المسألة باتت تتعدى عملية إعادة تكوين السلطة في مشهد سياسي مكرر لا يقدم ولا يؤخر قائم على البازارات المحلية والتفاهمات الإقليمية والتسويات السياسية خارج منطوق الدستور والمؤسسات، ما يعمق الانقسام بين اللبنانيين ويؤجل الخلافات بدلا من حلها، في الوقت الذي تقدم نتائج الانتخابات والظروف الموضوعية المحيطة بلبنان فرصة ذهبية لقوى 14 آذار من أجل العودة إلى روح 14 آذار، أي التأسيس على لحظة التقاء اللبنانيين في انتفاضة الاستقلال لبناء تيار سياسي يحمل مشروع السلام للبنان ويجسد صورة الدولة التي تستند إلى المشترك بين اللبنانيين وليس إلى المختلف فيما بينهم.
أعطت الانتخابات النيابية صورتين مختلفتين إلى حد التناقض: الصورة الأولى سياسية وهي تختصر حالة الانقسام السياسي القائم في البلد بين تيارين سياسيين 14 و8 آذار. هذا الانقسام لم تشهد له البلاد مثيلا منذ أربعينات القرن الماضي (دستوري- كتلوي) باعتباره من طبيعة سياسية لا طائفية، تتراجع أمامه التمايزات والخصوصيات الفئوية والمناطقية والمذهبية. إذ يصعب على سبيل المثال التفريق داخل 8 آذار بين خطاب عوني وآخر حزب الهي. وكذلك الأمر بالنسبة إلى 14 آذار، حيث يصعب أيضا التمييز في القضايا الأساسية بين خطاب اشتراكي أو قواتي وكتائبي ومستقبلي. فالثوابت لدى مكونات الفريقين هي نفسها والأهداف ذاتها والتطلعات أيضا مشتركة. الاختلاف الوحيد ربما هو في طريقة التعبير التي تفرضها ظروف هذا الطرف أو ذاك.
الصورة الثانية من طبيعة تنظيمية، بالرغم من وحدة الأهداف التي تجمع بين القوى السياسية داخل 14 و8 آذار، ومن تماسك جبهتي الأكثرية والأقلية. وهذا ما أثبتته على الأقل أحداث السنوات الأربع الأخيرة التي أسقطت كل الرهانات على تفكك وانهيار هذا التحالف العريض أو ذاك، لم تتمكن مكونات الفريقين من حزبيين ومستقلين من تشكيل تيار سياسي جديد ينبثق يضوي التكوينات والتشكيلات السياسية السابقة. وهذا بحد ذاته أمر يدعو للخشية والاستغراب. الخشية من احتمال أن تطرأ عوامل مختلفة ومتعددة على المشهد السياسي تعيد الفرز إلى ما قبل 14 آذار 2005 في حال لم يُصَر إلى بلورة أطر ومفاهيم جديدة تجسد الحالة السياسية الوحدوية المعبر عنها بين لحظة انتفاضة الاستقلال واليوم، وبالتالي تحول دون العودة إلى زمن الترسيمات الطائفية. أما الاستغراب فمرده إلى تغليب مفهوم “الآرمات” الحزبية على منطق الأفكار السياسية. ولعل محاولة الاستعاضة عن البنى الجبهوية بالتكتلات النيابية لا تفي بالحاجة المطلوبة، لا بل تزيد من الشرذمة السياسية على خلفية صراع الأحجام والنفوذ والسلطة.
فالأحزاب تنشأ على وجه الإجمال انطلاقا من فكرة سياسية يتم تجسيدها في قالب تنظيمي وليس العكس. ومعلوم أن الأحزاب القائمة وتحديدا المنضوية داخل تحالف 14 آذار لها مشروعيتها السياسية التي اكتسبتها من نضالها وتاريخها السياسيين ومن ارتباط ولادتها بحاجة حتمتها ظروف وطنية معينة. وهذه الحاجة ذاتها التي تحتم على أحزاب ورأي عام 14 آذار التفكير مليا في بلورة إطار سياسي يرتكز على لحظة 14 آذار 2005، وهي لحظة فريدة من نوعها في الاجتماع السياسي اللبناني ينبغي التأسيس عليها من أجل العبور إلى الدولة المرتجاة.
ولكن ما ينطبق على 14 آذار لا ينسحب على 8 آذار رغم وحدة الخطاب السياسي بين مكوناته، لأن قيادته الحصرية وغير التشاركية -أي حزب الله- هي تكوين مذهبي لا يتسع أصلا لغير الشيعة الذين يسعى الحزب بالأساس إلى ربط قرارهم السياسي بمرجعية خارجية، وفقا لنظرية “ولاية الفقيه العامة”، الأمر الذي يعيق اندماجهم الوطني. وبالتالي فإن موقف النائب ميشال عون غير المتحفظ حاليا عن توجهات حزب الله لا يعبر عن توجهات المسيحيين، وهذا ما أثبتته الانتخابات الأخيرة، إنما يعبر عن مصلحة سياسية خاصة وعدائية مطلقة إزاء بيئته والمجتمع اللبناني اللذين حالا دون وصوله إلى سدة الرئاسة الأولى.
