لم يكن الطرابلسيون يعبرون عن تعلقهم بالعروبة فقط حين أصروا على تعزيز روابطهم مع سوريا حتى بعد هزيمة ميسلون وربما بسببها. ولم يكن رفضهم لدولة لبنان الكبير في البداية تنكرا لعلاقة طرابلس ببقية المناطق “اللبنانية” على مر العصور. فلطالما كان للمدينة المتوسطية الكبيرة علاقاتها ببقية المناطق وصولا بالطبع إلى عمق الجنوب والأراضي الفلسطينية وهي شكلت ملاذا آمنا للكثيرين في احداث 1860. لانها بقيت هادئة متماسكة ومتضامنة رغم المذابح في دمشق وجبل لبنان وبعض اماكن السلطنة، ولطرابلس في الحقيقة بعض من هذا وبعض من ذلك.
كان الطرابلسيون يدافعون بالدرجة الاولى عن ادوار المدينة المتعددة مع الشمال السوري والنواحي الممتدة بين طرابلس وهذا الشمال بما فيها جبال العلويين اضافة الى ادوارها بالنسبة للمناطق اللبنانية، واهمها دور اقتصادي اكتسبته هذه المدينة على مر العصور، خصوصاً انها كانت إيالة كبيرة مسؤولة حتى اللاذقية مرورا بالجبال الشمالية التي يقطنها علويون ومسيحيون، كما كانت تؤمن ضريبة الحج للوالي الامير في دمشق وبعض الأحيان لوالي عكا حسب المرحلة.
ورغم تأثرها السلبي بصعود مدينة بيروت في القرن التاسع عشر خصوصا مع تصاعد الاهتمام الاوروبي في جبل لبنان وازدياد حركة القناصل والتجارة بعد رحيل ابراهيم باشا وسقوط الأمير البشير، الا انها ظلت القبلة الاقتصادية لريفها من جهة وريف بعض مدن الساحل السوري من جهة أخرى. علما أنها اشتهرت بالصناعات الحرفية الكثيرة كالصابون ودباغة الجلود والنحاسيات وصناعة المفروشات والحلويات ومواد اخرى كثيرة. كما كانت مركزا لتسويق وتصريف الخضار والفواكه، خصوصا الحمضيات والزيوت الآتية من الريفين فضلا عن تصريف وتسويق منتجاتها. ومع نشوء لبنان الكبير خسرت جزءا كبيرا من هذا الدور، الا انها ظلت حاضرة الريفين واستطاعت، بفعل دينامية كبيرة اكتسبتها كأكبر واهم وربما أعرق مدينة على الساحل الشرقي للمتوسط لفترة طويلة، ان تستفيد من حركة التحديث المترافقة مع التغلغل الاوروبي رغم تركيزه على بيروت الصاعدة وجبل لبنان عصب الامارة السابقة. وقد لعبت العائلات البرجوازية الطرابلسية أدوارا تحديثية مهمة فأقامت مصانع في البحصاص كمصانع الغندور وعريضة والمشروبات، فضلا عن دور المصفاة والمرفأ وتوسع اسواق الخضار وصناعة المفروشات واكتسابها سمعة لبنانية كبيرة، كما أنها استفادت لاحقا من التحديث الشهابي، خصوصا على صعيد التعليم والإدارة.
و طبيعي أن تجذب الايادي العاملة الرخيصة خصوصا من الريف العكاري، كما اجتذبت اياد عاملة أرخص من الريف السوري، العلوي منه خصوصاً. وفي موازاة ذلك نشأت في مناطق اللجوء، في بعل محسن والتبانة ورش الميكانيك والتريكو ولقب شارع سوريا بـ”شارع الذهب” بسبب نمو الحركة التجارية المتواصلة مع الشمال وامتددا الى حمص واللاذقية وحتى حلب بدرجة معينة.
وفي موازاة ذلك تطورت بنية ترفيهية متعصرنة من مطاعم ودور سينما ومقاه حديثة بعضها مختلط، فضلا عن المراكز الثقافية، علما أن طرابلس لطالما كانت قبل الإستقلال مركز المقاهي والحكواتية(التل العليا- مقهى فهيم- مقهى موسى..) وبعض الملاهي، ومع انها لم تعد المدينة الاولى على الساحل الشرقي بعد صعود مذهل لبيروت، الا أنها حافظت على لقب العاصمة الثانية بجدارة خصوصا انها احتفظت بتنوع كبير، فطرابلس معروفة بشوارع الكنائس والراهبات والمطران ومارمارون، كما احتضنت كتلة شيعية وافدة من بلاد جبيل والبترون وهاربة من العوز والجور التركي أو مسترخية في المدينة بعد انتهاء الخدمة، وقد ساهم هذا التنوع بالمحافظة على ادوارها الاقتصادية والإجتماعية والثقافية فترة طويلة، قبل ان تبدأ بعض عائلاتها المسيحية البارزة بالنزوح نحو بيروت الكبرى في اعقاب تغير الدور الاقتصادي الأول لصالح مدينة بيروت الصاعدة كمدينة للترفيه والثقافة لتصبح ملاذا للعرب ومثقفيهم واغنيائهم وفنانيهم وثورييهم ولتكسب لبنان لقب سويسر الشرق. وقد ترافق ذلك مع نكبة طرابلس(الطوفة والتي تلت نكبة فلسطين وعودة القائد الطرابلسي رئيس جيش الإنقاذ باستقبال كبير انقلب إلى مأساة بفعل إنقسام زعامات المدينة وارتباطاتهم المختلفة) علما ان نكبتها تحولت بفعل تخلف اقطاعها وبعض نخبها(البعض يقول تواطؤ) الى نكبة بيئية حيث ادى اوتوستراد النهر الى حشر حوالي نصف اهلها في حارات وأزقة سرعان ما بدأت تتحول الى غيتوات بعد ان كان لنهر أبو علي جسور جميلة توصل هذه الحارات بأسواقها وبساتينها بطريقة طبيعية، علما أن احداث 1958 أدت الى تعزيز هذا الانقسام الجغراقي بين الضفتين.
ليس الغرض من هذا العرض القول أن طرابلس كانت مزدهرة بالكامل وميسورة خصوصا أنها عانت كثيرا في سفر برلك كما عانت أيضا في فترة الإنتداب رغم استفادتها من التحديث النسبي الذي رافقه، و قد ادى التحديث ونشوء المصانع ومراكز الترفيه كما ذكرنا الى استجلاب فئات جديدة الى المدينة، لتسكن في التبانة والقبة والاسواق بعد ان بدأ اهل الحارات يتحركون غربا باتجاه الزاهرية والثقافة والمطران وعزمي، وقد انتشرت دور السنما والمقاهي و المطاعم حتى في منطقة التبانة، الا أن غياب المشاريع الكبيرة التي تتطلب خططا انمائية تعوض عن تراجع دور طرابلس الاقتصادي بالنسبة لسوريا كان له أثرا كبيرا في ازدياد الهوة التحديثية بين نيروت وطرابلس ما دفع كثيرا من الطرابلسيين من طبقات مختلفة للبحث عن بعض الفرص في العاصمة، خصوصا أن شخصيات طرابلسية عديدة ترأست حكومات كثيرة قبل الإستقلال وبعده فشكلت دافعا لبعض هذه الفرص وهو ما كانت سلبياته أكثر من إيجاباته على المدينة.
شكل هذا الواقع المتناقض أساسا للغضب الذي سيتنامى، خصوصا في المناطق التي “تكدس” فيها العمال والكادحين والمهاجرين والمحرومين، وبعض الأهالي حبيسي هذه المناطق التي غزتها الابنية الرخيصة، ومع ذلك فقد بقيت المدينة بعيدة عن مظاهر البؤس الفاقع، ولم تتكون فيها مدنا من الصفيح كالتي نشأت في ضواحي بيروت الجنوبية والشمالية من مهاجري الجنوب والبقاع، ورغم الحرمان والفقر والنقص في هذه المناطق الا ان دورة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ظلت مستمرة بشكل معقول مع ازدياد الاقبال على التعليم، الى ان جاءت الحرب الاهلية. وقد ترافقت مظاهر وحركات الغضب مع نشؤء حركات شعبوية كحركة تشرين وحركات “شارعية” كجماعة المطلوبين في السنوات الممتدة بين 69 و75 بموازاة المتغيرات التي أحدثتها الحركة الفلسطينية ولكن على بنية طرابلسية مهيأة. ومع ذلك فقد ضمت المدينة خليطا متنوعا مهما و فاعلا من الأحزاب والمنظمات الماركسية والقومية، فضلا عن بعض الجماعات المرتبطة مباشرة بالثورة الفلسطينية ولاحقا بالنظام السوري، بالإضافة طبعا إلى إقطاعها وقواها البرجوازية المتأرجحة.
ادت الحرب الاهلية الى نتائج كارثية على لبنان وعلى طرابلس خصوصا، وقد دمرت فيها أو فرغت أو هجرت مصانع الخشب والحديد والنسيج والزيوت والرخام والمشروبات وغيرها، كما توقفت المصفاة وتراجع دور المرفأ، ومع ذلك ظلت المدينة محافظة على قدر من العصرنة ومظاهرالترفيه والثقافة من مطاعم ودور سينما ومراكز تقافية. الا ان الصراع السوري الفلسطيني الذي احتدم من جديد بعد الإجتياح الإسرائيلي كان كارثيا على المدينة خصوصا في التبانة وبعل محسن وبعض القبة والتي تحولت إلى مناطق شبه منكوبة، وقد خرج من رحم هذا الصراع، بعد تراجع اليسار والتحاق معظم أحزابه بالجانب السوري، حركة التوحيد التي أدت ممارساتها المأساوية إلى تراجع ما تبقى من معالم التحديث و الانفتاح والعيش الواحد بعد ابتداع نظرية القلعة الأصولية، ما أدى إلى هجرة جديدة من المدينة، خصوصا من نخبها المثقفة وبعض مسيحييها ومسيحيي الأرياف الذين صمدوا في المدينة رغم ما مر عليها لأنها كانت تدار إلى حد كبير من تجمع وطني متنوع يغلب عليه الطابع العلماني قبل أن تهيمن عليها حركة التوحيد. ثم كان الهجوم السوري على المدينة التي ساهم امراء التوحيد (بتشجيع سوري) بتغريبها وإفقارها وإرهابها ومن ثم استفرادها والانقضاض عليها واغراقها بمسلسل من الاغتيالات والانتقامات والإعتقالات بعد ان كان قد ضربها مسلسل السيارات المفخخة في اطار الصراعات الداخلية والاقليمية حيث شكل اجساد اهاليها وقاطنيها وقود هذه الصراعات. واستشرى نتيجة هذا الانهيار مظاهر التخلف والفقر والبؤس المترافق مع صعود المشكلات والآفات الاجتماعية والصحية. ولقد هاجر ونزح الكثير من ابنائها خصوصا من المسحييين وبعض الفئات الميسورة باتجاه بيروت الكبرى والخارج والبعض باتجاه قرى وبلدات الكورة والبترون وزغرتا وبشري حيث اضطر هؤلاء الى ايجاد بدائل حياتية افقدت أسواق المدينة قوة مهمة فتصلبت فيها شرايين اضافية، خصوصا بعد ان هجرها معظم المدارس الكبيرة. ولم تنعكس فترة الطائف نعيما زائدا على المدينة المقهورة من سلطة الوصاية فاستمر تدمير بيئتها بطريقة عشوائية ولم تستسطع(أو ترددت) الاندفاعات الإعمارية الحريرية اختراقها كثيرا سواء بسبب مصالح بعض فئاتها أوبسسب سلطة الوصاية. فبقيت التبانة وبعل محسن شبه مدمرة ولم يطل القبة سوى بعض التحسينات والمشاريع الصغيرة، ما عزز مظاهر الفقر والبؤس في هذ المناطق، كما انتقل خط الحاجة الى شارع البولفار بعد ان امتدت بعض مظاهر البؤس الى الزاهرية والنجمة والتل، أي قلب المدينة والمناطق التي تحوي أهم الأبنية التراثية وتجاور المدينة المملوكية القديمة وأسواقها الشهيرة. وبعد أن شكلت المدينة تاريخيا وجهة محببة للفئات الميسورة السورية اصبحت نقطة جذب لفئات من الضباط السوريين، فضلا عن استنقاعها فئات كادحة مسحوقة من التابعية السورية.
