كنتُ مقيماً في القاهرة عندما اختار الرئيس أنور السادات، لمنصب نائب رئيس الجمهورية، ضابطاً اسمه حسني مُبارك. لم يكن الاسم يعني شيئاً في نظر المصريين. صحيح أن السادات جاء بالنائب من بين “أبطال أكتوبر”، لكن القائد السابق لسلاح الجو لم يكن، بالضرورة، أبرز الضباط المصريين في تلك الأيام. والصحيح، أيضاً، أن المصريين مدينون بما أنجزوه في تلك الحرب لرئيس الأركان الفريق سعد الدين الشاذلي، أكثر من أي رجل آخر.
وبقدر ما كانت الوظيفة الجديدة مفاجئة للطبقة السياسية في مصر، وللمصريين بشكل عام، كانت مفاجئة للنائب نفسه، الذي لم يحلم في يوم من الأيام بالوصول إلى منصب كهذا، وكانت أقصى أمانيه، بعد الحرب (كما قال في أكثر من مناسبة) وظيفة سفير لمصر في عاصمة أوروبية كبيرة.
ومع هذا وذاك، كانت الوظيفة دليلاً على حسن الطالع. للحظ أفانين وألاعيب كثيرة، من بينها حسابات السادات نفسه. فقد أراد نائباً بلا طموح، أو حتى دراية بالحياة السياسية في مصر. وإذا كنتَ بلا طموح، أو جاهلاً بالسياسة، ربما تكون مرشحاً طبيعياً للفوز في لعبة الحظ.
في تلك الأيام نشرت مجلة “آخر ساعة” المصرية مقابلة مطوّلة مع مبارك. كان من بين الأسئلة الكثيرة، المطروحة على النائب، سؤال حول خبرته في العمل السياسي. فأجاب بأنه تعلّم السياسة في جامعة الرئيس السادات. وفي جواب كهذا مديح للسادات، بطبيعة الحال، واحتماء باسمه لتفادي الكلام عن خبرات في السياسة يصعب التدليل عليها.
كان ذلك في العام 1975. واليوم، إذا أعدنا النظر بأثر رجعي في جواب يبلغ من العمر ستة وثلاثين عاما، نكتشف أن حسني مُبارك لم يتعلّم الكثير في جامعة أنور السادات.
عاش السادات تقلبات الحياة والسياسة في العهد الملكي. انخرط في جماعات ومؤامرات كثيرة قبل سقوط الملكية، وكان مساعداً مطيعاً بلا طموح في العهد الناصري. وعندما تولى رئاسة الجمهورية، بعد وفاة عبد الناصر، كان موضوعاً للتندّر من جانب كثيرين اعتقدوا أن الدائرة الضيقة المحيطة بعبد الناصر من أصحاب القرار، اختاروا السادات ليكون واجهة شكلية تمكّنهم من حكم مصر.
ومع ذلك بطش السادات بالدائرة الضيقة، أخرج الأخوان المسلمين من السجون، وتحالف معهم ضد اليساريين، وفض التحالف مع الاتحاد السوفياتي، وخاض حرب أكتوبر، وتحالف مع الأميركيين، وعقد صلحاً مع الإسرائيليين بعد زيارة تعتبر من الأحداث الدرامية المشهودة في القرن العشرين.
هذه الأشياء كلها تدل على شخصية مغامر ومُبادر وصاحب طريقة غير تقليدية في عالم السياسة (بقطع النظر عن موقفنا منها)، ولم يكن في سيرة صاحبها قبل وصوله إلى موقع الرجل الأوّل ما يمكن أحداً من انتظارها أو التنبؤ بها.
وهذه الأشياء كلها غابت عن السيرة السياسية لمبارك، بعدما أوصله اغتيال السادات إلى موقع الرجل الأوّل في مصر. هل غابت لأن الجامعة أغلقت أبوابها قبل الأوان، أم لأن التلميذ لم يكن نجيباً؟
الأرجح أن مُبارك لم يكن تلميذاً عصامياً، وأن الدرس الذي تعلمه من ضربات الحظ المتلاحقة، لم يسعفه في حكم مصر. لم يكن صاحب مبادرات، ومغامرات، أو رؤيا (بصرف النظر عن مضمونها) وهي السمات التي وسمت السيرة السياسية لأستاذه في الجامعة.
