«التعدد وارد وتفرضه الحاجات الانسانية المتنوعة، أما اللامتناهي فيفصل الشيء عن أصله والنص عن لغته والذات عن موضوعها»(1)
نحن الآن في أجواء ذكرى الحرب او العدوان او الصمود او النصر.. أنا أميل الى القول بالنصر، وبحياد بارد جدا، حتى لا أبقى اكرر تمجيدي للمقاومة، وكأن هناك عقدة نقص او ذنب.
اقول بالنصر، لأن هزيمة العدو او منعه من تحقيق هدفه، هي نصر حقا، سواء بالغنا فيه او كنا واقعيين، ومن دون تمحل منطقي صوري يعبأ باشكال القضايا لا بمضامينها، ويقع في تعريفات وحدود ورسوم مع قليل من الاهتمام بالتركيب، جانحا الى التبسيط الذي يموه ويميع الحقائق او صورها في الذهن الباحث عنها..
هذا، على اني، وأنا أقول بالنصر، لا أميل الى الاطلاق، لأن النصر دائما نسبي، وتتحقق النسبة الأعلى منه عندما يؤتي ثمراته اللاحقة، في الاجتماع والدولة والسياسة والعمران والثقافة والعلائق والقيم الخ… متناسبة نوعاً وكماً، مع التضحيات التي قدمت من أجله طوعا او كرها، ومع الخسائر التي ترتبت على الحرب، والتي تصبح مكاسب عامة وخاصة، عندما يصبح الجهاد الأكبر، جهاد التنمية الشاملة، هو المصب النهائي للجهاد الأصغر.
في ذكرى هذه الحرب او هذا النصر تهمني صورة لبنان وصورة الشيعة في لبنان.. من لبنان.. بعد الحرب.
وأرى ان ما تحقق قبل الدخول في هذا السجال والنزاع الطويل والمتوتر، مؤهل لأن يكون النهاية المفصلية او الخاتمة للجدل حول وطنية الشيعة في لبنان واندماجهم من باب المواطنة والحرية والمشاركة المتكافئة، لا من باب الوراثة للشعارات القومية، على أساس انه لا وارث لها نسبيا.. والتي لا نعاديها وقد عشناها زمنا صعبا، ولكننا نحاول فهم مشكلاتها واستحالاتها، على الأقل في الظروف الراهنة، وبعد انكشاف الشموليات، وانكشاف الفراغات في الفكر القومي العربي، لو كان هناك فكر قومي عربي، لا مجرد تجميع لشعارات ومشاعر غير مدقق في سلامتها، ما يحيلنا، منطقيا، الى المشروع الوطني اللبناني، وان متأخرين، لا علة كونه بديلا لها ـ القومية ـ فقط بل تعويضا عن الخسائر التي نجمت عن ادارتها والدوران فيها وصولا بذلك الى التهوين الفادح من الشأن الوطني الكياني عامة واللبناني خاصة، والذي هو حقيقة، او الحقيقة الجلية، في مقابل الحقيقة القومية (وهي غير العربية) التي أدى الخطل في التعاطي الدوغمائي او العقدي معها، الى مزيد من وضوح كونها افتراضية وتعطيلية.
إذن وجراء التهويل بالشأن القومي، الملتبس الآن بالاسلامي، او الأممي الاسلامي، وكأنه وعد او وعيد بإعادة انتاج الاحباطات والانسدادات التي ترتبت على أممية شيوعية، كان القريبون من صورتها ومجرياتها، يعلمون يقينا ويكابرون، بأنها ذريعة قومية روسية مرة او صربية مرة او صينية مرة ثالثة.
