جاء اللقاء التشاوري الذي نظمته السلطة السورية متأخراً, وفي مرحلة وصلت فيها السكين إلى العظم السوري, وبعد العديد من المبادرات التي أطلقتها تلاوين المعارضة السورية في الداخل والخارج, وهذا ينم عن لا مبالاة السلطة بالأوضاع القائمة في البلاد, والسخرية من الحراك الاحتجاجي الديمقراطي, ورهانها الأثير على المدخل الأمني / العسكري لحل المشكلة, وكبح جماح الشباب السوري المنتفض والثائر, واللعب على أوتار الوقت. جاء اللقاء التشاوري إذن بعد ثلاثة أشهر ونيف من تخوين السوريين وربطهم بالخارج وتصويرهم كمتآمرين, وهو انعقدَ لأن بضاعة السلطة ( من حيث تخوين المغايرين لخطابها وتوجهاتها ) أثبتت أنها لا تتماشى مع المعايير القياسية المستجدة داخلياً وخارجياً, ولكونها بضاعة ( مضروبة ) ومنتهية الصلاحية, ويمكننا النظرُ إلى وقائع اللقاء التشاوري وبيانه الختامي وكأنه رحالةٌ غريبٌ غير ملِّمٍ بأوضاع البلاد وغير مطلع على تفاصيلها.
خرج علينا المؤتمرون في فندق الصحارى بجملة توصيات أومقررات تجاوزها الشارع السوري عملياً, وهي بحكم المفلسة, وتعاني من فقر في التعبير الحقيقي عن نبض ونهوض الشارع السوري بعد عقود من الأحادية المغالية الراديكالية التي أكلت الأخضر واليابس في البلاد, ودلالة ذلك التظاهرات التي تزامنت مع انعقاد جلسات اللقاء التشاوري والتي أعقبت إعلان توصياته, فلم يعد السوريون يأبهون لأرباع وأنصاف وأشباه الحلول الترقيعية المطروحة من لدن السلطة, مع العلم, أن الخطاب الترقيعي للسلطة, وتوجهها الترقيعي هذا, من خلال الدعوة للحوار الوطني الذي كان اللقاء منصة إطلاقه, لم يك إلا رضوخاً للأمر الواقع الذي فرضه الشارع السوري, بنفيره الخصب وتضحياته الجسام, وإن كان من حيث المضمون موجهاً كخطاب إلى الخارج.
من يقرأ التوصيات يشعر بأنه في مهب عاصفة من البلاغة المرتجلة والتدبيج المرتجل, ولا يملك سوى السخرية والابتسام حيال إصرار السلطة السورية على ممارسة أناها الفوقية البطريركية, فكلنا يعلم من تجاربه المعاشة أن السلطة غير جادة, ولا يمكن أن تكون جادة في تنفيذ تلكم التوصيات أيضاً, رغم خفتها وسطحيتها واختزاليتها وانطلاقها من قواعدها الثابتة, فلم تعترف السلطة بوجود أزمة وطنية من الحجم العائلي, بل استمرت في التعاطي مع الأزمة الوطنية بالاستناد إلى أحكامها المسبقة ونظرياتها التي تتستر على عورات القمع الدموي, والحاصل أن اللقاء التشاوري بنقاشاته ومقرراته كان عبارة عن مهرجان فولكلوري هزلي لايقدم ولا يؤخر.
جرى تسمية ونعت مقررات أو توصيات اللقاء التشاوري بـ ” القواسم المشتركة ” بين المجتمعين المدعوين من قبل هيئة الحوار الوطني, وهذا يعني أن تنظيم اللقاء لم يك لتقرير أسس التعامل مع الأزمة, بقدر ما كان لتمرير أجندات السلطة, من حيث محاولة ضرب صفوف المعارضة الوطنية, أو خلق التباينات فيما بينها, أو إيهام الخارج المراقب بان السلطة السورية بدأت بتلبية مناشداتها الداعية إلى الحوار الوطني والإصلاحات, على الأقل لتعزيز الموقفين الروسي والصيني. لم يك لتسمية ” القواسم المشتركة ” من مبرر, فالسوريون على اختلافهم مجمعون على العديد من النقاط التي وردت في البيان الختامي للتشاوري من حيث ضرورة الحوار والاستقرار والإفراج عن المعتقلين والسجناء السياسيين.. إلخ.
