بعد خمسة أشهر على انقلاب ”القمصان السود” وإخراج حكومة الوحدة الوطنية إلى صفحات التاريخ، أطل نجيب ميقاتي معلناً حكومته التي كان مفروضاً كما قال في بيان إعلانها إنها تمثل انقاذ لبنان من الفساد المالي والميليشيوي والسرقة والبناء غير الشرعي، حكومة كان أصحابها يقولون إنهم يريدون بإنشائها قبل عام من اليوم أن يحرروا لبنان من الفوضى إلى رحاب ”الإصلاح والتغيير” وكذلك إلى منطق الكف ”النظيف والطاهر”، عام بالكامل شهد اللبنانيون فيه الكثير ولكنهم بالتأكيد لم يشهدوا فيه أي مآثر عظيمة تلتقي بشعاري ”الاصلاح والنظافة” وعدم الكيدية في التعاطي السياسي.
إسقاط حكومة الوحدة الوطنية قبل عام ونصف لم يكن أمراً عادياً، بل كان حدثاً سيئاً دمّر الكثير من المفاهيم التي أنشئت على أساسها حكومة الوحدة الوطنية، وأساس إنشائها ”اتفاق الدوحة” الذي كبح جماح سلاح ”حزب الله” ووضعه جانباً بعد دخوله بيروت في ايار 2008 وقيامه بعملية انقلاب عسكري أعادت بالذاكرة الشعب اللبناني إلى مرحلة الحرب الأهلية السيئة الذكر.
في استعادة لمرحلة اسقاط الحكومة، كان وزراء ”حزب الله” ووزراء ”التيار الوطني الحر” والحلفاء يرفضون تسيير عمل الحكومة إلا بعد اتخاذها موقفاً واضحاً يقضي بتسليم اللبنانيين من ضمن لائحة 33 شخصاً المطلوبين في سوريا، كان القرار واضحاً بالنسبة لحلفاء النظام السوري في تلك اللحظة، الضغط بهذا الاتجاه ومنع تسيير عمل الحكومة والناس للوصول إلى اسقاط حكومة الوحدة الوطنية التي يترأسها سعد الحريري، والاتيان بحكومة متحالفة مع النظام السوري، تنفذ مطالبه وتقوم بدورها المطلوب في كثير من الملفات وخصوصاً في مسألة وصل خط التحالف الممتد من بيروت إلى دمشق وبعضاً من عراق المالكي وصولاً إلى طهران.
تطابقت عمليات الترغيب والترهيب على كل القوى الاستقلالية اللبنانية، رسائل تهديد بإشعال مناطق، وعروض مغرية لمن ينضم إلى جنة الانقلابيين، وعروض شبه عسكرية في مناطق محددة رافقها حملة إعلامية هدفت إلى تفريغ المشهد الداخلي من محاولات التهدئة التي مارسها فريق الأكثرية حتى تلك اللحظة.
في إطار التهويل الذي مورس لاسقاط الحكومة نجح الانقلابيون في سحب أحد الوزراء من لائحة المحسوبين رئيس الجمهورية ودفعه إلى تقديم استقالته من دون العودة إلى مرجعيته السياسية، كانت تلك الاستقالة بمثابة خيانة لاتفاق واضح ارتبط باتفاق “الدوحة”.
في المرحلة التي تلت استقالة الحكومة، استمر تصريف الأعمال قائماً على أفضل ما يمكن تقديمه، فأتت قرارات رئيس الحكومة سعد الحريري في تأمين اللاجئين السوريين إلى لبنان التزاماً معنويا مع شعب شقيق وكذلك التزاما بالمعاهدات الدولية التي تفرض حمايتهم، اضطر ميقاتي وحكومته الى التزام هذه القرارات، ولكنها توقفت حيث هي وذلك بسبب الضغوط التي قام بها النظام السوري على حكومة أجبر حلفائه على قيامها بسرعة بعدما ظهر أن الانتفاضة السورية أقوى من القمع.
في بداية الثورة السورية لجأ آلاف من المواطنين السوريين إلى شمال لبنان ولذلك أصدر الرئيس الحريري قراراً للهيئة العليا للإغاثة بتغطية اللاجئين في مناطق الشمال، ولكن مع عهد الحكومة الميقاتية صار عدد اللاجئين السوريين أكبر بكثير ووصلوا بانتشارهم إلى مناطق البقاع، ومع ذلك لم تقم حكومة “النأي بالنفس” بالتغطية الانسانية لهذه المناطق، وترك اللاجئون فيها لوحدهم يعتمدون على عمل بعض الجمعيات الخيرية.