على هذا الاساس، وعلى قناعتي بأن ما تحقق هو نصر فعلا، بما يعني ذلك من الزام المنتصر بمسؤوليات اكبر ودعوته الى تواضع اكثر. على اساس ان التواضع هو شرط توطين النصر، ما يتعدى الخطاب باهدائه بكرم مشهود الى الجميع من داخل الحدود وخارجها، والتواضع فضلا عن المسؤولية المضاعفة بعد النصر، هو شرط ايضا للمشاركة الوطنية، أي مشاركة الآخرين، وإن اختلفوا حتى في فهمهم للحرب وتقييمهم لحجم النصر، مشاركتهم واجتذابهم عمليا الى المشاركة.. ومن دون ذلك يصبح النصر قابلا للنقصان او الانتقاص، ما هو حاصل فعلا، ولا بد من وضع حد له، بالانطلاق مجددا، من قناعة انه لا يمكن صيانة النصر ولا لبنان، بكل مكوناته، إلا من خلال التسوية، التي تنطلق من ان مآلات كل الصراعات هي الى هذه التسوية او تعميم وتعميق الخسارة في المدى البعيد والعميق. هذه التسوية تنطلق من ان البلد يصنع، او يعاد صنعه او انجازه او تجديده او تأهيله او النهوض به او توحيده او بناء دولته الجامعة.. معا.. حيث يصبح من المتيسر سقوط القاصرين او اسقاط المقصرين.
في هذه المناسبة أكتب معتمدا اللطف في الأدبيات العربية التي ترغب الناقد في تزيين نقده بالذوق والمودة حتى لا يتحول الى آلة حادة تجرح وتزيد من اصرار الآخر على خطأه ان كان مخطئا.. وقد لا يكون مخطئا الا في نظر الناقد، وعندئذ تكون فائدة النقد ان ينبه من افترض انه خاطئ وليس مؤكدا انه كذلك، الى إزالة الشبهات التي تغري الناقد بالتماس الخطأ في العقل والقول «رحم الله من أهدى إليَّ عيوبي» «وصديقك من صَدَقك لا من صَدَّقك» الى آخر الشوط في المأثور: «عدو عاقل خير من صديق جاهل» مع ضرورة التوقف مليا عندما ورد في نهج البلاغة، من ان أحدهم استوقف عليّاً بن أبي طالب (ع) لدى خروجه من احدى الوقائع مادحا بإطناب، فرد عليه عليّ قائلا: «أنا فوق ما في نفسك ودون ما قلت» وما يروى من انه خرج من مسجد الكوفة بعد الصلاة فتبعه المصلون، فالتفت اليهم في بعض الطريق، وقال: أبكم حاجة؟ قالوا: لا.. قال من لم تكن به حاجة فلينصرف، فإن خفق النعال خلف أعقاب الرجال مفسدة للقلوب، تفسد قلوب التابعين بالذل والهوان وتفسد قلوب المتبوعين بالأنانية والكبرياء».
اني افترض، ومعي كثيرون من المراقبين الموضوعيين، والذين يتناقص عددهم ببطء يميل الى السرعة، ان قيادة المقاومة تتحلى بدرجات من الحكمة، يسهم عاليها في عصمة دانيها من الخطأ الذريع بعد الحرب او بعد النصر، على أساس ان الحرب اشكالية والنصر غير اشكالي بذاته، بل بالعوارض التي تعرض له لاحقا.
هذا والخطأ غير الذريع متوقع دائما وطبيعي وغير مكلف الا اذا اصر عليه مرتكبه، حيث تتحول الصغائر الى كبائر «أعظم الذنوب ما استهان به صاحبه» و«لا تستهينوا بصغار الذنوب فيبتليكم الله بكبارها».. والخطأ غير الذريع، قابل لدى الكرام من الناس، للتحمل والتجاوز.. من هنا أتمنى على هذه القيادة اذا ما كانت تصر على الرحابة، ان لا تذهب بعيدا في ردود أفعالها المستحسنة والمحسنة جدا، حسبما ينمى الينا او نلمسه فعلا، على خطابات وكتابات وحوارات وسجالات من ليسوا بالضرورة يسعون الى غشها والتعمية عليها واستدراجها بالمديح والثناء خاليا من النقد او شاجبا للنقد، رغبا او رهبا، بل ونفاقا أحيانا، بمعنى انه يختزن امكانية انقلاب على المقاومة واقذاعا في التبرؤ منها وكيدا لها، عند اي منعطف غير مؤات لها ولرهطها الشعبي الحقيقي وحزبها، هذا ونحن نعرف ونسمع أصواتا تندد بالمقاومة وبالحركة السياسية الحاضنة لها، بعدما كان اصحاب هذه الاصوات قد تقلّبوا بين حزب الله والمقاومة وبين منافسيها في المجال الشيعي (حركة أمل خصوصا).. أيام النزاع (ينذكر وما ينعاد) سالكين في كل حال من أحوالهم المتقلبة، سلوكا ولائيا لا يلبث ان ينكشف على العدائية والهيجان والتهييج ضد الطرف الآخر.
