أثبتت الدولة العربية الحديثة بعد الاستقلال عجزها عن تبني أفكارا للتحرر الداخلي تتناسب وما تحقق من التحرر الخارجي. بين الحركات الشعبية والانقلاب العسكري وحركة التاريخ جرت وقائع التخلص من الاحتلال القديم، لكن هيكلة وتحرير الأوضاع الداخلية، عبر نتائجها، تقول أنها كانت محافظة ورجعية ومتخلفة مقارنة بالوضع الداخلي زمن الاستعمار قبل التحرر، رغم التوسع في التعليم والوظائف. فمعيار التحرر يكمن في مدي ونوع العلاقة بالسلطة – أي سلطة.
تحول المجتمع المصري الان إلي مجتمع أكثر محافظة مما كان عليه تحت الاحتلال. فالمجتمع المحافظ بطبيعته كاره لأي جديد، وكأن التحرر تم للتخلص من كل جديد كان موجودا. وبات المجتمع (المتحرر) يخاف علي محتواه الفكري والثقافي القديم والمتخلف ويبذل الرخيص والغالي في الحفاظ علي العلاقة بين أفراده وطبقاته الاجتماعية وثقافته. فصورت الزعامات الثورية أمرنا في ظل الثقافة العربية كصورة براقة لم يشوبها إلا ذلك الاستعمار الذي رحل. فانكفانا علي تخلفنا المزمن نستنشقه ونستعذبه. يشرح علم النفس هذه الحالة بالنرجسية. وأصل القول في شخص امتلك نعمة الجمال ما جعله مبهورا بصورته علي صفحة الماء، فتلهي بها بإفراط وغاب عن الواقع وما فيه فانكفأ فسقط فغرق. من نفس البقعة بزغت زهرة النرجس تخليدا للمفتون بنفسه والحالم بذاته والتائه عما حوله حتى ولو كل ما حوله أكثر جمالا. فوسواس النرجسية العربية ليست جمالا داخليا بقدر ما هي هروب من الواقع الخارجي.
كان دفع السلطة السياسية بالمجتمع اتجاه الثقافة العربية رغم فقرها الشديد موقف هروبي رسخه الإسلام في نشأته الأولي من كراهية الاتصال بالمخالفين. فالمسلمون الأوائل خيروا المخالفين إما بالتحول وإما بالخضوع مثلما فعلت بعض الحركات الثورية في العالم. فصورة العالم من حولهم قديما وحديثا مركبة ومعقده ومثيره للقلق. فالتنوع يطرح أسئلة صعبة وثقافة العرب الدينية – التي هي الفطرة – بسيطة فرسمت العالم علي هواها لتوهم نفسها بقدرتها علي احتوائه. فالإنسان عبد هنا ومقاتل من اجل إخضاع الآخرين هناك. البداية ورديه حيث البشر الهابطين من السماء بكل تقوي وورع مشفوعين برعاية ربانية. ولم يثبت التاريخ المدون وآثاره تلك الصورة أبدا. وأدانت الثقافة العربية صورة كل الحضارات السابقة لتبرهن علي افتنانها بذاتها. وليتعبد فيها العربي هروبا من رؤية غيره، أليس هم خير امة أخرجت للناس، ويد الله فوق أيديهم. قانون العرب شريعة سماوية من لدن حكيم عزيز أما ما لدي المخالفين ففعل إنساني علماني معظمه خاطئ، تغيراته كثيرة لا تثبت علي حال. هكذا أصبح رصيد غير العرب العلماني من أسباب افتتان العربي بنفسه، وليضمن به عدم التمرد والانفلات من ذاته المتخلفة. وللحفاظ علي صورته جفف مياه المستنقع من حوله وأقام أسوارا تحجب عنه الآخرين. بحث بلا ملل عن أخطائهم باعتبارها فضيلة له. وكان ولعه بالسلطة ليس هدفا لإقامة عدل أو تنظيم حياه إنما ضمانات ليخفي عبر إجراءات السلطة ما وراء الأسوار في ذلك العالم الواسع. لو انه صادق لأسقط الحواجز وأشاع الانفتاح ليري دعواه بقبح الآخرين. لكن علو السواتر والأسوار ونظم الرقابة تفضح أكاذيبه؟
المفاجأة جاءت بعد نصف قرن من عباده الذات عربيا وإسلاميا عندما طرق نفس الاستعمار القديم الأبواب لإصلاح التعليم الديني لدينا الذي هو سلعة محلية خالصة يستحيل القول بأنها صناعة استعمارية أو أنها ضمن ما زرعه الاحتلال قبل رحيله. فالدين ديننا وهو الإسلام والثقافة ثقافتنا وهي العروبة. المطالب الخارجية تعني التخلي عن نرجسيتنا ووسواس الجمال الذي أوهمنا به أنفسنا. فالعالم الخارجي الآن صاحب مصلحة في تغيير ما يجري داخل الأزهر وداخل عقولنا. فأمنه مرتبط بالإصلاح عندنا. ففسر مشايخنا المصابين بداء النرجس أننا بثقافتنا وحضارتنا ( المنغلقة ) أقوياء إلي حد تهديد أمنه القومي. مطالب الإصلاح الوافدة من الخارج كمن أيقظ النائم من حلم عباده ذاته. فازداد المولع بجماله انكفاءا عليها.