فالمطروح اليوم تثبيت المساحة المشتركة داخل 14 آذار، هذه المساحة التي تعبر عن الرأي العام المشترك الذي يجسد انفتاح الكيانات الطائفية على بعضها، لأنه عندما تنغلق الطوائف ينقسم الرأي العام المشترك وتنقسم الدولة، وعندما تزول المساحة المشتركة تتحول العلاقة بين مكونات الحركة الاستقلالية إلى علاقة تنافسية في مرحلة أولى وتصدامية في مرحلة لاحقة. ولذلك، فإن تثبيت المساحة المشتركة يشكل حاجة وطنية للحؤول دون عودة العصبيات الحزبية والطائفية على حساب العصبية الوطنية. وتثبيت هذه الحالة يكون من خلال تطويرها سياسيا وبرنامجيا وعلائقيا في اتجاه تيار سياسي واحد وحديث.
لا شك أن الظروف السياسية التي أعقبت الانسحاب السوري من لبنان وانتخابات العام 2005 لم تفسح في المجال أمام قوى 14 آذار لاستكمال عناوين انتفاضة الاستقلال، باعتبار أن الظروف الأمنية والانتفاضة المضادة والأوضاع الإقليمية وضعت هذه القوى في موقع رد الفعل وليس الفعل، وبالتالي هي مدعوة اليوم بعد فوزها في الانتخابات مجددا وتثبيت شعبية خياراتها السياسية وتبدل اللحظة الإقليمية من السخونة إلى البرودة ودخول حزب الله في أدق مرحلة من حياته السياسية بعد انكفاء إيران إلى أزمتها الداخلية وإعادة سوريا تدريجيا تموضعها الاستراتيجي واتساع التمايز السوري-الإيراني وارتفاع حظوظ فرص السلام الفلسطيني-الإسرائيلي والعربي-الإسرائيلي وخسارة الحزب في الانتخابات، وكلها عوامل تؤشر إلى مرحلة من الاستقرار السياسي الطويل الأمد، ما يتيح لقوى 14 آذار استرداد المبادرة السياسية لاستكمال انتفاضتها، انتفاضة الوصل التي اسقطت المتاريس بين اللبنانيين وأعادت إحياء الميثاق على أسس أكثر صلابة ومتانة وصولا إلى اندماج قواها السياسية في إطار سياسي مشترك وحديث.
ثمة حاجة ماسة لإطلاق دينامية سياسية جديدة تستند إلى محطة 14 آذار وتنطلق منها باتجاه مشروع سياسي عنوانه السلام، لأن السلام هو المدخل الوحيد لترسيخ وتحصين الحالة الناشئة بفعل ثورة الأرز. فما بعد 14 آذار 2005 هو غير ما قبله، ولا يجوز إطلاقا تجاوز هذا المعطى أو إهماله. المعركة السياسية في لبنان تتجاوز استعادة السيادة اللبنانية المنتقصة نتيجة سلاح حزب الله، على أهمية هذه المعركة ومفصليتها، لأن الانقسام بين اللبنانيين سابق لسلاح حزب الله وغير هذا السلاح. وهناك فرصة حقيقية تلوح في الأفق لا يجوز تفويتها. وهذه الفرصة قوامها قيام دولة تعكس صورة البلد وليس صورة لطائفة من طوائفه على غرار ما كان عليه الوضع منذ إعلان لبنان الكبير إلى اليوم، مرة مسيحية وأخرى سنية وأخيرة شيعية. فالدولة اللبنانية كمشترك بين اللبنانيين لا يمكن أن تستمر وفق الصيغة المعلومة في حال لم تستند إلى رأي عام مشترك، أي عابر للطوائف، ويحمل مشروعا مشتركا.
إذا كان من شروط الديمقراطية قيام أحزاب سياسية، فمن شروط الديمقراطية اللبنانية المستعادة بعد خروج الجيش السوري من لبنان على أثر انتفاضة غير مسبوقة في التاريخ اللبناني قيام أحزاب تشبه التنوع السياسي اللبناني، وبهذه الطريقة فقط يمكن التأسيس لدولة فعلية وحديثة تخرج من رحم ثورة الأرز وتؤشر إلى المستقبل لا الماضي.
charlesjabbour@hotmail.com
* بيروت