“الغدر” هو الوصف الذي نسبه معنيون في المؤسسة العسكرية لعملية قتل الرائد عباس جمعة في أحد ازقة منطقة الغبيري. لم تتضح ابعاد هذا الوصف ان كان ناتجًا من تسريب معلومات تم قبل لحظات من محاولة تنفيذ اعتقال حسن كركي، الشهير بعنتر، ام ان اتفاقا كان جرى مع عنتر نفسه لتسليم نفسه إلى جهاز مخابرات الجيش (هو المطلوب بمذكرات توقيف يقال انها بالعشرات) ثم ما لبث ان انقلب على هذا الاتفاق، وأطلق النار من مسدسه، ما أدّى الى اصابة الضابط جمعة في رأسه، فتوفي بعد ايام فضلا عن اصابة ضابط وعنصر من جهاز مخابرات الجيش.
شخصية عنتر كركي معروفة على مستوى الضاحية الجنوبية، ومتلازمة مع مقولة انه مطلوب للقضاء اللبناني، منذ اكثر من عقدين من الزمن. الى جانب ذلك يربط الكثيرون بين قدرته على تحصين نفسه من الاعتقال، وبين غطاء سياسي كان يؤمنه له حزب الله. ودائما كان يشار اليه في محيطه، خلال السنوات الماضية، بأنه هو من اطلق النار على موكب اللواء غازي كنعان خلال دخوله الى الضاحية الجنوبية في حادثة شهيرة حصلت في نهاية عقد الثمانينات الماضي. وشهرتها تأتي من ان حزب الله آنذاك رفض تسليمه إلى كنعان، وقيل لاحقا أنه سلّم شكلا وتم الافراج عنه بشكل فوري.
ومن المعروف ان الزقاق الذي اقام فيه كركي مواز لشارع المقداد في منطقة لغبيري، وهو غير ما يعرف بـ”حيّ المقداد” في منطقة الرويس. كان الشارعان يشهدان مواجهات في فترات متباعدة، تستخدم خلالها الاسلحة الرشاشة واستعراض القوة، الذي اتاح لكركي موقعا يتهيبه ابناء محيطه ويزيد من التفاف عائلته حوله ويضفي نوعا من العصبية العنترية التي تتشكل من شعور بالقوة والحماية والمصالح التي يوفرها لمحيطه. لذا يقول بعض من يعرفوه انه كان محبوبا في محيطه العائلي والاجتماعي بسبب ما كان يوفره لهم من خدمات ومصالح وحماية.
لم يشكك احد خلال السنوات الماضية ان عنتر كركي كان يجد لنفسه حضنا حاميا من حزب الله، وان اختلف البعض حول انتسابه إلى الحزب، أو العكس. وما تقوله مصادر امنية في ما يحيط بهذه الشخصية هو ان مذكرات توقيف عدة صدرت في حقه من لبنان وخارجه. فهو متهم بالتورط في تزوير وثائق سفر لبنانية وغير لبنانية وسمات دخول الى دول مختلفة، فضلاً عن جرائم غيرها قبل جريمته الأخيرة.
ازاء كل ذلك اثارت العملية المأسوية الاخيرة تساؤلات في اوساط محايدة في الضاحية الجنوبية، حيال خلفية القرار المتخذ، إذ ثمة قناعة لدى هؤلاء بأن قرار اعتقال كركي لا يمكن ان يصدر من دون طلب او موافقة حزب الله خصوصًا ان الاخير قادر على اخفاء وابعاد من لا يرغب في اعتقالهم بوسائل شتى. وثمة شواهد متداولة عن اشخاص مطلوبين في جرائم مختلفة ولا يزالون خارج قيد الاعتقال، بالاختفاء او الحصانة الحزبية.
لم تزل الاسئلة تحيط بما جرى في محاولة اعتقال عنتر، الذي تم القبض عليه لاحقا بتنسيق بين حزب الله والجيش، في حي الجاموس المحاذي لمنطقة الحدث، وهي محل تكتم شديد من المعنيين سواء في المؤسسة العسكرية او في الضاحية. فهل هي بداية عهد جديد في الضاحية الجنوبية عنوانه الدخول الفعلي للاجهزة الامنية والعسكرية اليها؟ ام هي عملية فرضها ظرف استثنائي وبالتالي هي خطوة مقتصرة على مكان وزمان محددين؟
فهذه العملية تمت في اعقاب اعتقال ماهر المقداد وبعض معاونيه من ابناء العائلة من دون ان تقع اي خسائر بشرية او اطلاق نار، وسط انهيار دراماتيكي لما سمي “الجناح العسكري لآل المقداد”. فقد تمت مداهمة عشرات البيوت من قبل الاجهزة العسكرية الرسمية بشكل مدروس ومنسق مع حزب الله. فهل بدأ حزب الله بتسليم ميليشيات الضاحية الفوضوية في “اللحظة السورية”، وهي ميليشيات حماها واحتمى بها، وكانت اساور من ذهب لتصير اليوم أثقالاً اجتماعية وسياسية يحسن التخلص منها؟ ليس خافياً على أحد أن الصيت الامني للضاحية لبنانيا وخارجيا لم يعد مقتصرا على المقاومة، إذ بات هناك الخطف والمخدرات والعصابات وفرض الخوات، وهي صارت متقدمة في الصيت الامني على ما عداها من عناوين، وصار تداعي بقائها اخطر من اضرار التخلص منها، على ان هذه المجموعات التي ترعرعت ونمت بقوة في السنوات القليلة الماضية، وصار لها جذر اقتصادي قائم على زراعة الممنوعات والفساد والخوَات، تعتاش بهم وتقوى وتزداد نفوذاً، تبدو مواجهتها حتى الآن مقتصرة على بعد امني، إذ ينظر اليها حزب الله بنظّارة امنية ستبقى قاصرة عن مواجهة تنامي هذه الظواهر لاسباب مختلفة، الأمن ليس حاسما فيها.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
البلد