، والثالثة العشيقة التي رعته وغمرته بالحب ولن تكون الضحية الأخيرة نسطور الذي كان له بمثابة الأب. كان ذلك قبل التفتيش، لقد انتصرت المسيحية منذ بدء أمرها بالقوة، اقتلعت الوثنية بالعسف والدم وتوحدت الكنيسة بالنبذ والحرم، لن يكون هذا بعيدا عن الشيوعية والنازية وعن كل عقيدة شاملة تفرض ايمانها بالحديد والنار وتجرّم كل مخالفة او اختلاف. لسنا بعد في التاريخ الكنسي ولكننا نستشرف الحاضر. لا يخفي زيدان في الرواية انحيازاً للوثنية حاملة الفلسفة والحرية الفكرية والعلوم كما تجلت في هيباتيا لكن مذبحة الوثنيين ونبذ نسطور هما ايضاً احراق الكتب والهولوكست والمحاكمات الستالينية في أيامنا. ثم ان هيبا الراوية وبطل الرواية مثقف حديث اذا جاز القول، ليس فقط بموسوعيته وعالميته (لغاته العده وسياحته بين القدس والاسكندرية وسوريا) لكنه ايضا كذلك بشكوكيته الدائمة وتمزقه بين ايمانه غير الاكيد رغائبه غير المنكورة تماماً. انه كذلك ايضا باستقلاله. فهو صديق نسطور ولربما حاباه لكن بدون أن يكون نسطورياً، او بدون ان يغدو مناضلاً في سبيل النسطورية. لقد هاله ان يرسله نسطور الى الاسكندرية لمقارعة البابا كيرلس، لم يكن هذا نوعه ولا غرضه وقد سري عنه حين عاد نسطور عن طلبه. ليس هيبا متيقنا من شيء لا من افكاره ولا من رغائبه ولا من غيره، انه تقريباً معلق بين هذه جميعها. لا يتقدم خطوة في سبيل أي منها ويبقى على مسافة منها جميعاً. انه بذلك المثقف الحديث منذ كافكا الى اليوم. مثقف حديث باستقلاله وشكوكيته وحسه النقدي. هكذا نخرج من التاريخ إلى اليوم وإلى العصر.
ليس هناك قراءة للماضي لا تقصد الحاضر. لكن رواية يوسف زيدان تاريخية بل هي نبش في دفائن تاريخ شبه مكتوم، فعليه ما يشبه الحرم، واسترجاعه واظهاره وتجسيده الروائي خصوصاً عصب الرواية. يعود زيدان شأن، امبرتو اكو في »اسم الوردة« إلى العصور الوسطى، ومثله يسوح في أديرتها وهرطقاتها وظلامياتها. نسوح في عزازيل في أديرة الاسكندرية والقدس وسوريا. لا بد أن لهذه الجغرافيا الدينية سحرها. كما اننا في قلب الجدل الكلامي وفي قلب الهرطقات وفي قلب التنازع بين الحواضر الكنسية وفي قلب السلطة المسيحية او المسيحية الصائرة الى السلطة. مع كل ذلك يخامرنا شعور بأن تاريخية الرواية رغم كل هذا النبش الأكيد بل والحفريات التاريخية غير كافية، نشعر بأن تبحر الرواية وموسوعيتها، لا أدري كيف أقول ذلك، مكفوفان. الديكورات التاريخية وافية خاصة في الاسكندرية حيث نطل على اجتماع الوثنية الغاربة والمسيحية المنصورة. النبش في لفائف الجدال الكنسي واف ايضا (أتكلم دائما من الناحية الروائية) لكن يتراءى لي ان النقاش العقلاني للمسيحية لا يروي (من الري). هناك اكتفاء بذلك يكاد يختفي معه الجانب الأكثر اعتاماً ولا عقلانية. ان كشف الجذر المصري القديم للتثليث