فلنفكر في ميداني “التحرير” و”رابعة” بطريقة مجازية. اقترن التحرير بالثورة التي أطاحت بمبارك. ويقترن اسمه، اليوم، بالموجة الثورية الثانية التي أطاحت، في الثلاثين من يونيو (حزيران)، وما بعده، بحكم جماعة الإخوان المسلمين.
ما بين الموجة الأولى والثانية أصبح “التحرير” مزاراً وعاصمة للحرية في مصر. وإذا كان لكل كائن من اسمه نصيب، فإن مفردة التحرير، التي تنطوي على دلالة الحرية، وعلى فعل يحققها، ترفع الميدان إلى مرتبة الأيقونة في الفضاء الرمزي العام.
التحرير في قلب قاهرة الخديوي إسماعيل، الذي أراد لها أن تضاهي باريس. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يكون ميدان الإسماعيلية أوّل ما أُطلق عليه من الأسماء. ولم يكن من قبيل الصدفة، أيضاً، أن يصبح اسمه ميدان التحرير، بعد ثورة العام 1919 للتدليل على تحرر مصر من الاستعمار. وقد استقر الاسم بصفة نهائية في عهد عبد الناصر.
ومن بين ما يُروى عن المكان، أن تسمية ميدان التحرير في العام 1919 جاءت بعدما خرجت المناضلة الوطنية، وأوّل داعية لتحرير النساء في الشرق، هدى شعراوي، على رأس مظاهرة نسائية، ونـزعت خمارها في الميدان نفسه احتجاجاً على المكانة الدنيا للنساء في الحياة العامة، وعلى تقاليد قديمة لم تعد تتماشى مع روح مصر الجديدة.
في المشاركة النشطة للنساء المصريات في الثورة على مبارك، وموجتها الثانية التي جرفت مرسي والإخوان، وفي كل ما وقع من أحداث بين هذه وتلك، ما يوحي بأن روح هدى شعراوي، وما لا يحصى من نساء مصر، وأصداء أصواتهن، لم تفارق المكان. وبقدر ما يعنيني الأمر، كلما أطل وجه شاهنده مقلد، وسط الجموع، أسمعُ صدى الصوت في الميدان.
للميدان تاريخه الخاص، الذي لا يمكن تفكيك علاماته إلا على خلفية التاريخ العام للقاهرة، ولمصر منذ أواسط القرن التاسع عشر. وفي كل تلك العلامات نعثر على توق إلى الحرية، معطوفاً على معنى ومبنى الهوية، ومرفوعاً على ساعد فكرة التقدّم.
ما معنى مصر، وكيف تكون حرّة ومتقدّمة؟
هذه هي الأسئلة التي يشكل تاريخ ميدان التحرير جزءاً من تاريخها، ويشهد على جانب من تجلياتها على الأرض، منذ أواسط القرن التاسع عشر. وهي، بالمناسبة، الأسئلة نفسها التي يجتهد “التحرير”، و”رابعة”، في تقديم وترجمة الكثير من إجاباتها المحتملة.
كانت الفرضية الرئيسة لطه حسين، في “مستقبل الثقافة في مصر” صلة العقل المصري باللوغوس الإغريقي، والقانون الروماني، ومفارقته لمبنى ومعنى العقل الشرقي، لذا كانت أوروبا، في نظره، هي المثال القابل للمحاكاة والتمثيل، لا بالاستيراد، بل بالاسترداد، عن طريق التعليم، ومناهج البحث العلمي، وفلسفة العلوم.
وربما يبدو الآن من قبيل المفارقة (والأمر ليس كذلك) أن يكون سيد قطب، مُنظّر الإخوان المسلمين، والأب الروحي لقيادات الجماعة، أحد الأشخاص الذين تطوعوا للرد على حسين، وتفنيد أفكاره، في مرافعة بلاغية بعنوان “نقد مستقبل الثقافة في مصر لطه حسين”.
من المُستبعد أن يثير الكلام عن هوية مصر الحضارية، باعتبارها جزءاً من أوروبا، اهتمام الشبّاب من المصريين والمصريات، الذين كانوا في طليعة الثورة، وموجتها الثانية، ولكن من المُستبعد، أيضاً، ألا تكون أوروبا، في نظرهم، مثالاً للمحاكاة والتمثيل، بخصائص مصرية لا تختصم، بالضرورة، مع مكوّنات عروبية، وأفريقية، وقبطية، وإسلامية، قرت واستقرت منذ زمن بعيد. وهذا وذاك جزء من روح وميراث قرن وألفية جديدين.
وإذا كان في هذا الميراث، وتلك الروح، ما ينسجم مع “التحرير” باعتباره مجازاً لم يكف، منذ عصر الخديوي إسماعيل، عن الاغتناء والامتلاء، فإن في مجاز “رابعة”، إذا ما أُعيد تأويله قطبياً، كل ما يقصيه عن سواه.
“رابعة” المكان ليست مما يُعتد به في تاريخ القاهرة ومصر، و”رابعة” المثال جزء من توق مصر الروحي العام، الذي يعود إلى آلاف مؤلفة وبعيدة من السنين. يُقال إن رابعة (وهي، كما صاغتها المرويات الإسلامية إعادة إنتاج لنموذج بدئي أوّل ظهر في كل ثقافات الكون) ظهرت في البصرة قبل ألف وثلاثمائة عام، وتضاربت في سيرتها الروايات، لكنها استقرت على فكرة الفناء الفردي في العشق الإلهي.
والمفارقة، أن لا “رابعة” المكان، ولا المثال، ينسجمان مع التأويل القطبي لمعنى الخلاص، الذي يُنتزع منه طابعه الفردي، وتُطرد منه الصوفية فكرة وطريقة، باعتبارها معادية للفعل الحركي الإخواني، ومتواطئة مع مجتمع، ودولة، وقانون الجهل والجاهلية. ومعنى هذا الكلام: مجتمع، ودولة، وقانون، الأزمنة الحديثة.
بمعنى آخر: يبدو طه حسين مواطناً طبيعياً من مواطني التحرير، وقد اصبح عاصمة للحرية في مصر، بينما لا تنجح “رابعة” في تمثيل الثورة المضادة، دون تجريدها من توق مصر الروحي، وشغف قاطنيها، على ضفاف النيل، بالمطلق، أي كل ما أسهم في تمصيرها.
ومع تجريدها من كل ما أسهم في تمصيرها، يبدو سيد قطب مواطناً طبيعياً في “رابعة”، وتتجلى الثورة المضادة باعتبارها رداً عنيداً ومثابراً على “مستقبل الثقافة في مصر” من ناحية، وعلى الأزمنة الحديثة نفسها من ناحية ثانية. ولعل في هذا وذاك، ما يبرر الكلام عن طه حسين في “التحرير”، وقطب في “رابعة”.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني