خلال عام 2004 تشكل انطباع عام بإمكانية حدوث إصلاح في العالم العربي، نتيجة لبعض الضغوط الخارجية وتصعيد المطالب الداخلية. في إطار هذا الانطباع عقدت مكتبة الإسكندرية مؤتمرها الأول عن الإصلاح العربي، وكان من أهم نتائجه صدور “وثيقة الإسكندرية” وإنشاء “منتدى الإصلاح العربي” الذي جعل من المؤتمر حدثا سنويا ينعقد في مارس من كل عام، وكذلك تأسيس “مرصد الإصلاح العربي” ليقوم بمتابعة مشاريع الإصلاح في كافة إرجاء الوطن العربي .
وقد قام فريق من الخبراء بإشراف الأستاذ.السيد يسين بإعداد تقرير عن المرصد تمت مناقشته عل هامش المؤتمر الثاني مارس 2005، واكتفت المكتبة عام 2006 بتوزيع كتاب بعنوان “مرصد الإصلاح العربي الإشكاليات والمؤشرات” أشارت فيه إلى أنه سيتم نشر تقرير سنوي يتتبع خطوات الإصلاح في بلدان العالم العربي، وكانت دهشتنا بالغة حين أنتهي المؤتمر الثالث 2006 والرابع 2007 دون ذكر أي شيء عن نتائج هذا المرصد.
وفي مقاله الأسبوعي بجريدة الأهرام بتاريخ 8 / 5/ 2008 كشف السيد يسين سر هذا الأمر فقد “واصل فريق المرصد عمله فأنجز التقرير الأول عام2006 ويتضمن قياس الإصلاح العربي عام2005, والتقرير الثاني عام2007 ويتضمن تقييم الإصلاح عام2006. ويمكن القول إن اللغة التي استخدمها تقرير عام2006 أثارت مشكلات متعددة تتعلق بعدم تسامح مؤسسات البحث والنخب السياسية الحاكمة العربية عموما مع إيراد الحقائق مجردة, أو أبراز السلبيات واخطر من ذلك إعطاؤها التكييف الصحيح, وهكذا تعثر نشر تقرير عام2006 نظرا لان مكتبة الإسكندرية أمضت وقتا طويلا للغاية في تقييمه, تحسبا لاعتراضات قد ترد من دولة عربية أو أخري, إذا ما نشر متضمنا الملاحظات النقدية علي أدائها السياسي, من واقع الأحداث الفعلية التي تمت فعلا والمسجلة في تقارير موضوعية”.
وفي محاولة أخري من قبل مكتبة الإسكندرية لصياغة مؤشرات كمية للإصلاح العربي, تركت التحليل الموضوعي للواقع العربي بالمؤشرات التي سبق أن اقترحناها وطبقناها بنجاح في تقرير المرصد الثاني والثالث, وأثرت أن تصمم استمارة بحث لاستطلاع إدراك النخبة العربية للإصلاح العربي. وقد وزعت الاستمارة علي نحو أربعة ألاف شخص من كل البلاد العربية. غير أن الاستجابة كانت في الواقع مخيبة للآمال فهناك ـ حسب التقرير الذي أصدرته المكتبة ـ نحو17 دولة لم يجب من كل منها سوي شخص واحدا وأكبر عدد من المجيبين كان من مصر نحو180 شخصا والأردن نحو160 شخصا.
وفي تقديرنا أن تحول مكتبة الإسكندرية من رصد وقائع الإصلاح السياسي في ضوء المؤشرات الكيفية التي وضع قواعدها وأسسها مرصد الإصلاح العربي الذي أسسناه، إلى محاولة قياس إدراك النخب العربية للإصلاح فيه، محاولة لتجنب العرض الموضوعي للبؤس الديمقراطي العربي والانتقال إلى مجال القياس غير الموضوعي وغير العلمي لاتجاهات النخبة إزاء الإصلاح !، ففي المجتمعات الشمولية التي يسودها ما يطلق عليه في علم الاجتماع ظاهرة الوعي الزائف نتيجة سيطرة الدولة علي النظام التعليمي وعلي الإعلام بكل أشكاله. ما يجعل وعي المواطن مشوشا, لأنه لا يستطيع التعرف علي وقائع مجتمعه كما هي, ولا علي حقائق الأوضاع السياسية والاجتماعية.
أن هذا الحرص علي صياغة مؤشرات كمية لا تتسم بالثبات والصدق ـ كما تقضي بذلك القواعد المنهجية ـ ليس من شأنه سوي تجنب التحليل الموضوعي للإصلاح العربي وفق المؤشرات الكيفية التي ترصد الواقع الفعلي, وتحلل بدقة وصراحة عملية الصراع السياسي بين دعاة الإصلاح في البلاد العربية وممثلي النخب السياسية الحاكمة الذين يقاومون الإصلاح, ويرفضون مبدأ تداول السلطة, والذي هو جوهر إي تحول ديمقراطي. ينهي السيد ياسين مقالته بأن علي الأكاديميين العرب مهما كانت علاقاتهم بالسلطة بالغة التعقيد أن يصارحوا الجماهير بمؤشرات العجز الديمقراطي العربي وأسبابه المباشرة, والتي تكمن أساسا في سلطوية النخب السياسية الحاكمة من ناحية, وفي تخلف الثقافة السياسية السائدة من ناحية أخري” .
