لم تكن جاكلين روز أوّل من اكتشف النـزعة الميسيائية في الصهيونية، لكنها كرّست كتاباً لتفسير السلوك الانتحاري للدولة الإسرائيلية. وقد تأثرت، على الأرجح، بآراء والتر بنيامين، الذي سبقها بعقود، وأثارت قلقه، في عملية إحياء اللغة العبرية، الشحنة الميسيائية، التي يحاول آباء الصهيونية، توظيفها في هذا المشروع. فلا يدرك هؤلاء، في رأيه، حقيقة، وخطورة، الأشباح التي ستطل عليهم من الماضي.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بدانيال سيلفا، كاتب الروايات البوليسية الأميركي، الذي تتصدّر أعماله قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، والذي نشأ كاثوليكياً، واعتنق اليهودية، ليس ثمة ما يوحي بأن تحذير روز، أو قلق بنيامين، لفتا انتباهه إلى حقيقة أن في مهنة ترميم اللوحات الفنية القديمة، التي اختارها لجبرائيل ألون، الفاعل الرئيس في سلسلة روايات متلاحقة، ما يمكّن القراءة النقدية من العثور عمّا يعزز صدقية التحذير، وجدية القلق.
وهذا ما يمكن التدليل عليه، إذا وضعنا في الاعتبار أن البنية التحتية، الدلالية، والمفهومية، لأعمال سيلفا، تعيد إنتاج أسطورة الجلاّد المقدس. وهي، بالمناسبة، قديمة قدم البشرية، وذات مضامين دينية، تعلمَنَت في سياق حروب التوّسع الكولونيالية في مفاهيم من نوع: القدر المتجلي، وعبء الرجل الأبيض. وأعادت الصهيونية إنتاجها في مفاهيم من نوع: تخليص الأرض، ونفي المنفى، واليهودي الجديد.
وكالعادة، جاء أهم ما يختزل الأسطورة، في تجلياتها الإسرائيلية، على لسان شخصية تعمل في السياسة، لا في حقل الأدبي، فالنصوص الأدبية حمّالة أوجه. اختزلت غولدا مائير، وهي من جيل مؤسسي الدولة، أسطورة الجلاّد المقدس بالقول: نحن لا نكره العرب لأنهم يقتلون أولادنا، بل لأنهم يرغمون أولادنا على قتلهم.
وقد سبقها، في هذا المضمار، ولكن بطريقة أقل فجاجة، وحتى دون كراهية، يزهار سيملانسكي في عمل من كلاسيكيات الأدب الإسرائيلي، ظهر بالعبرية بعيد قيام الدولة، بعنوان: “أيام تسكيلاغ“، ولم يُترجم حتى الآن إلى لغة أخرى. وفي المضمار نفسه أصدر يزهار رواية قصيرة بعنوان: “خربة خزعة“، نشر محمود درويش ترجمتها العربية، في مجلة الكرمل، في ثمانينيات القرن الماضي.
ولا أعتقد أن كل هذه التداعيات كانت جزءاً من هموم سيلفا الأدبية، عندما صنع فاعلاً رئيساً في روايات متلاحقة، يحمل اسم جبرائيل ألون، وشاء له أن يكون إسرائيلياً، واختار له مهنة ترميم اللوحات الفنية القديمة. هذا هو المهم، أما الباقي فمجرد تفاصيل تُدرس، وتُدرّس، في الجامعات، وتُنشر عنها كتب كثيرة، لتمكين الموهوبين من كتابة أعمال ناجحة.
ومنها، على سبيل المثال، أن شخصية القاتل المحترف، ممثل الأخيار، في روايات الجريمة، والصراع في عالم الظلال، يجب أن تكون إشكالية: يقتل على مضض، لا يحب السلطة، وغالباً، لا يكره ضحاياه، أو يفخر بأعماله، بل يعاني من آلام ما بعد القتل. وفي المقابل، ينبغي لشخصية ممثل الأشرار ألا تقل تعقيداً، فهو، أيضاً، محكوم بدوافع مضادة، بل ويمكن فهمها، وحتى التعاطف معها.