ولكن كل قاسم مشترك وارد في البيان الختامي لا يخلو من اللبس والغموض والقصور, وهي غير واضحة وغير حاسمة في محاولة تجاوز المشكلة والصعوبات الهائلة التي خلفتها حقبة مديدة من الاستبداد السياسي والأمني والهيمنة الأحادية وتهميش المكونات السورية وامتهان كرامة السوريين والاستهتار بالمبادىء ومنظومة القيم والمعايير الإنسانية العالمية الواردة في العهود والمواثيق الدولية, التي كانت الجمهورية السورية طرفاً موقعاً وملتزماً فيها.
الحوار ضرورة وطنية لحل أزمات البلاد المستعصية على الحل, ولكن هذا الحوار لا يتم بناء على المسبقات الفكرية والنظرية, إنما يحتاج للنمو والترعرع إلى أجواء إيجابية, فلا يمكن التحاور تحت ظلال الكلاشينكوفات ومدافع الدبابات وتحويل العديد من المناطق السورية إلى ثكنات عسكرية مفتوحة, والأصل أن دعوة السلطة إلى الحوار مثيرة للاستغراب, لماذا يتحاور السوريون معها ما دامت السلطة لم تقر بوجود أزمة في البلاد, بل لا تزال تنعت المحتجين والمتظاهرين والمنتفضين ضدها بالمخربين والعصابات الإرهابية والإجرامية.
ويسوِّفُ اللقاء التشاوري الإصلاحات إلى ما بعد حدوث الاستقرار, وهذا يعني أن السلطة وضعت كامل بيضها في سلة الحل الأمني, وحين تقمع الاحتجاجات والتظاهرات بالبارود والنار حينها – كما عودتنا السلطة السورية – لن تحتاج السلطة إلى الحوار والإصلاح.
والدعوة إلى التسامح غريبة ومستهجنة, إذ كيف تطلب السلطة من الآخرين التسامح ولم تبادر بأية خطوة في السياق, فلم تعطي الضمانات للنازحين واللاجئين من أجل العودة, ولم تفرج عن آلاف المعتقلين قديماً وحديثاً, ولم تعترف بمقتل وإصابة آلاف السوريين برصاص الأمن والشبيحة, بل لا تزال تدندن بأغنيتها ومعزوفتها الأثيرة حول أن كل قتيل سوري إنما سقط برصاص المجموعات المسلحة التخريبية, كيف يتسامح السوريون مع السلطة المستهترة بحيوات السوريين ؟.
تأتي الفقرة ( رابعاً ) من البيان الختامي غامضة وقابلة للتأويل, فهي ترفض ” الاعتداء على الأشخاص والممتلكات العامة والخاصة، ومن أيّ جهة تبادر إليه “, بذا تجري المساواة بين الضحية والجلاد, لماذا لم توضع النقاط على الحروف ولم يشر إلى أن قمع أجهزة السلطة للمواطنين العزل في الشوارع والساحات هو المسبب وهو الدافع الأول والأخير المولد لردود فعل مضادة, هل قامت السلطة مثلاً في بادرة حسن نوايا إلى معاقبة مسؤولين أمنيين أو إحالتهم إلى القضاء. وهل تسمح السلطة في هذه اللحظة السورية العاصفة للمواطنين بالإدعاء الشخصي على الضباط والعناصر المتورطين في أعمال القمع والعنف والتعذيب, أم أن المرسوم التشريعي 69 لعام 2008 لا يزال ساري المفعول وفوق القوانين السورية الأخرى, وهو المرسوم الذي يقول لك بوضوح وشفافية : إذا ضربتك المخابرات على خدك الأيمن فأدر لها خدك الأيسر, إلا إذا كان البند ( 13 ) حاسماً في هذا الاتجاه نظرياً وعملياً, وهو البند الذي ينص على (تطبيق مبدأ سيادة القانون وإنفاذه بحقّ كلّ من ارتكب جرماً يعاقب عليه القانون، ومحاسبة الجميع دون استثناء ).