وأننا إذ نرى أن ما يحدث الآن وبعد مرور أربع سنوات على الانطباع الذي ساد عام 2004 بإمكانية تحقق ولو درجة من الإصلاح، نجد الأمر على غير ذلك وأننا عدنا لنقطة الصفر، فالحكام العرب مازالوا يتمسكون بمقاليد السلطة ويسدون كل الطرق لأي بادرة إصلاح، وحلم المجتمع المدني وقوى المعارضة في الإصلاح يشحب ويبدو أنه يحتاج لأساليب وطرق أخري، هذا ما تؤكده نتائج التقرير الأخير الصادر عن مكتبة الإسكندرية، فرغم أنه قام على منهجية المؤشرات الكمية – عل العكس من وجهة نظر السيد ياسين – إلا أنه أوضح بدرجة كبيرة رأى النخبة العربية في مجريات الإصلاح العربي .
فبخصوص إدراك النخبة للإصلاح السياسي طرحت استمارة الاستطلاع مجموعة من الأسئلة حول وجود برامج إصلاحية، ومدى وضوحها، والأطر الزمنية لها، ومقدار التأييد المجتمعي لها، والمصادر التي تقوم بالدعوة لهذه البرامج، وتقييم أداء الأحزاب، ومدى توفر الحريات المدنية والسياسية وغيرها، ويمكن تلخيص نتائج الإجابات عن هذه الأسئلة فيما يلي :
رغم أن الإجابة “بنعم” عن وجود برامج للإصلاح تراوحت ما بين 47.2% في المجال السياسي و43.5% في الاجتماعي و43.3في الاقتصادي ووصلت إلى 38.1% في المجال الثقافي، مما يوضح أن أقل من نصف العينة هم فقط من يعرفون بوجود هذه البرامج، إلا أنه عندما اقترن الوجود بالوضوح انخفضت النسبة مما يعكس غموض وعدم وضوح هذه البرامج، كما انخفضت بنسبة أكبر عند الإجابة عن التحديد الزمني لبرامج الإصلاح، مما يكشف أن نسبة أكبر من عينة النخبة ترى أن برامج الإصلاح الأربعة ليس لها أطر زمنية محددة.
أما عن نسبة من قالوا أن الإصلاح لم يحظ بتأييد المجتمعات العربية فقد بلغت 42.7% للإصلاح الاقتصادي و42% للإصلاح السياسي، وتوضيحا لهذا الأمر كانت الإجابة عن أسباب عدم التأييد تتركز حول أن “الناس لم تشعر بنتائج إيجابية لتطبيق هذه البرامج أوانها لم تكن تعبر عن المشكلات الحقيقية.
والمثير للدهشة كانت الإجابة عن السؤال (20) الخاص بمصدر الدعوة لبرامج الإصلاح، حيث لم تتمكن النسبة الأكبر من عينة النخبة العربية من تحديد مصدر الإصلاح بوجه عام، ولكن الكتلة الأكبر ركزت أن مصدر الإصلاح السياسي هو الملك أو الرئيس، وأن مصدر الإصلاح الاقتصادي هو الحكومة، كما اعتبر قطاع مهم من العينة أن “مؤسسات المجتمع المدني” كانت المصدر الأساسي للدعوة لبرامج الإصلاح الاجتماعي، ولم تحظى الجهات الأجنبية كمصدر للإصلاح سوى على نسبة ضئيلة جدا بلغت 0.8% وهي نتيجة بالغة الدلالة، إذ أنها تشير أن النخبة العربية لا تعتقد أن برنامج الإصلاح العربي له مصدر خارجي.
يفيد الاستطلاع بأن النخبة واعية لعدم الفصل بين السلطات، حيث يتبين أن نسبة 70% لا ترى فصلا للسلطة التشريعية عن باقي السلطات، وأن 68% لا ترى أن هناك فصلا للسلطة التنفيذية، و60% لا ترى فصلا للسلطة القضائية، ويكشف ذلك عن أن الأغلبية لا تستطيع أن تلمس علامات مؤكدة على فصل السلطات، وترى أنه شكلي ونظري موجود فقط في القوانين والدساتير دون تطبيق فعلي .
الأكثر إثارة للدهشة أن نسبة 55.7% من عينة النخبة أشارت إلى أن بلدانها تشهد انتخابات رئاسية، فيما أشار 24.5% إلى أن بلدانهم لم تشهد مثل هذه الانتخابات، ولكن يبقى أن 19.8% من النخبة لم يجب عن هذا السؤال وربما يعكس التوقف عن الإجابة حقيقة الأوضاع العربية .