والمحاكمة العقلانية للتثليث سياق لا نجد فيه الأسرار والباطنية والروحانية المصاحبة لكل دين. »هيبا« يعترض في موضع من الرواية على نسبة الايمان إلى العقل، لكن الرواية لا تفعل شيئا آخر. شخصية هيبا اذا تتبعنا فصولها شخصية اشكالية إلى حد بعيد. انه راهب مسيحي لكن كل مصائبه جرتها عليه المسيحية. قتلت المسيحية المنتصرة اباه وملهمته وعشيقته وأطاحت بأبيه الرمزي. أي ان هيبا بلا شك يحمل تجاه المسيحية عاطفة مزدوجة، كره وحب بل ان افكاره وحياته توحي ان ثمة شقاً وثنياً في شخصيته. لكن هيبا مع ذلك ومع كل علمه لا يعاني كثيرا هذه التناقضات ولا تبدو ذاته مسرحاً فعليا للتنازع بين المسيحية والوثنية في لحظة اشتباك تاريخي حاسمة. انه سلبي شكوكي تجاه ذلك كله وهو بذلك مثقف حديث أكثر مما يجب. انه يتصرف كما لو أن هذا الصراع قد افل او لم يعد ذا بال وهذا ما قد يكون عليه المؤلف، يوسف زيدان نفسه المعاصر، لا هيبا الذي عاش في قلب المعركة وفي زمنها.
أمر آخر هو اللغة، لم تتعرض اللغة لتزمين. انها، بحسب ادعاء الكتاب، ترجمة عن السريانية في القرون الأولى للمسيحية. لا أعرف كيف يمكن ان تتجلى السريانية القديمة في ترجمة عربية يعود زمنها للعام ٢٠٠٤ بحسب النص ايضا. لا أعرف كيف يمكن ان يكون الايحاء اللغوي بقدم النص السحيق مع حداثة الترجمة القريبة. لا بد ان المؤلف عانى مسألة كهذه لم يكن الجواب عليها سهلاً. لكن الحل الذي انتهى اليه لم يكن حلاً. استبعد ان تكون الترجمة بلغة حديثة لكنه ايضا لم يتخيل لغة قديمة مقابلة، هكذا وجدنا نصا منمقا ذا بلاغة مطاطة مبالغة، أي لغة بلا زمن وان ادعت قدما غير محدود ولا متعين، لغة تدعي انها القدم وان كانت بلا قدم محدد. احسب ان لغة كهذه شوشت احساسنا الزمني وجعلت تاريخية الرواية ملتبسة.
ثم في النهاية لم نفهم هذا الحوار مع عزازيل (ابليس) الذي يوشي الرواية ويتخللها، انه لازمة بلا طائل، في النهاية نمتدح نصا جدته اخذتنا وأخذته احيانا. لكنه يبقى مع ذلك فريداً في أدبنا، تاريخية وموسوعية وجرأة.
إقرأ أيضاً:
عزازيــل وحــق الهرطقــة لخمسماية سنة ونيف “زمطت” الملكة ايزابيل داراغون من اعدام محاكم التفتيش الباباوية لها لوعاد الاندلسي بالع مكتبته كريستوف كولمب خائباً من اكتشاف الهند من الغرب تبعا لنظرية الارض التي تنافي الكتب (المقدسة)..!!؟ والذي حدث ولاول مرةان السدة الباباوية ومحاكمها اللاهوتية انعمت على هذه المرأة المتمردة على انبياء العهدين القديم والجديد بعد نجاح مبعوثها في حملته الاستكشافية بإكتشاف عالم جديد خلف بحر الظلمات باعلى انعام لم يحزه اي لاهوتي ولا اي قديس من قبل فأطلق بابا الفاتيكان على ايزابيلا الاراغونية لقب: ايزابيل الكاثوليكية ومع الفاتيكان وباباواته لا مقارنة ثقافية ولا علمية معرفية بينه وبين امثال بن لادن اواي… قراءة المزيد ..