وطبقا لما يرسو عليه المزاج او الغرض الذي يتقن التسلح بشرعيات وأدبيات يطوّعها لتغطية خياراته السياسية او العصبية المتقلبة والمتحولة، من دون قانون او قاعدة، والمتناقضة باستمرار.
وفي المقابل يحسن بالمقاومة او قيادتها ان تكون على حذر او تنتبه الى ان وهجها، الذي يتزايد في نظر أنصارها الثابتين والعابرين، من دون انكار من قبل اكثرية المختلفين او المخالفين، يأتي في جزء منه، من قلق او غياب او اهتزاز المثال السياسي لدى كثير من طرف مناصري المقاومة من الحداثيين او التحرريين المتحدرين من حركات تحرر مفلسة، على تواضع في قدرتهم على القراءة النقدية لأزمتهم ما يفضي الى نقد الحداثة العربية واللبنانية وشكلانيتها، وخلو المثال الغربي المحتذى فرضا، او اخلائه من طرف المنشأ، من بعده الانساني والقانوني، أي مشروع الدولة التي تحسب بدقة حساب المجالات المختلفة المتكاملة بين الديني والسياسي، بين الدين والدولة، بين الجماعات ودولتها، وبين المجتمع المدني ودولته المدنية، تحت سقف القانون والنظام العام وأنظمة المصالح والحقوق العامة والفردية.. والحرية كشرط يرمم بنيته من داخله كلما اختل أداؤه او تراجع او تشوه الوعي به.
فهؤلاء، او كثير منهم، حتى لا نظلم الأصفياء او البسطاء منهم، انما يأتون الى المقاومة خطابة وشعرا وانحيازا لفظيا وهتافا، من فشل أولا ونكاية ثانيا، ومن شروطهم على المقاومة لا من شروط المقاومة عليهم، لأنهم عندما يخلون الى أهل عصبيتهم، يكشفون مكنوناتهم، ويكشفون ان انحيازها المعلن للمقاومة، قائم في المقام الأول على السلب، او على الضد، الحزبي او الطائفي او الطبقي او العائلي او الفرعي من الحزب او العائلة لأنهم لم يستطيعوا، بسبب نقص المعرفة، حتى الآن من التمييز او الفرز بين المعنوي والروحي والسياسي وبين البيولوجي. ويعالننا العلمانيون منهم من دون علمانية، بأن التناقض مع المقاومة او حزبها، أساسي او رئيسي، تناحري والغائي في النهاية، ولا بد ان ينفجر يوما ما، ليكونوا هم الوارثين: لأنهم أكثر حضارية وقابلية للديمومة، هذا بعد ان يكونوا، كما يأملون او يتمنون (والأماني سلاح الحمقى) قد أضعفوا او أضعفنا لهم خصومهم السياسيين، من علمانيين او شبه علمانيين او طائفيين او منشقين عن الحزب او منشق عنهم الحزب… بفعل المقاومة التي اذا ما انتهت بتراكم مكاسبها الى الغلبة، فانها سوف تدخل في أزمة من شأنها ان تحولها من كل متماسك الى فروع متصادمة.. لتكون بذلك نهايتها وبداية قوم آخرين! أي الذين يجددون خلاياهم الدماغية وعضلاتهم التالفة بفعل المقاومة.