كانت إجابات العينة بالغة الدلالة فيما يتعلق بالسؤال الخاص بتقييم أداء الأحزاب السياسية، إذ أفاد 51% بأن الحياة الحزبية بشكل عام ضعيفة وغير مؤثرة، بينما يرى 19.2% أنها جيدة جدان واعتبر 17.6% أنها أفضل من ذي قبل، وإذا أضيفت لنسبة الـ 51% التي رأت أن الأحزاب ضعيفة إلى من أفادوا بعدم وجود أحزاب والتي بلغت 9.3% يتضح أن أكثر من 60% يرون أن الحياة السياسية أما في حالة ضعف أو عدم وجود بما يعني غياب الرأي الأخر وثقافة المعارضة .
فيما يتعلق بأوضاع وممارسات حقوق الإنسان، كانت الإجابة عن السؤال (57) كاشفة فقد أفاد 50.8% من العينة أنه لا يتم الالتزام بهذه الحقوق، كما تفيد الإجابة عن السؤال (59) الخاص بحالة الحقوق والحريات المدنية والسياسية بأن 28.1% تعتبر أن حقوق الإنسان منتهكة في بلدانها، وهي نسبة وإن كانت صغيرة إلا أنها تدق ناقوس الخطر، كما أنها تحمل في طياتها مشاعر خوف من قبل النخبة التي تؤثر على قدراتها في الإسهام بالفكر والرأي والإبداع .
اظهر الاستطلاع أن العدد الأكبر من عينة النخبة تؤكد عدم وجود شفافية في العمل السياسي، حيث تجاوزت نسبة التعبير عن عدم وجود شفافية من الأساس، وعدم الرضا عن مستواها، أو عدم الرضا مطلقا 72.5% سؤال (196) وبربط ذلك بالسؤال (37) حول الفساد في المجال الاقتصادي يتضح أن العينة تعتبر نقص الشفافية والفساد عنوانين بارزين في الوضع العربي، حيث أفاد 68.4%بأن الفساد مشكلة مثيرة للقلق، وإذا أضيف إلى ذلك 23.1% اعتبرته كذلك إلى حد ما يتبين أن أكثر من 91% تعتقد بأن الفساد ونقص الشفافية من أهم مشاكل العالم العربي وهي نسبة مخيفة، فالفساد ونقص الشفافية وإحساس المجتمعات بأن ثرواتها يتم إهدارها أو نهبها هو أكثر العوامل التي تدفع إلى اليأس والعجز من الدخول في الاستثمار الاقتصادي والمشاركة في الحياة السياسية .
واستكمالا لشواهد العجز العربي تجدر الإشارة إلى ما نشرته الجرائد في الفترة الأخيرة فقد نشرت جريدة البديل في 8/5/2008 أن د . أحمد درويش وزير الدولة للتنمية الإدارية أرجع تأخر صدور تقرير “لجنة دعم الشفافية ومكافحة الفساد” التي شكلها من شخصيات عامة إلى عدم انعقاد أي اجتماعات للجنة في المرحلة الماضية، مشيرا إلى أنها كانت من المفروض أن ترفع تقريرها لرئيس مجلس الوزراء قبل نهاية ابريل الماضي، وصرح مصدر بوزارة التنمية الإدارية بأن درويش استعان بمستشاريه ومسئولين حكوميين لإنجاز التقرير بعد غياب أعضاء اللجنة عن كل اجتماعاتها .
وما نشرته جريدة المصري اليوم بتاريخ 9/5/2008 حول أداء مصر في مجال حقوق الإنسان، حيث حصلت على درجة (-18) في تقييم الأداء وذلك في تقرير مرصد الأمم المتحدة عن الفترة من يونيو 2007حتى مايو 2008 والذي يرصد الانتهاكات ضد مبادئ وقواعد حقوق الإنسان .
لاشك في أن مكتبة الإسكندرية قد حققت في الخمس سنوات الماضية إنجازات باهرة وأصبحت ساحة للفعل والتفاعل وملتقى للإبداع والمعرفة، ومن أهم فاعليتها دعوتها للتغيير والإصلاح، حيث وفرت مساحة من الحرية للمثقفين والباحثين للالتقاء والتفاعل، واستكمالا لدورها التنويري نطالبها بسرعة نشر تقريري مرصد الإصلاح العربي عن عامي 2006و2007 فهما شهادة التاريخ عن موقف المفكرين تجاه تقاعس الحكام العرب عن مسيرة الإصلاح .
fathifarag_2000@yahoo.com
* كاتب مصري
شواهد العجز عن الإصلاح في العالم العربي: المرصد العربي للإصلاح نموذجا
رصد توخى صاحبه الدقة بامتياز، وإن ظل رهين المحبسين : الموضوعية الفائقة والتي تحاصر الباحث فلا تطلق منه عنان الرغبة في القول الصريح . والمحبس الثاني هوما يمكن نسميته بالحذر الفين من إغضاب المؤسسة . ومع ذلك فالمطر لا يهطل مدرارا دفعة واحدة بل يتجمع في الفضاء لينزل قطرة قطرة أولا ثم في سيول
بعد ذلك . آيار مايو يا أخ فتحي ما زالت بعيدة بعد سارتر وماركيوز عن النخب العربية ذات الروابط التقليدية والمصالح الفردية الضيقة.