نموذجنا النرجسي نجده في عناوين الكتب المترجمة والقليلة الوافدة فوضعنا العنوان ” الإسلام وأزمة العصر” بدلا من ” أزمة الإسلام” العنوان الأخير هو الأصلي كما اختاره مؤلفه برنارد لويس. المؤلف عدو للعرب، فليكن. أليس من الحكمة معرفه ما يقوله الأعداء؟ ومن تعلم لغة قوم امن شرهم. كنا نتوقع حديثا آخر يخفف وطئ النرجسية. كالقول من تعلم لغة قوم فهم علمهم. الم تكن أسوارنا اللغوية من أسباب هزيمتنا. أليس من حقه هو كغير مسلم أن يري الزهرة علي هواه وطبقا لثقافته. ثقافتنا النرجسية تقول أن العصر هو المأزوم. وهو قول مشايخنا وجماعات الإسلام السياسي والقوميين أيضا؟ وكأنهم يدفعوننا للانكفاء أكثر وبإفراط ويباعدون بيننا وبين رؤية العالم لنا. وكأنه لم يكفهم استبعاد واستعباد الناس في الداخل. النرجسية تدفع للإشادة بصورتنا فلم نتعلم لغة باقي الأقوام. فكم هي الكتب علي الأرصفة في تمجيد الذات، رغم قبح الأرصفة وفوضي الشوارع ولا معقولية محتواها. قارئها النرجسي لا يملك إرادة حرة في نقد ما هو مكتوب. فهو عبد. فكيف يمتلك إرادته وهو أسير صورته النرجسية المانعة من تغيير ما بنفسه. وبالتالي تعطل اراده الله في التغيير. ألا يغير الله ما بقوم – إلا بعد أن – يغيروا ما بأنفسهم. هكذا يصبح التغيير مستحيلا بل الانكفاء أكثر حتما مقضيا. الوقوع في اسر النرجسية يفقد صاحبها حريته فهو غير قادر علي مغادرة الوله بخياله. فلو أن هناك تراث عربي أو إسلامي يمجد الحرية مثلما تحدث فلاسفة أوروبا بفصاحة وبلاغة ( بلغاتهم التي لم نتعلمها) بان الحرية هي هبه الله للإنسان، لما تكرر تاريخ العرب مرات ومرات. النرجسية الجديدة المنقولة إلينا في مصر مؤخرا جعلت كتب التراث الأكثر تداولا ومبيعا. فليس بها سوي نفس ما نعرفه. أي أننا نبحلق في ذاتنا التي نعرفها، فما الجديد المتوقع؟ وما هو تعريف الجنون؟ عدد الكتب التي لم تترجم عن عمد وعبر الرقابة الثقافية تدفعنا للانحباس فيما نعرف. لهذا ترتفع أسوار الرقابة بالحذف والمنع لإحكام النظر إلي صورتنا للمحافظة علي أمراضنا.