هناك مفارقة مزعجة متربصة بالمقاومة وحزبها، ولا بد من مزيد من الحذر من الوقوع فيها، تأتي من عدم التدقيق والتأمل العميق في احتمال جعل او ترك انجاز شاخص كالتحرير، يفضي الى الاخلال بمترتباته الملائمة لدوره الوطني ومعناه، أعني هنا المفارقة التي قد تتبلور او هي سائرة الى التبلور، بين تحرير الوطن، وهو أمر ساطع، وتقييد المواطن وهو أمر لا بد من محاصرته، والحيطة منه بعد استبيانه بهدوء، حتى لا يصبح ساطعا أي قاتلا. هذا المحذور قد يتحقق اذا لم يضاعف حزب الله جهده في التخفيف من حالة الاحتقان المذهبي، الذي يشترك الجميع في تظهيره وتكثيفه وتعميمه، ويتذرع كل منهم بالآخر، ويبقى حزب الله، بسبب التحرير، معنيا أكثر بتجنبه وتجنيب اللبنانيين لمخاطره الظاهرة بوضوح في سلوكيات المواطنين المسرعين في طريق القطيعة السياسية عموما والمذاهبية خصوصا، ولعل هذا الأمر هو ما نجذ انه الدليل الأظهر على التقييد الذي ذكرناه، باعتبار ان الفصال المذهبي هو القيد الأثقل على عقل المواطن ووجدانه وايمانه ووطنيته وثقافته وحياته، هذا جرس، حتى لا يورطنا الضجيج من حولنا في اعطاب قد تبدو ضئيلة ثم تتفاقم بالاهمال او الاغفال او الاقلال من حجمها ومخاطر تركها تتراكم.
إن باستطاعة حزب الله ان يتحول من منافس او منازع الى مثال للناس في لبنان وللأحزاب التي انهارت عماراتها وبقي ما سلم ماديا منها فارغا من المضمون وعاجزا، وذلك بحسم الخيار الاعتدالي لدى حزب الله، وترجيحه نهائيا على احتمال التطرف او بعض المظاهر التي تجعله احتمالا وقد يصبح واقعا اذا لم يكن هناك احتياط ضده، بل رغبة وعزيمة على تقديم أنموذج اعتدالي، يدفع اليه دفعا ما حققه الحزب بالمقاومة من انتصار مشهود، في حين ان الفشل هو أحد الكوامن وراء ظاهرة التطرف.
وليس اقل خطرا من التطرف ان نفسح المجال للالتباس بين المتطرفين ومن يختلفون عنهم مضمونا، ولأسباب تتعلق بالشكل الذي يجب الحذر من طغيانه.
إن المجال الشيعي، المجال الحيوي الأول لحزب الله والمقاومة، هو مجال الاختبار في الجمع بين التحرير والتحرر، الذي إذا ما بقي موجها نحو الخارج من دون الداخل أصبح ناقصا او لاغيا في النتيجة، وإذا لم يحصن هذا المجال الشيعي او يؤثث بالحرية والاستيعاب والتجاوز وقبول التعدد، لا مجرد السكوت عليه مؤقتا وريثما، على الرغم من ان بعض تعبيراته فيها كثير من الاستفزاز، ما يلزم بتخطيها من خلال التعامل القبولي على اختلاف مع غيرها، منعا من تحول التعدد الصحي الى نزاع او تشقق مرضي، أي تحول الشيعية من ابتلاء الى بلاء، وهي ابتلاء بما هي اسهام شيعي من منظور وطني، في المطابقة بين الوطن والمواطن والدولة الوطنية، التي تصبح المقاومة كتحرير، حجر الزاوية في عمارتها، فإذا ما تحولت الى تعصيب وتقابل حاد، أصبحت من عوامل تصدعها بالفتنة الأهلية التي يلهج الجميع بها، ويعيشون المجريات اليومية وكأنها مقدمات ضرورية لها، والتي ليس من الضروري ان تكون معلنة او تكون قرارا، لأنها عودتنا ان تبدأ وقائع فردية او جماعية محصورة، ثم تعم لأن هناك استعدادا لها، ما يضطر القوى السياسية العاقلة ان تصبح على حافة هجرة عقلها والانخراط فيها ـ في الفتنة ـ مقابل الاطراف او التداخلات الأجنبية التي ترغب فيها.. وهكذا فالشيعية كمكون أبرز لهوية المقاومة، هي ابتلاء شيعي من حيث انها اختبار لارادة ورغبة وقدرة الشيعة على ان يحققوا ذاتهم في مشروع وطني جامع، تمثّل المقاومة رافعته، فإن تحولت الى مصدر قلق له، بالعصبية النابذة، في المجال الوطني العام او المجال الشيعي، بحجة الجحود او ذريعة الاستئثار على المقاومة، يصبح الابتلاء وبلاء وبلوى للشيعة والمقاومة أولا، وثانيا على المستوى الوطني اللبناني، القابل للتأثير والتأثر بالأوضاع الشيعية في بلدان أخرى.
(السفير)