كانت موهبة غسان كنفاني استثنائية، وقد حاول آخرون تقليده، فكتبوا أدباً دعائياً قليل القيمة والأهمية. وكانت موهبة إدوارد سعيد استثنائية، وقد حاول آخرون، والمحاولات ما تزال مستمرة، تقليده فكتبوا نقداً دعائياً، قليل القيمة والأهمية، للغرب. وبهذا المعنى يمكن وصف البعض في الحقل الأدبي والثقافي بضحايا غسان كنفاني. وبه، أيضاً، يمكن الكلام عن ضحايا محتملين لإدوارد سعيد.
لم يكن إدوارد سعيد خبيراً في شؤون الاستشراق، ولكنه كتب نقداً للاستشراق، بعين الناقد الأدبي، سرعان ما تحوّل إلى مصدر إلهام لحقول فرعية مختلفة في العلوم الإنسانية: الدراسات الثقافية، الكولونيالية وما بعدها، والنسوية، والنظرية الأدبية.
وعلى الرغم من حقيقة أن عدم التخصص في شؤون الاستشراق لم يمكنه من تغطية مختلف مدارسه، وأوقعه في الانتقائية، التي حاول شخص كبرنارد لويس توظيفها للنيل من الكتاب، ورد عليها سعيد في مقدمة الطبعة الثانية، إلا أن فكرته المركزية حول العلاقة بين الكولونيالية والاستشراق، لم تمكّن نقّاده من تفنيد فرضياته الرئيسة، أو الحد من نفوذه.
والمهم، يا طويل العمر، أن ما لا يحصى من الإسلاميين، والقوميين، والمعادين للكولونيالية (لأسباب مختلفة) في العالم العربي، وإيران، وباكستان، وجدوا في نقد الاستشراق مرافعة نظرية تدل على صحة مواقفهم وتحيّزاتهم الأيديولوجية (وأغلبها عنصري ومُفزع في خلاصاته السياسية، وعدائه للآخر والغريب والمُختلف)، وزادوا عليه، واستثمروا صاحبه بطريقة تتناقض مع شخصيته الإنسانية والثقافية المركّبة كأميركي، وعربي، وفلسطيني، يشتغل داخل الحقل الثقافي الغربي، وينتمي إليه، وينقده من داخله.
والمهم، أيضاً، أن أعمالاً أقل قيمة من نوع “تغطية الإسلام” أصبحت مرجعية، أو مصدر إلهام، لنقد ونقض نقّاد الإسلام في الغرب، خاصة بعد الحادي عشر من سبتمبر، في سجالات أكاديمية غربية، وبلغات غربية، في المقام الأوّل. وإلى هذا كله تُضاف سيرة إدوارد سعيد الشخصية، وعلاقته بالمسألة الفلسطينية، ومواقفه السياسية، التي تحوّلت إلى مصدر إلهام واستلهام لكثيرين.
ولنلاحظ، هنا، أن نقد الإسلام كما الدفاع عنه يمتوضعان في سياق يتجاوز المماحكات الأكاديمية التقليدية. فمن جانب ثمة تجليات مختلفة لأنصار ودعاة الخصوصية الحضارية، التي تسم الثقافة الغربية (اليهودية ـ المسيحية، كما يُقال)، ومن جانب آخر ثمة تجليات أيديولوجية للتعددية الثقافية باعتبارها من سمات الأزمنة الحديثة. وبين هذه وتلك مروحة واسعة من ألوان الطيف، وما ينجم عنها من خلاصات سياسية.
بيد أن الخصوصية الحضارية، كما التعددية الثقافية، تبدو محكومة بتحيّزات وأغراض سياسية. فمن ناحية هناك أنصار إسرائيل، الذين يستهدفون بمرافعات أكاديمية تدعى الموضوعية والبراءة، التدليل على العلاقة العضوية بين الإسلام والإرهاب، وفي السنوات الأخيرة صدرت كتب كثيرة، وعُقدت مؤتمرات وندوات أكثر، لإيجاد صلة تاريخية بين الأصولية الإسلامية وألمانيا النازية، وقد ذهب البعض إلى ما قبل النازية، أيضاً.
وعلى جانب آخر، هناك المراكز البحثية والجامعات الأوروبية والأميركية، التي يموّل السعوديون بعض أقسامها، ومشاريعها البحثية، وعليها ومنها يعتاش باحثون لتدليل على سوء الفهم التاريخي بين الإسلام والغرب، وعلى كون الوهابية، مثلاً، حركة معادية للكولونيالية، وهي إصلاحية على طريقة البروتستانتية.
وبين هؤلاء وأولئك، ومن هؤلاء وأولئك، من ينخرط في تسويغ تمكين الإسلامين، (باعتبارهم القوة الصاعدة من ناحية، والمعبر الحقيقي عن روح العالمين العربي والإسلامي من ناحية ثانية)، من الصعود إلى سدة الحكم في العالم العربي. وقد تبنى ساسة في إدارتي بوش الابن وأوباما أفكاراً كهذه، وأنشأوا صلات بالإخوان المسلمين لهذا الغرض. في حفل تسلّم أحد معاونيه في الاتصال بالعالم العربي والإسلامي، مهام وظيفته الجديدة، أشاد الرئيس أوباما بالأميركي من أصل باكستاني، الذي يحفظ القرآن، “لذا يحظى بسمعة جيدة في مجتمعه”، وبهذا ابتكر مؤهلاً جديداً يُضاف إلى مؤهلات العاملين في الدبلوماسية الأميركية.
المهم، في كتاب بعنوان “الإسلام في الليبرالية” (2015) ينتقد جوزف مسعد الليبراليين الغربيين، والعرب. الأوائل لأن مواقفهم إزاء الإسلام تصدر عن تحيّزات وتمركزات غربية معادية، والأواخر لأنهم تبنوا مواقف الأوائل. يعني وضعوا قناع الأبيض على وجوه سوداء، بتعبير الأخ فانون، الذي ورطنا بمفهوم الطاقة التطهيرية للعنف.
والمهم، أيضاً، أن ثمة صعوبة في التعرّف على أو تعريف الإسلام، الذي يدافع عنه مسعد: إسلام النصوص، أم المذاهب، أم التجربة التاريخية، أم الواقع المتعيّن الآن وهنا؟
وإذا كانت ضرورة لفت الانتباه إلى طريقته في تأويل كلام “اللبراليين” الغربيين على عاتق غربيين على الأرجح، فإن ثمة ضرورة للقول إن طريقته في تعريف الإسلام، التي لا يحتاج المرء إلى أكثر من “لسان العرب” للتدليل على فشلها في القبض على معنى ما تتكلم عنه، تستدعي ضرورة الاهتمام من جانب العاملين في حقل الثقافة العربية باعتبارها مرافعة تستهدف القول، وإن يكن بلكنة أعجمية، إن ثمة إسلاماً لم يفهمه الليبراليون، وإلا لانتفت الحاجة إلى كتابي هذا.
خلاصة قليلة الأهمية، تُضاف إليها ثلاث أو أربع صفحات في المقدمة، لشكر الأشخاص، الذين دعوا الكاتب لإلقاء محاضرات في هذا الموضوع في معاهد وجامعات وندوات ومناسبات مختلفة، وهي قائمة طويلة جدا في الواقع، ويبدو أن عددا لا بأس به من المذكورين فيها لم يتذكروا سؤالاً من نوع: فهمنا مشكلة الليبرالية، ولكن ما هو ، بالضبط، الإسلام الذي تتكلّم عنه، لننجو، على الأقل، من التفكير في إدوارد سعيد وضحاياه.
khaderhas1@hotmail.com