رزان زيتونة
لم يكن ينقص أصحاب رؤوس الأموال المستثمرين في شتى المجالات من صناعة الهواء إلى بيع الماء، إلا أن يبادروا للاستثمار والمتاجرة في ثلاثة مجالات متداخلة، التاريخ، السكان، والمدن. فيستملكوا جزءا من الأول، ويعبثوا بجزء من الثاني ويبيعوا جزءا من الثالث، فإذا نحن بفضل نياتهم الطيبة، في وطن جديد ونظيف!.
دمشق القديمة دخلت المزاد العلني للمزاودين على التاريخ والذاكرة ولقمة العيش. وقريبا جدا، من المفترض أن تكون مؤهلة لدخول عام 2008 كعاصمة للثقافة العربية، بعد أن تم “تجديد” ثقافتها بالبلدوزر.
سوق القرماني
منذ القرماني
عندما تم هدم سوق القرماني أوائل العام الماضي، شوهد أصحاب المحلات يبكون أمام أنقاض محلاتهم. فقد أصبحوا بلا مورد رزق بين ليلة وضحاها، وتكفلت آنذاك شرطة النجدة ومكافحة الشغب بكفكفة دموعهم وإزاحتهم عن المكان الذي رفضوا التخلي عنه ببساطة.
سوق القرماني الذي يحتوي على أكثر من مئة وثلاثين محلا تجاريا، كان أول ضحايا المخطط التنظيمي لمحافظة دمشق الموضوع منذ أكثر من ثلاثين عاما.
أصحاب المحلات كانوا قد دفعوا مستحقاتهم للمحافظة بدءا من تاريخ 1-1-2006. تلقوا الإنذار بتاريخ 20-4-2006، وحصل الهدم بعد عشرة أيام.
عقب الهدم نشرت جريدة الثورة تقريرين صحفيين شديدي اللهجة ضد ما حصل والمسؤولين عنه، مع التلميح على لسان مواطنين التقت بهم إلى قيام المحافظة ببيع جزء من المناطق المستملكة لأشخاص مستعدين لدفع مئات الملايين كي يتم إخلاء المنطقة وهدمها. (المخطط التنظيمي لدمشق عمره ثلاثون عاماً.?!…عينها على السوق القديم- جريدة الثورة (30/4/2006) -حتى لا يلعننا المستقبل..- معن عاقل- الثورة 30-3-2006)
بعد أشهر، في تشرين الثاني 2006، عادت الجرافات من جديد لتستكمل ما بدأته فقضت على ما تبقى من السوق العتيق بالإضافة إلى ميتم سيد قريش.
آنذاك، قيل أن مركز التراث العالمي هدد برفع اسم دمشق نهائيا عن لائحة التراث العالمي الإنساني، إذا ما استمر هدم الأحياء القديمة بهذا الشكل. لكن مديرية الآثار والمتاحف نفت الخبر جملة وتفصيلا، معتبرة أن ” ماتم هدمه هو السوق العتيق وميتم سيد قريش وهما لايحملان أية سمة أثرية أو جمالية أو فنية وقد تم إقرار الهدم من قبل المجلس الأعلى للآثار والمديرية العامة للآثار وشاركت في اتخاذ القرار لجان علمية وفنية وتم الإبقاء على حمام القرماني في المنطقة …” .
سوق المناخلية
وفي اتصال لنا ببعض الأشخاص في مديرية الآثار والمتاحف، طلبوا منا أن لا نعول ولو قليلا على تدخل المديرية، لأن “شخصيتها ضعيفة” أمام المحافظ ! كما أكدوا أن هناك مناطق في محافظات أخرى تحمل قيمة تاريخية وأثرية أكبر من المناطق التي هدمت في دمشق القديمة، قد تعرضت بدورها للإزالة بدون أن يرف جفن المديرية وفقا لما قالوا.