لقد جرى التركيز الاعلامي على مدينة طرابلس منذ تفجير الشهيد الحريري ورفاقه بألف وثمانمائة كيلو من المتفجرات، كما أن رئيس الحكومة الكرامية حاول تحييدها عن الحركة الاستقلالية الثانية موحيا بان المدينة اسلاموية وقومجية، علما انه لم يتدثر بها بل التجأ الى تجمع عين التينة قبل ان يضطر الى الاستقالة مقرا بذلك ان المدينة واهلها ينظرون للاغتيال على انه استهداف لها ايضا، وهي التي تدفع منذ مدة اثمانا كبيرة ثمن لبنانيتها ومواجهتها عروبة قهرية متحالفة مع قوة اقليمية غير عربية مواجهة لعروبتنا الطبيعية، بعد ان دفعت في بداية تأسيس الكيان ومن ثم نشؤ الكيان الصهيوني ثمنا باهظا لعروبتها الأصلية.
وقد شكل تأييدها للحركة الاستقلالية عامل توازن مع الحشود الحزب اللاهية، سواء في تجمع المعرض أو في ساحة الحرية. ورغم كل الالتباسات المذهبية والعربية والغربية التي رافقت الحركة الاستقلالية، الا ان التحاف بعض المحجبات الطرابلسيات بصور الشهيد بيار الجميل في جنازته وترقب الطرابلسيين لسماع سمير جعجع كانت تؤشر إلى أصالة و قوة الانفتاح في المدينة، خصوصا ان جعجع شكل بطروحاته الوجه الآخر للانفتاح. ومع أن الحركة الاعمارية والإنمائية لم تتقدم كثيرا في طرابلس المحرومة والمحتاجة والمتعطشة للانماء، الا أن المدينة القلقة والصابرة اعتبرت ان النظام الامني السوري اللبناني والذي عانت من قسوته كثيرأضاف عائقا جديا امام ملاقاة فعلية لحركة إعادة الإعمار.
لم يكن مفاجئا تركيز الضغط على المدينة وامتداداتها في سياق معركة كسر الحركة الاستقلالية فجرى تصويرها وكأنها قندهار وساهم بعض الاعلاميين المستقلين بهذه الصورة عبرتركيزهم على مناطق وفئات وقضايا معينة في المدينة كما جرى تصدير فتح الإسلام إلى الشمال واشغال الجيش والاهالي والمنطقة بفترة من الرعب، ولم يكد طرابلس تنتهي من فتح الاسلام واثارها المختلفة حتى أتتها تداعيات 7 ايار حين فتح الجرح الذي ابقي في جسدها، عنيت به قصة بعل محسن والتبانة مع ما رافق ذلك من محاولة جرالمدينة لاستنزاف يلغي دورها ويزيد في افقارها وبؤسها. و يجري التداول الإعلامي الآن في محاولة ادخالها من جديد في اتون التوتر كبديل عن اجتياح العاصمة لأن اجتياح الأخيرة سيؤدي هذه المرة الى اعلان حزب الله سقوط الدولة عملياً.
لا يرغب هذا التحليل في ايجاد المبررات لاستننكاف اوبطء القوى السياسية الرسمية والشعبية في التصدي للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والبيئية المتفاقمة في المدينة. انما هو محاولة لرصد و التقاط الاسباب والمحطات التاريخية في عملية التراجع الاجمالي التي طبعت طرابلس خلال حقبات متعددة. ولطالما انتقدنا أداء الطبقة السياسية في التعاطي مع قضايا المدينة بغض النظر عن المواقف والآراء السياسية في البلد، حتى أن انتقادنا طاول بعض النخب المتنورة والعلمانية فيها والتي استنكفت كليا عن النشاط السياسي وترددت في الإلتحاق بحركة المجتمع المدني والتي تنامت كثيرا في موازاة تراجع الحركات اليسارية والديمقراطية.
لقد استطاعت قوى المجتمع المدني أن تطلق عدة تحركات، صبت بمجملها في تطوير الحركة المطلبية من جهة وبالتخفيف من حدة الإنقسامات عبر خلق دينامية إنمائية مواجهة لدينامية الحرب الأهلية من جهة أخرى، فضلا عن مقاومة تصوير نمطي أصولي للمدينة عن طريق المؤتمرات والندوات واللقاءات الثقافية والبيئية، وربما شكلت معركة البناء الجامعي الموحد في المون ميشال أهم عناوينها في أكثر من مرحلة ولاعتبارات متعددة، خصوصا أن لجنة متابعة البناء، ذات التجربة الفريدة والتمثيل الواسع، استطاعت وضع جميع الاطياف السياسية في عربة مشروعها الأكاديمي الإنمائي الذي قطع أشواطا كبيرة رغم كل ما مرعلى البلد من مآسي وهو من أهم(أو الوحيد بعد الطائف) المشاريع الإنمائية الشمالية وقد بدأ يطرح ثلاث أفكار مهمة للتداول والنقاش على صعيد الإنماء المتوازن.