لم تراعي السلطة البند ( خامساً ) من القواسم المشتركة التي تضمنها البيان الختامي, إذ لم تفرج عن المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي الذين تكتظ بهم فروع الأمن وسجون البلاد ( المسلمية وعدرا تحديداً ), بل على العكس تماماً إذ زادت وتيرة الاعتقالات في الفترة اللاحقة للقاء التشاوري, إذ ابتدأت باعتقال الفنانين والمثقفين في تظاهرة حي الميدان بدمشق, ولم تنتهي باختطاف المعارض السوري جورج صبرا وهذه الذهنية غير البارة لوثائقها ووعودها حتى تطرحُ أكثر من إشارة استفهام حول جدية ومصداقية السلطة السورية في موضوع الحوار الوطني, فالأرضية الخصبة لهكذا حوار لن تكون مهيئة إذا لم تعمد السلطة إلى إنهاء العمل بسياسة الاعتقال التعسفي وطي هذا الملف مرة وإلى الأبد.
البند ( سادساً ) إشكاليٌّ بإمتياز, فـ ( التوصية بإطلاق سراح جميع الموقوفين خلال الأحداث الأخيرة ممّن لم تثبت إدانتهم أمام السلطات القضائية ) غير قابل للحياة عملياً, إذا ما علمنا أن الفروع الأمنية تنتزع الاعترافات تحت التعذيب انتزاعاً, والقضاء السوري غير المستقل أشبه بالعبد المأمور في تنفيذ معطيات محضر الضبط المنظم من قبل فروع المخابرات, وليس لديه صلاحيات في هذا الخصوص, وكثيراً ما يكون ملف المعتقل المحال إلى القضاء متضمناً كتاب توصية من الجهة الأمنية, يُحدّدْ فيها التوصيف الجرمي والمواد التي يفترض تطبيقها على ذلكم المعتقل ( كما جرى معي في المحكمة العسكرية بحلب ), ومادامت استقلالية القضاء في سوريا مهدورة, ولم تباشر السلطة كما وعدت بإصلاح القضاء وتعزيز استقلاليته وتمكينه وتنزيهه من الشوائب العالقة.
البند ( سابعاً ) يطرح إمكان التوصية بـ ( إنشاء مجلس أعلى لحقوق الإنسان في سورية ), والواقع أن كل التجارب الأخرى في المنطقة التي قضت بإنشاء مجالس لحقوق الإنسان في جهاز الدولة كانت فاشلة وقاصرة, وافتقدت الحياد اللازم من أجل مراقبة انتهاكات حقوق الإنسان ورصدها وفضحها, والتجربتان المصرية والمغربية خير دليل على ما نذهب إليه.
البند ( تاسعاً ) يحدثنا عن هيبة الدولة كنتاج للتفويض الوطني, ولكن اصطلاح (هيبة الدولة) فضفاض وحمال أوجه, لعلمنا أن خيرة النشطاء والمعارضين السوريين اعتقلوا وأخضعوا لمحاكمات جائرة بتهمة ( النيل من هيبة الدولة ) نتيجة لكتابة مقال نمَّ فحواه عن افتراق مع مفاهيم السلطة ومقارباتها للمسائل الداخلية أو الخارجية, أو مشاركات تلفزيونية, أو توقيع على عريضة مطلبية.
البنود ( القواسم المشتركة ) الثمانية عشر خلت من إيراد ذكر الكورد كمكون بارز من مكونات سوريا والقومية الثانية من حيث التعداد في البلاد, ويبدو أن تجاهل حقوق ومطالب الكورد في سوريا يشكل قاسماً مشتركاً بين السلطة والمعارضة, فلا السلطة تريد إدراجهم في أي من وثائقها, ولا المعارضة تميل إلى إدراج حقوقهم بشكل قاطع في وثائقها.
أرتأينا التركيز على بعض البنود دون غيرها من البيان الختامي الذي جرى توزيعه على المنابر الإعلامية المحلية قبل أن يصار إلى إضافة موضوع التعديلات الدستورية ومراجعة الدستور النافذ منذ 1973 في اليوم التالي لإعلان البيان الختامي, والحقيقة أنه ليس من شأن التوصيات والمقررات – أياً كانت الجهة التي أصدرتها – أن تغير شيئاً في البلاد, ما لم تترجم فعلياً وعملياً على أرض الواقع, أما الاكتفاء بتنسيق البنود والنقاط على الورق دون أن تصل رائحتها إلى الشوارع والساحات, وتبق أسيرة الأدراج المقفلة, فهذا سيجعل الأزمة قائمة دون مزيد من الآمال حول الحل.
ما نلاحظه بعد أسبوع أو يزيد من انتهاء اللقاء التشاوري وإعلان بيانه الختامي, أن الأمور لا تزال على حالها, والسبات على ضفة السلطة هو المرئي الوحيد.
mbismail2@gmail.com
كاتب سوري