في منتصف القرن التاسع عشر أصدر الخديوي سعيد حزمة من القوانين عرفت باللائحة السعيدية، بدأ علي أساسها بناء طبقة تعرف معني الملكية وحق الانتفاع بها وواكبها رفع الجزية عن الأقباط. كان هذا عملا تحرريا مصريا خالصا لدخول مصر عالم ما بعد ولاية الحاكم وملكية الدولة للأرض وحكم الدين بامتهان مواطن لصالح مواطن آخر. كان هذا الإصلاح كتنظيم للحقوق وللواجبات بمسؤولية. كلها جديدة لم نعرفها من قبل و تمليها حقوق الملكية والانتفاع علي نمط أوروبا في انحيازها الرأسمالي. كان ذلك إصلاحا بعد طول ارتهان في رعاية أولي الأمر للقمة العيش والعقيدة. ما فعله الخديوي أدي لظهور عرابي الذي قال بالا نستعبد بعد اليوم. فصدرت فتوي من دار الخلافة النرجسية بأنه كافر.
بعد صدور اللائحة بقرن ونصف فاجائت النرجسيين توافقات مطالب الخارج في الأمن ومطالب الداخل في الإصلاح والحرية. فانطلق رديف مثقفيه قائلين إنها مؤامرة. وعليه فليتوقف أي إصلاح داخلي طالما يتفق ومشروعات الخارج. لقد أدركوا أن الغرب يري زهرة النرجس كأشواك. فتحججوا أن كل ما في الخارج خطر علي الداخل. رغم أن ثرواتهم الطائلة لم يصنعها سوي الخارج بفساده المزعوم وبحضور ومباركة زهرة النرجس القديمة في بلادها. الخطر الأمني مرده للخطاب الديني المحلي الحديث وهو فقه القرون الوسطي كزهرة ذابلة. ولم يحدث أن استعمر الغرب الشرق إلا لأنه تخلص من ذات الفقه عنده بينما ظللنا نحن نجتره عندنا بكل تنعم وارتياح. ننكفئ عليه ونعيد إنتاجه لهذا فان أمنه هناك بات بالفعل مهددا. فماضي المجتمعات هو عدوها الأول. فهل نحتضن نحن أمراض العالم ونرعاها؟
فحسب أقوال ابن تيمية، مخالفة الكفار مقصد من مقاصد الشريعة. فإذا كان الغرب مهموما بالمستقبل والأمن فان طريقنا أصبح معروفا. فإلي الماضي والإرهاب نسير علي بركة الله. ما يعني أن لو غير المسلمين اتو بما هو صالح علما وفنا وأدبا وتكنولوجيا فليكن الطالح قبلتنا، فلنحطم التماثيل ولنصادر الكتب ولنحتقر العلوم ولنشرب فضلات الإبل. فهل زهره العرب نرجس بالفعل؟ يقول ليفي شتراوس عالم الانثربولوجيا البنيوية عن الشخصية الإسلامية التي لا تعرف إلا زهرتها ” التماس أو الاتصال بين المسلمين وغيرهم يصيب المسلم بإحباط، لا يعوضه إلا التمني بإخضاع هؤلاء الخارجين عن طاعة الله. وما الاخوه الظاهرة سوي اعتراف ضمني لما يهرب من الاعتراف به كرفض لهؤلاء الكفار”. فكان تبرير المشايخ للمطالب الغربية بمؤامرة صحيح إذن.
كانت زهرة العرب تزداد جمالا مع زيادة إلاحكام الشمولي علي الإعلام والتعليم. فباتت طرقات الغرب علي الأبواب اشد. تسليم زمام المعرفة للتعليم الديني له ما يبرره في الدول المحافظة. فمصالح سلطتهم الموروثة تاريخيا ضيقة، فكان الاستدعاء الديني كاف لتحقيق تلك المصلحة. بينما العلاقات خارج المستنقع أكثر جمالا ومردودها حلالا تتجاوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالأمر بالحوار والنهي عن الطاعة. ولعلها إجابة للسؤال لماذا تعلم الحكومات العربية مواطنيها تعليماً دينياً يتعارض مع مصالح شعوبها وشعوب العالم الخارجي؟ فالتعصب والتلقين والانقياد والطاعة والترويض كلها من مواصفات النظام المحافظ مهما ادعي من ثورية ونضال وكفاح وحرية واشتراكية ووحده. كلها بهدف كراهية كل شئ ودوام المواطن منكفئا في انتظار للغرق وهو يبحلق في صورته التاريخية.
elbadryk@gmail.com
* القاهرة