أولا: توسيع اتحاد بلديات الفيحاء بضم رأس مسقا تمهيدا لإنشاء طرابلس الكبرى كحاضنة شمالية مفتوحة.
ثانيا: استقلالية الفروع الشمالية وصدورقرارات كليتي الزراعة والسياحة والبحث الجدي بإنشاء كليتي طب وإعلام.
ثالثا: إنشاء لجان متابعة للقضايا الإنمائية الأخرى.
قد يكون جهاد الزين محقا في ابراز الفارق الكبير بين غرب البولفار وشرقه خصوصا ان افتتاح مطاعم ومقاهي جديدة في غربها، متواصلة مع منتجعات تضاهي منتجعات بيروت الكبرى وميل طرابلسي متصاعد لاستعمال الغنى قد زاد من هذا الفارق. وهو محق في أن الاعمال الشبه خيرية من اغنياء المدينة(العاملين بالسياسة بمعظمهم) غير كافية وربما تفاقم بعض المشكلات، علما أن بعضها ذو طابع انمائي أو تربوي أو ثقافي ويقع جزء منه في الجانب الشرقي من البولفار. ويتغذى المنطق الخيري والخدماتي من واقع البنى الإجتماعية والطائفية وطبيعة النظام السياسي اللبناني، إلا أنه يلحظ ميل لدى بعض النحب الطرابلسية في النظر إلى المناطق الاكثراحتياجاً بطريقة فيلينتروبية(خيرية).
ومن آثاره السلبية التغاضي(وربما الحماية) عن فوضى البسطات والتشويه والمخالفات والإرتكابات وفنون التسول بما يضع طرابلس في مقدمة المدن اللبنانية على هذا الصعيد ويكسبها سمعة “مدينة الفقراء” أوربما “مدينة القطاع العام”. ولاعجب في أن تذهب هذه النخب بعد ذلك وترتاح في مقاهي الطبقات الميسورة غربا. إلا أن شرائح واسعة ومهمة من أهل المدينة ونخبها، ومنهم بعض أصحاب السوابق اليسارية تعمل بشكل مختلف وتقوم بنشاطات إنمائية وثقافية تساعد على تحسين الواقع الإجتماعي من جهة وتعيد التواصل بين مناطق المدينة المختلفة من جهة وبينها وبين أقضيتها من جهة أخرى وبالتعاون مع البلديات ومؤسسات وجمعيات وهيئات وفئات مختلفة.
لآ أحد من السذاجة بحيث يعتقد أن هذه النشاطات والتحركات كافية لرفع المدينة، ذات المؤشرالإنمائي الضعيف ومؤشر الفقر العالي، من كبوتها، إلا أنها دليل على قدرة وتنوع وانفتاح وقابلية المدينة التاريخية على الحداثة، خصوصا إذا ما رصدنا التجاوب المثيرلأهلها مع الحركات والنشاطات التحديثية، ولعل الإقبال على الحركة الثقافية والتراثية والفنية التي تنافس على تقديمها “أقوياء” المدينة في الصيف وفي شهر رمضان بشكل خاص يشكل دليلا إضافيا على حيوية أهلها بمختلف مشاربهم وطبقاتهم ومنوعاتهم. والمدينة منوعة فعلا، إلا أن ترداد آلاف الحناجرمع أحمد قعبور وفاء لسمير قصير ولينا(لينا ما غيرها:لينا سقطت) كانت كافية لتحديد أين يميل قلب المدينة.