هذا فيما أكد آخرون بأن المخطط الجديد الذي يجري بموجبه بتر أطراف مدينة دمشق القديمة، يستند إلى مخطط المهندس المعماري الفرنسي إيكوشار في العام 1968 “والذي بات خارج الزمن وأثبت عدم صلاحيته” كما أكدت مرارا الكاتبة ناديا خوست عضو جمعية أصدقاء دمشق التي أشارت أيضا إلى أن «مهندسين فرنسيين حاليا قاموا بدراسات رفضوا خلالها هذا المخطط».
كشف عن السور..أم عن الدولارات؟!
لم تهدأ عاصفة هدم السوق العتيق، حتى أكد محافظ مدينة دمشق “أنه سيكشف (هكذا) سور المدينة الأثري وأبواب المناخلية والعمارة وباب السلام عبر طريق مشروع الملك فيصل الذي سيبدأ العمل فيه في النصف الأول من العام ويبلغ طول الشارع نحو 1400 متر”. “ما يقتضي إزالة أسواق دمشق القديمة ومنها سوق المناخلية القديم وسوق العمارة وجميع المحلات بدءا من شارع الثورة إلى سوق المناخلية القديم والعمارة وباب السلام وصولا إلى باب توما!. هذه الأسواق العائدة للعهد المملوكي”.”المحافظة أكدت أنه سيقام شريط يصل المدينة القديمة بالحديثة وهو يمتد من أوتستراد المزة إلى باب شرقي إلى المتحلق لكشف ثلاثة أبواب من أبواب دمشق السبع، مع لحظ أن المشروع سيحافظ على كل ما هو أثري وسيزيل كل ما هو عتيق بخطة تنفذ على ثلاثة مراحل ، ولفتت هذه المصادر إلى أن سوق المناخلية غير أثري” (سيريا نيوز- جدل قائم حول شارع بطول 1400 متر 4-3-2007).
تحديد ما هو أثري من ماهو غير أثري، يتم قياسا على حجم الأموال الخليجية المتدفقة فيما يبدو، حيث نقرأ في جريدة الثورة في عددها الصادر بتاريخ 7-3-2007 :”صادق المكتب التنفيذي لمحافظة دمشق أمس الأول على المخطط التوجيهي للمدينة القديمة بعد انتظار طال نحو عقد ونصف….هنا نشير أن المخطط واجهته اعتراضات عديدة في ندوتين عقدتا في نقابة المهندسين بدمشق من قبل أساتذة ومختصين وكانت الأخيرة منذ ستة أشهر مع ذلك تجاوزت اللجنة الاعتراضات ليعرض المخطط في اللحظات الأخيرة للمكتب التنفيذي بشكل مريب تمهيدا لمصادقة مجلس محافظة دمشق وهنا أيضا مخالفة صريحة لعدم عرضه على اللجنة الفنية المختصة في مجلس المحافظة. الثورة-7-3-2007.
من ناحية أخرى، تشير رسالة موجهة من مدير مركز التراث العالمي في اليونسكو السيد فرانسيسكو باندارين إلى السيد وزير الثقافة إلى أن مراسلات سابقة قد جرت بين الطرفين حول أعمال الهدم في دمشق القديمة، وأن عمليات هدم السوق العتيق كانت بموافقة المديرية العامة للآثار والمتاحف وأن فتح الطريق إلى جانب سور المدينة القديمة محاذيا لشارع الملك فيصل، لم يكن سوى اقتراح!! وفقا لما أكدته الوزارة لمدير مركز التراث العالمي، الذي يؤكد بدوره في رسالته بأن حماية تراث مدينة دمشق لا يحدد بالمدينة التي تقع داخل السور، لكنه يمتد إلى المناطق خارجه ، وأن مشروع الطريق خارج السور لا يلغي أبدا التأثير الضار على المدينة القديمة وقيمتها الأثرية. ويختم مدير مركز التراث رسالته بأنه مجبر على تقديم تقرير بهذا الوضع إلى البلدان الأعضاء في لجنة التراث العالمي.
