بدأ حزب الله يشعر بثقل معركته على الاراضي السورية بعد انتصاره على المعارضة السورية في موقعة القصير الشهيرة. هو ثقل الاستنزاف الذي يسببه الغرق في الازمة السورية المفتوحة على مزيد من الخسائر البشرية والمادية والانتصارات الوهمية، والاحقاد المذهبية أولا.
فموقعة القصير كانت تنطوي على تحقيق انجاز عسكري قابل للاستثمار في مؤتمر جنيف 2، فضلا عن اعادة الثقة الى النظام وجيشه. وهذه الموقعة كانت تعبيرًا عن استجابة لقرار ايران بانخراط الذراع الاهم لها في المنطقة بالمعركة السورية. واستجاب حزب الله لهذا القرار، انطلاقا من مبدأ الطاعة لولاية الفقيه.
فحزب الله، كما تقدر اوساط قريبة منه، يستنزف اكثر من 50 في المئة من طاقته البشرية واللوجستية في سورية، وهو استنزاف مرشح الى التزايد بسبب استمرار الازمة، واتساع جغرافيا المعركة خصوصًا بعدما جعل الحزب نفسه قوة هدفها سد عجز الجيش السوري في المواجهات من جهة، واعداد الخطط لمواجهة تقدم قوى المعارضة على اكثر من جبهة مرشحة للاشتعال بقوة بعد حصولها على السلاح.
وحزب الله بدأ يتلمس كيف ان عدد قتلاه وجرحاه، من محازبيه، في المعارك اللبنانية والسورية والفلسطينية، ومنذ تأسيسه كحركة مقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي، بات يتجاوز اعداد الشهداء والجرحى الذين سقطوا في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي. وهي اعداد تزيد كل يوم في خانة “شهيد الواجب الجهادي”، المصطلح الذي يعني ان صاحبه لم يقتل في مواجهة مع اسرائيل.
عدّاد الضحايا لن يتوقف، وما بعد القصير اخطر مما قبلها، خصوصا ان المجتمع الدولي ليس مستعجلا لحسم الموقف في سورية، ومؤتمر جنيف 2 في مهب الريح، ولا شكوى دولية من تلاشيه. بل يدفع هذا المجتمع اكثر فاكثر في اتجاه ان تتحول سورية الى رمال متحركة ما دامت تبتلع كل مندفع الى القتال من خارجها. وحزب الله ليس وحيداً على هذا الصعيد في الوليمة السورية، وان كان الطبق الأشهى بينها.
وسط الاثقال السورية التي حملها حزب الله ويتحملها، استجابة لقرار الولي الفقيه، وما احدثته وتحدثه من خسائر وتشوهات في مسيرته العربية والاسلامية، ومن خسائر بشرية ومادية ومعنوية، إلا أنّه اظهر، خلال الاشهر الماضية، وبعد معركة القصير تحديدا، انه مستعد لدفع الاكلاف، ورد الجميل، انطلاقا من مقولة زعيمه: “كل ما لدينا من ايران”.
لكن ثمة احساساً يتسرب الى نفوس بعض الكوادر القيادية في الحزب، بعمق المشكلة غير المسبوقة التي دخل فيها حزبهم. مشكلة من خارج السياق الذي اعتاد تحدياته منذ نشأته، بمعنى أنّها تهدّد ماهية وجوده، على ما يرى بعض كوادره: “اذا كنا منذورين للموت فهل يجب ان نقتل مشروعنا وان نموت معه؟”.
بالعودة الى استعدادات الحزب لدفع كلفة ما بعد القصير، تشير بعض اوساطه الى نقاش داخلي ومحدود حول مدى قدرته على تحمل تداعيات الانخراط في القتال داخل سورية. وثمة من يتحدث عن اتجاه الحزب إلى إعلان استعداده للانسحاب من سورية شرط اعلان المجموعات غير السورية استعدادها للانسحاب ايضا. في وقت تناقلت بعض الجهات السياسية معلومات عن ان قيادة حزب الله رفعت الى القيادة الايرانية مطالب تدعوها الى عدم تحميل حزب الله اعباء فوق طاقته في الملف السوري.
ترافق ذلك مع ما برز من اشارات في الموقف المسيحي اللبناني الذي بات، من زاوية المصالح المسيحية العميقة في لبنان، ينحو اكثر فأكثر الى قراءة الصراع باعتباره صراعًا سنيًا – شيعيًا لا يريد ان يكون طرفاً فيه، ولا يريد للمسيحيين ان يدفعوا قطرة دم في سبيله، خصوصا أنّ نصائح الكنيسة لحزب الله، بشكل مباشر او عبر العماد ميشال عون، بلجم اندفاعته السورية، لم تلقَ آذانا صاغية، على ما تؤكد اوساط كنسية.
فما بعد القصير ليس كما قبله مسيحيًا. وثمة مزاج مسيحي عام بات متحسسًا اليوم من سلوك حزب الله وخياراته، لما له من مخاطر على المسيحيين ومصالحهم عموما. وبات اتهام حزب الله بالسيطرة على الدولة والتحكم بها، بعد معركة القصير واحداث عبرا الاخيرة، يلقى آذانا صاغية في الشارع المسيحي اكثر من قبل. والدليل مواقف البطريركية المارونية، سواء على لسان البطريرك بشارة الراعي او في بيان المطارنة الموارنة الاخير، في ما يتصل بموضوع السلاح غير الشرعي، والتشديد على ضرورة أحادية سلاح الدولة. وهي من المؤشرات لبدء رفع صوت مسيحي يعبّر عن ضيق من عبء الصراع السني – الشيعي، مترافقة مع سعي المسيحيين إلى النأي بأنفسهم عن تداعياته.
بعد القصير نحن امام ترجمة جديدة لمصالح التيار المسيحي التقليدي الذي تعبر عنه الكنيسة اليوم. وخير دليل بيان المطارنة الموارنة الاخير. نظام مصالح بدأ يفرض اعادة تنشيط علاقات الكنيسة بالدول العربية والغربية، في خطوة هدفها الاساس النأي بالمسيحيين عن حلقة النار التي قد تأكلهم في المطرح الأول.
alyalamine@gmail.com
البلد