فالمدينة تحتاج لمشاريع إنمائية كبيرة لتكبير الإقتصاد وإيجاد فرص العمل، منها ما يتعلق بالمرفأ والمنطقة الإقتصادية ومنها ما يتعلق بالمعرض المتأرجح بين حصرية مستحيلة وبدائل غير واضحة، ومنها ما يتعلق بالمصفاة والمحطة وامتداداتها الإقليمية، ناهيك عن قضية مطار القليعات ودوره الإقتصادي لعكار وطرابلس ومجمل الشمال ومنها استكمال البناء الجامعي. كما أن المدينة بحاجة لتطوير وتحديث بناها التحتية من طرق وجسور وإنارة ومرافق أخرى كثيرة من أجل مواكبة نمو حركة السياحة والخدمات في لبنان والمرشحة للزيادة(في حال استقرار البلد والمنطقة)، علما أن المدينة تمتاز بمواصفات استثنائية وفريدة في هذا المجال، كما أن المدينة تحتاج لاستثمارات في قطاعات محتلفة، منها ما يتعلق بتطوير و تحديث أسواقها التجارية ومنتوجاتها وبناها الترفيهية بما يعيد جذب أبناء الأقضية وربما أبناء العاصمة وغيرهم إليها، كما أبناء الشمال والساحل السوري حيث تختلط المصالح مع القرابة العائلية، فيكاد لايوجد عائلة في طرابلس دون أصول أو فروع مع هذه المناطق.
كما يطرح موضوع مساهمة أغنيائها، السياسيين منهم خصوصا، بضخ أموال واستثمارات في مصانع ومؤسسات قادرة على إيجاد فرص عمل وهذا صحيح مبدئيا، على أن يترافق مع دراسات جدوى حول الأسواق والقدرة على المنافسة في افتصاد متعولم. وأعتقد أن سياسيي وفعاليات المدينة أضاعوا عليها فرصا كثيرة منها فرصة المصالحة عند مفتيها المتنور والتي اعقبت اشتباكات الفقراء صيف2008، خصوصا أن رئيس الحكومة آنذاك وداعمها سعد الحريري وفعاليات وقيادات المدينة قدمت الوعود وعقدت مؤتمرات الإنماء، إلا أن الحصاد كان قليلا لأن الجميع بدا متجها لحجز مقاعد البريمو في لوائح الإنتخابات الأخيرة عوض الضغط مع المجتمع المدني لتحويل الوعود الى مشاريع انمائية.
طبعا لم يكن أحد يأمل بحل المشاكل المتفاقمة سريعا وتنفيذ كل الوعود، خصوصا أن الإنقسام السياسي ما لبث أن تحول انشطارا مع اشتداد الهجمة على الكيان من جديد، إلا أن التوازن والتكامل في العمل بين الإنماء والسياسة ليس لصالح أداء القوى السياسية ونواب طرابلس وهم بأ فضل المقايييس مقصرين، علما أن القوى الإجتماعية والمدنية والنقابية ومجمل النخب مقصرة أيضا، إذ ينبغي تكثيف الضفوط الديمقراطية المنظمة من أجل القضايا الإنمائية المتنوعة بما فيها قضية الإستثمارفي الصناعة، وليس من أجل المطالب الفئوية المحقة فقط وجنوح البعض للإكتفاء باستجلاب الخدمات المباشرة التي حولت هيئات وجمعيات كثيرة إلى فرق متسولين(ولا غرابة إذا في سكوت هؤلاء على مستوى وحرفية التسول في المدينة الأكثر أهمية تاريخيا في لبنان).
وتحضرني بالنسبة للصناعة طرفة لطالما كان يرددها صديق لي، بان على اليساريين ان يساعدوا البرجوازية في بناء المصانع كي يخرجوا من البطالة، اذ انهم لطالموا أتقنوا فن التسلل الى داخل المصانع من اجل تحسين ظروف الطبقة العاملة. فهل يساهموا في بنائها بعد أن ساهموا بطريقة غير مباشرة بإغلاقها؟
كما يحضرني سؤال ولكنه عير طريف: إذا كان الإنماء بمستوياته المختلفة يشكل شرطا ضروريا لمقاومة حدي التطرف والفلتان الإجتماعي وهما نتيجتان لأسباب واحدة(وربما وجهين لعملة واحدة) فهل هو شرط كاف، خصوصا في بلد كلبنان هو بيت بمنازل كثيرة وفي مدينة كطرابلس حيث أن بعض أسباب التوتر والإنقسام تكمن خلف الحدود مرسمة أوغير مرسمة؟ وهل يمكن الوصول إلى مستوى عال من الإنماء المتوازن وغير المتوازن دون استقرار؟ ومع ذلك لآ أجد عذرا لأحد وفي أي منزل من المنازل، وبالأخص من أصحاب السوابق، سواء في السياسة المباشرة أو في الإنماء.
khawaja_talal@hotmail.com
* جامعي لبناني- طرابلس