بالمجمل، تود محافظة دمشق أن تبقي على تذكارات فقط من دمشق القديمة. لفتني تعبير في الصميم ورد في إحدى المقالات التي كتبت عن الموضوع حيث يقول الكاتب “أي أن السائح أو المواطن – لا فرق – سيمر بسيارته من شارع الثورة بـ”سوليدير دمشقي” الى أن يصل باب توما بعد أن يكون قد مر مرور الكرام على ديكور تراثي “أجرد ومقلّم” ( باب الفرج – باب الفراديس – باب السلام – باب توما”(.
.
السور المراد كشفه
العبث بالديموغرافيا
أين سيرحل أهل المنطقة المهددة بالهدم؟؟ هل هو سؤال فائض عن الحاجة؟ . سيرحل أهالي المنطقة إلى خارج “دمشقهم”، إلى الأرياف في رحلة طالت معظم أهالي المدينة سابقا بسبب الأوضاع المادية السيئة، وتستكمل حاليا بسبب خطط “التجميل والتحديث”.
وكأن الهدف تحويل دمشق القديمة إلى مجرد متحف. والفرق بين المتحف والمدينة القديمة، هو أن الأول يحتوي على آثار تحكي عن أناس كانوا يوما هنا. والثانية، هي حكاية مستمرة لحجر وبشر يتفاعلان تاريخا ومجتمعا وعبقا وروحا.
مع العلم بأن هذه المدينة طالما عانت من الإهمال على مختلف الأصعدة، وجاء تطبيق هذا المخطط التنظيمي على هيئة عشق مفاجئ ومثير للريبة يشبه إلى حد بعيد قبلة الموت!
ذكر موقع الجمل في تقرير له منشور بتاريخ 5-3-2007، بأن التجار أثناء اجتماعهم بمدير غرفة تجارة دمشق، قالوا لمدير التخطيط العمراني بمحافظة دمشق “أعطنا مقاسم من الأرض التي ستقوم عليها المجمعات التجارية تكون لنا” لكن السيد المدير أغلقها في وجه التجار وقال “لا هذه ليست لكم إنها استثمارات لدول الخليج”!!.
عدم المؤاخذة..لم نكن نعلم!.
تعاطي الصحافة مع القضية:
فيما تعاطت الصحافة الالكترونية (المصنفة قريبة من السلطة) مع القضية باهتمام أحيانا وحيادية أحيانا أخرى، بقيت الصحافة المكتوبة الرسمية أسيرة ذبذبة في الموقف غير مفهومة. فحينا تقف ضد المشروع بإصرار، وحينا آخر تباركه وتشجع عليه.
ومن الملفت أن جريدة الثورة نشرت في عددها الصادر بتاريخ 5-3-2007 خبرا تقول فيه :”طالبت محافظة دمشق في رسالة إلى الإعلام كي يسلط الضوء على الخدمات البيئية والاجتماعية التي تقوم بها المحافظة لتوعية المواطن وطلب مؤازرته للحفاظ على مدينته الأثرية والتي هي من أهمها الآن هو كشف سور دمشق الشمالي وترميمه وتأهيله إضافة إلى كشف أبواب دمشق القديمة الشمالية وإزالة التعديات عنها… وأوردت المحافظة كدليل على اهتمامها ما قامت به من تنفيذ مشروع الشيخ سعد والقرماني وسوق العتيق وإعادته للحياة الاجتماعية بشكل عصري جميل وتخليص المدينة من بؤرة بيئية سيئة”. فيما يشير كما يبدو إلى انزعاج المحافظة من بعض المقالات التي تنتقد المشروع، ورغبتها في “توحيد الموقف” الإعلامي لتوعية المواطن وإفهامه وعقلنته، لأنه جاهل وغبي ولا يفهم بأن ما تقوم به المحافظة هو لمصلحته ولمصلحته فقط!
تجارة مرة أخرى!
لأول وهلة شعرت بالغضب من طرح التجار شاغلي المحلات المعرضة للهدم، والذي يتخلص في ثلاثة نقاط رئيسية، التعويض العادل، البقاء كتجمع تجاري واحد، وعلى أن يكون ذلك في مدينة دمشق حصرا. بمعنى أن تحقيق هذه المطالب من شأنه أن يوقف ممانعتهم لمشروع الهدم والإزالة.