ورث مغامرات، ومبادرات، وشطحات السادات، وحافظ عليها، بلا زيادة أو نقصان، على الرغم من حقيقة أن ما يصلح في وقت ما، لا يصلح بالضرورة في كل ولكل الأوقات.
وإذا تكلمنا بطريقة مجازية ربما جاز القول إن مُبارك الرئيس عاش في الواقع سفيراً في دولة وهمية ومتوّهمة اسمها مصر، عاصمتها شرم الشيخ، ومواطنوها رجال الحاشية والبلاط والمال والأعمال، بينما مصر الحقيقية في مكان آخر. أسلم قياده للسعوديين. وأخلص لتحالفه مع الأميركيين والإسرائيليين، وعندما كبر الأنجال أوكل إليهم إدارة السفارة والإشراف على شؤون الموظفين. ومع ذلك من غير الممكن، ولا المنطقي، أن نجعل منه مثالاً حياً للشر، ولا أن ننظر إلى سنواته الطويلة في الحكم بالأبيض والأسود.
لم يكن حقودا على طريقة حافظ الأسد، فلم ينكّل بمعارضيه كما فعل حاكم سوريا. ولم يكن بدوياً قرر احتراف الفلسفة وجمهرة العالم على طريقة معمّر القذافي. ولم يكن قروياً فظاً وغليظ القلب مهووساً بالمجد والمقامرة على طريقة صدّام حسين. ولم يكن رجل مباحث حوّل دولة إلى مركز للشرطة على طريقة بن علي. ولم يكن شيخاً لعشيرة صنع لها البريطانيون والأميركيون دولة لحماية النفط على طريقة حكّام الخليج.
كان ضابطاً بلا طموح، ولا كاريزما، أو مؤهلات خاصة، انتشله الحظ من حلم بسفارة في عاصمة أوروبية، إلى واقع القصر الجمهوري في دولة كبرى اسمها مصر فشل، أو حتى لم يبذل جهداً، في إدراك قيمتها التاريخية، ومكانتها الإقليمية، وأهميتها الثقافية والسياسية، فأصبحت في عهده دولة صغرى.
وعندما عبس الحظ، أو قلب له ظهر المجن، كما نقول بالعربية (والعربية كجراب الحاوي مليئة بالمفاجآت) لم يكن مستعداً ولا قادراً على قراءة المكتوب من عنوانه، فانتهى مقبوضاً عليه بقرار من النائب العام في مصر، ودخل التاريخ المصري (أو خرج منه) باعتباره أوّل رئيس تُسقطه ثورة شعبية في العالم العربي، ويصدر قرار من النائب العام بالتحقيق معه، وحبسه على ذمة القضية.
الجنرال الذي تدرّب على قيادة القاذفات والطائرات المقاتلة، وقاد سلاح الطيران المصري ضد إسرائيل في حرب أكتوبر، بكل ما يعنيه ذلك من تكنولوجيا ومهارات، كانت موقعة الجمل آخر معاركه، عندما اقتحم معاونوه على ظهور الجمال ميدان التحرير في قلب القاهرة. وما بين القاذفة المقاتلة من ناحية، وسفينة الصحراء من ناحية أخرى، خيط شد طرفه الأوّل أنور السادات، ومشى مبارك بالطرف الثاني حتى أوصله إلى ميدان التحرير. ما بين خط البداية والنهاية نقرأ تاريخنا الشخصي والعام، ونرسم صورة جانبية لرجل اسمه محمد حسني مبارك.
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
khaderhas1@hotmail.com
الأيام
صورة جانبية لرجل اسمه حسني مُبارك..!!
انا لم اقرا من قبل كاتبا اشد بلاغة و عمق بنفس الوقت مثلك اقرا لك باستمرار استاذ حسن يعطيك العافية