قبل بداية عمل حكومة الميقاتي وصولاً إلى اليوم كان قادة قوى الثامن من آذار يؤكدون أن حكومتهم هي حكومة والأمن والثقة ومنع الاشكالات، ولكن ما حصل خلال هذا العام أظهر العكس، ففي جردة أولية تبين أن عدد الاشتباكات والمشاكل الأمنية تخطى خلال هذا العام مشاكل عامي الـ 2007 والـ 2008، وشهد ايضاً تراجعاً في نواح أخرى حيث انفلت حبل البناء غير الشرعي على اراضي الغير والمشاعات في المناطق المحمية من حلفاء ميقاتي، وبعدها انفلت حبل السرقات الفردية والمنظمة التي طالت عدداً كبيراً من المؤسسات المصرفية، فيما غرقت الحكومة وأغرقت البلاد بمشاكلها المتتالية.
أما إطلاق النار في مناسبات عديدة إضافةً إلى الاشتباكات المتنقلة بين أبناء الفريق الميليشيوي الواحد ظلا سيدا الموقف، فقد انفلت عقال الاشكالات في الضاحية الجنوبية لبيروت بين عائلات كبيرة ضد عناصر “حزب الله” كما انطلقت الاشكالات في بيروت وطرابلس بين “جبل محسن” و”باب التبانة” بغياب واضح لأي موقف تهدوي للحكومة التي بدل أن تمنع الانهيار وقفت موقف المتفرج تاركة البلاد تغرق في أزمة جعلت العديد من الدول الخليجية تمنع أبنائها من زيارة لبنان.
قبل عام وحين تم اعلان الحكومة وقف أنصار النائب طلال ارسلان على طريق بيروت صيدا ليقطعوها ويطلقوا الرصاص رفضاً للمنصب الوزاري الذي أعطي لأميرهم، كادت أن تطير الحكومة لولا جهود خارقة بذلت من قبل “حزب الله”، وكان ذلك بداية فقدان وزن المؤسسات لصالح الفئات والأحياء والأشخاص.
في عام حكومة “فقدان الوزن السياسي والأمني” تعرض رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع لمحاولة اغتيال دقيقة جداً على يد “مجهولين”، عملية نوعية جداً كادت أن تجعل من أحد قادة 14 آذار شهيداً، تلاها عدة محاولات اغتيال لم يعلن عنها كان أبرزها محاولة اغتيال عدد من قادة 14 آذار والنائب في جبهة النضال الوطني أكرم شهيب، وصولاً إلى محاولة اغتيال النائب بطرس حرب.
أما الحضور الدولي للحكومة اللبنانية فقد غاب كلياً عن المشهد الذي كان يتمتع به لبنان. فالدور الخارجي والعلاقات الدولية لم تكن على سلم أولويات هذه الحكومة، بل اختفى مشهد اساسي تمتع به لبنان في السابق وهو الحضور الدائم لرؤساء الدول العربية والأجنبية، ليحضر مكانهم زيارات مكوكية للسفير السوري إلى الرؤساء مطالبا بتسليم حكومته معارضين هربوا من جور حاكم دمشق.
في عهد هذه الحكومة فقد لبنان الكثير من مزاياه، أولها مزية الحريات التي صارت على قاب قوس أو أدنى من بندقية يلهو بها شاب في أحد الشوارع، وفقد لبنان مزية حماية اللاجئين الذين تعرضوا للاختطاف والتسليم في سوريا، فيما لا يمكن نسيان الاعتداء على مجموعة من الناشطين اللبنانيين أمام السفارة السورية في منطقة الحمرا بعد رفعهم لافتات تنادي بالحرية في سوريا.
عام فقدان الوزن السياسي يعتبره البعض من أسوأ الأعوام، ففيه سقط عدد كبير من المواطنين اللبنانيين قتلى رصاص الخطأ، وسقطت أيضاً هيبة الدولة أمام دوريات ميليشيوية تخطف وتتنقل في شوارع العاصمة وغيرها من شوارع لبنان.
قد يقال في يوم من الأيام إن لبنان مرّ بعهود سيئة، ولكن سيوصم عهد هذه الحكومة بالأسوأ، لأن ما حدث فيها من انزلاق في العلاقات السياسية بين المتحالفين في الأكثرية الجديدة دليل آخر على فقدان مشهد العمل السياسي الحقيقي والتوجه إلى مرحلة أعلى الأرقام القياسية في إشعال الاطارات وغغلاق الطرق والقتل على الحواجز وخطف المواطنين لدفع دية مالية.
إنها حكومة الانقلاب على لبنان فلا يمكن استغراب أن تصل الأمور إلى هذا الحد.