لكن أحد التجار رد على غضبي قائلا :”سأحرص على أن أبكي مدينتي القديمة آخر الليل، أبكي ذكرياتي وذكريات عائلتي، وكل ما يشدني إلى هذا المكان الرائع. لكنني لا أستطيع فعل ذلك طوال اليوم، لأني لدي عدة عائلات تعتاش من محلنا التجاري. يجب أن أفكر بداية في إطعامها وتأمين الحياة الكريمة لها”.
لن يتم تعويض التجار شاغلي المحال التجارية التي يقدر عددها بعدة آلاف، في المناطق المعرضة للهدم. آلاف العائلات ستجد نفسها في سوق البطالة الذي تتسع للجميع!.
المحافظ عرض على التجار الشاغلين أرضا في منطقة المعضمية، وهذا يعني، عدا عن بعد المنطقة عن قلب المدينة وانعدام التعويض، بقاءهم لسنوات قيد البطالة قبل الانتهاء من بناء المنطقة وتجهيزها.
خسائر التجار تقدر بالملايين، “والمحافظة تريد إعطاءنا أرضا بقيمة عشرين مليون ليرة سورية وخارج مدينة دمشق” يقول أحد التجار. ويضيف آخر “عندما اشتريت محلي منذ حوالي العام، كشفت عنه في المحافظة ولم يكن هناك أي شيء على المحل الذي كلفني نحو تسعة ملايين ليرة سورية، والآن يقولون أن علينا المغادرة”.
جميع التجار والشاغلين للمنطقة يؤكدون أنهم مع تجميل وتحديث المكان، ولكن ليس إزالته.
يذكر أنه قد جرى إجبار تجار سوق المناخلية القديم على دفع تكلفة ترميم السوق (حوالي 15مليون ليرة سورية) الذي يعود إلى العهد المملوكي منذ أكثر من عشرة أعوام .
ويضيف تاجر آخر “أنا ابن مدينة دمشق، لماذا يخرجونني من مدينتي، ثم إذا كانوا يريدون إخراجنا سنذهب فلا حول ولا قوة إلا بالله، لكن فليعطونا التعويض العادل”.
هل هناك ما يمكن عمله؟
تنص مقدمة اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي على أن حماية التراث العالمي واجب على المجتمع الدولي بأكمله من غير مساس بالسيادة الوطنية وحقوق الملكية المنصوص عليها في التشريعات الوطنية.
وبالتالي فإن المنظمات الدولية المعنية المنبثقة عن الأمم المتحدة، ملزمة وفقا لما سبق بعمل ما هو أكثر من التراسل مع الوزارات ذات الصلة، على اعتبار أن دمشق القديمة هي إرث إنساني مشترك.
لكن الحفاظ على هذه المدينة هو بالدرجة الأولى مسؤليتنا نحن. فلا يجوز السكوت عما يحدث والاكتفاء بالمراقبة وإبداء الأسف، حتى لو كان ما يمكن أن نقوم به متواضعا، وحتى لو كنا “واقعيين” جدا ولا نملك أحلاما كبيرة عن تأثير تحركنا في هذا الاتجاه.
يمكن القيام بالأنشطة المختلفة بدءا من إرسال الرسائل إلى الجهات الحكومية المعنية ومنظمة اليونسكو والمنظمات المنبثقة عنها ذات الصلة، من أجل الضغط لوقف هذا المشروع إلى حين تشكيل لجنة مختصة بمشاركة خبراء من اليونيسكو – وهو بالمناسبة ما سبق واقترحه مدير مركز التراث العالمي في رسالته المذكورة سابقا، لدراسة الوضع والخروج بتقرير علمي يقيم الأمور على حقيقتها.
مرورا بتنظيم العرائض وطرح الموضوع في الإعلام بكثافة وليس انتهاء بالإجراءات القانونية الممكنة، خاصة لجهة قضية شاغلي المحال التجارية المهددين بالترحيل والبطالة. لعل وعسى أن نسبق الزمن، فنمنع عنه المضي ببقايا ما نملك من ذاكرة وحنين..ومدينة.
razanw77@gmail.com
* دمشق