وفي هذا النوع من الكتب، التي تعلّم الناس كيف يكتبون روايات بوليسية ناجحة، يُنصح الدارس بمشاهدة الأفلام السينمائية، وتحليل حبكتها، وتوقيت ظهور شخصياتها الرئيسة والمساعدة، وخلفياتها، وملامحها. لذا، تطغى النـزعة البصرية، وتكثر المواقف المثيرة، والساخنة، القابلة للترجمة بعين الكاميرا، على هذا النوع من النصوص، التي يحوّل الناجح منها إلى أفلام سينمائية، ويدر الكثير من النجومية والمال.
ولعل هذا ما فعله سيلفا، الذي بدأ حياته المهنية في شبكة السي إن إن، قبل التفرّغ للكتابة. كانت شروط النص الناجح حاضرة في ذهنه، إضافة إلى موهبة لا يمكن إنكارها، وكان عليه أن يستجيب للشروط، ولكن في سياق السردية الإسرائيلية الكبرى، حول قصة نشوء الدولة، ونجاحها في صراع البقاء. وكان عليه أن يستخرج منها مكوّنات شخصية الفاعل الرئيس.
لذا وضع الهولوكوست، وعداء العرب المقيم، والعداء للسامية، كخلفية عامة، سيكولوجية، وثقافية، وسياسية، وأيديولوجية، لأفعال ودوافع ممثل الأخيار. وفي المقابل وضع النكبة، وحياة اللاجئين في المخيمات، والأعمال الانتقامية الإسرائيلية، والاحتلال، كخلفية عامة، لأفعال ودوافع ممثل الأشرار.
هذا هو الإطار المفهومي والدلالي العام، لسلسلة الروايات، التي نشرها سيلفا، ومنح فيها دور الفاعل الرئيس لجبرائيل ألون. أما الباقي، أي توليف الحدث، فلا يحتاج إلى أكثر من قراءة ما كُتب عن الموساد الإسرائيلي، وحروب إسرائيل. وهناك الكثير من الكتب، إضافة إلى ما يُنشر في وسائل الإعلام. وغالباً ما يضع سيلفا قائمة بالمصادر التي اعتمد عليها لكتابة هذه الرواية، أو تلك.
وإذا كانت أعماله لا تنجو من صور، وتصوّرات، نمطية، وتمثيلات وهمية، ومتوّهمة، للأخيار، والأشرار، على حد سواء، إلا أن عقب أخيل يتجلى بصورة أشد دلالة في المهنة، التي اختارها لفاعله الروائي الرئيس، أي ترميم اللوحات الفنية القديمة، وهذا ما يعيدنا إلى ما بدأنا به عن روز، وبنيامين، والميسيائية الصهيونية، وأشباح الماضي.
فالترميم (Restoration) الكلمة التي لا يكف ألون (القاتل المحترف على مضض) عن ترديدها، تعني استعادة نضارة وحيوية ألوان، وتفاصيل، اللوحات الفنية التي رُسمت قبل قرون. بمعنى آخر: إصلاح ما أفسد الدهر، وإعادة شيء ما إلى كان عليه. ولهذه المفردة دلالة في التاريخ الإنكليزي، وفي تاريخ الكنيسة.
وفي هذا ما يعيد التذكير بمفردة “تيكون”(Tikkun) العبرية، التي تعني الأمر نفسه، في التقليد الديني اليهودي. وكلتاهما، أي الترميم، وتيكون المُعلمَنة، حجر الزاوية في خطاب الصهيونية عن تخليص الأرض، ونفي المنفى، واليهودي الجديد. وبهذا المعنى، أيضاً، ومع توابل فنية، وتقنيات سردية، وجثة هنا أو هناك، تكتمل في شخصية المُرمم، كما صاغها دانيال سيلفا، صورة الجلاّد المقدّس، الذي يُرغمه الأشرار (الفلسطينيون، مثلاً) على قتلهم، ولكن على مضض.
khaderhas1@hotmail.com