منذ سنوات وانا مبتعد عن القضايا الأكاديمية الملتهبة للجامعة اللبنانية. فقد انصرفت لموضوع المبنى الجامعي في المون ميشال في رأس مسقا وترميم مباني العلوم الحالية والإهتمام بالمناهج ومساعدة الطلاب المتفوقين في الرياضيات لإكمال الدكتوراة في الخارج. لم أعد مؤمنا بأنه يمكن إدارة جامعة بهذا الحجم مركزيا دون عثرات، حتى لو رفع جميع السياسين يدهم وطيفهم ووهجهم عنها. كما أن إيماني بالتنوع والتعدد شكل دافعا اساسيا للعمل مع المجتمع المدني الشمالي الواسع من اجل صرح أكاديمي شمالي لائق في مكان جميل يسهل الوصول إليه من جميع الأقضية الشمالية المتنوعة كما من بلاد جبيل، ما يجعل نقاش المستقبل التنظيمي للفروع عموما وللفروع الشمالية خصوصا أكثر حيوية واقل فئوية.
لقد عملنا في صفقة التفرغ السابقة على اقناع وزيرالتربية آنذاك القاضي قباني على تفريغ اساتذة الرياضيات جميعا بعد أن مهدنا لذلك بمقالات ودراسات حول ضرورة إخراجهم من “البازار” ولم يشكل ذلك بالطبع انتقاصا من الأساتذة الآخرين في الأقسام والكليات الأخرى والتي هي حتما بحاجة دائمة لأساتذة. فقد انطلقنا حينها من مجموعة اعتبارات وعوامل، أهمها ندرة وصعوبة بعض الإختصاصات(العلمية عموما والرياضيات والجبرخصوصا) في غياب المنح الكافية لأن هذه المواد لا يمكن إنجاز دراساتها إلا في الخارج المتقدم (فرنسا، انكلترا، الولايات المتحدة،…) كما أن إغراءات الخارج والجامعات الخاصة في لبنان وجامعات الخليج تشكل عامل جذب اساسي لأصحاب هذه الاختصاصات، مع أنه لا أحد بالطبع يستطيع التقليل من أهمية الإختصاصات الأخرى.
أستطيع ان أفهم وفي الواقع أحس الألم الذي يشعر به المتعاقدون في الجامعة اللبنانية وبعضهم قد مضى على تعاقده سنوات طويلة، ومن المفترض أن الحاجة الأكاديمية هي أساس استمرار تعاقده، كما أنني أعرف أن عدم التفرغ يدفع بالأساتذة، خصوصا اصحاب الاختصاصات الجذابة، للتعاقد الواسع مع الجامعات الخاصة وربما المدارس الخاصة والرسمية أيضا، مما يجعل أداءهم في الجامعة اللبنانية “تعليميا” في أحسن الحالات، وهذا يضعف المناخ الأكاديمي المهتز أصلا بسبب التسييس وأمراض القطاع العام، علما أن خزان اساتذة التأسيس المفعم بالمناقبية والأكاديمية والرومانسية قد بدأ ينضب و مرشح لأن يفرغ قريبا.
حبذا لو كانت عمليات التعاقد والتفرغ والملاك تسير بطريقة أكاديمية صرفة، إذ حينها لن نكون كل بضعة سنوات أمام أزمات، تنعكس سلباً على الجامعة وطبعاً على الأساتذة، خصوصاً حين يضطرون إلى السير بين الألغام السياسيىة ومنوعاتها الفئوية والمذهبية، والبعض يسير فوق الألغام فتنفجر فيه وتذهب شظاياها بما تبقى من سمعه الجامعة التي أنصفها فأقول، أنها ما زالت تقدم الأفضل في كليات وأقسام ومعاهد كثيرة رغم الجروح، وأعلم أن أساتذة كثر يقاومون الإغراءات لأنهم يعتقدون أن الجامعة اللبنانية تشكل مجالاً أكاديمياً رحبا إذا ما صلحت احوالها، مع الإعتراف بالطبع أن البعض يذهب بعد التفرغ من الأمان الوظيفي إلى الترهل الأكاديمي خصوصاً، مع ضعف الإستقلالية والإنتماء الأكاديميين.
وهذا واقع فعلي تدحرجنا نحوه منذ وضعنا مع البلد على سكة منحنية ومتعرجة كان يمكن أن تؤذينا أكثر لولا الصلابة النسبية التي ما زال يتمتع بها الكثير من أهل الجامعة اللبنانية ” المناضلة”. ولا أنكر أنني ممن صدموا من اضطرار بعض المتعاقدين للجوء لبعض التحركات التي تتعارض مع الصورة الأكاديمية التي لطالما طبعت الأستاذ الجامعي، ما أظهر المتعاقدين بمظهر اللاهث نحو الوظيفة بغض النظر عن قيمتها ونتائجها الأكاديمية.
لا أريد أن أغوص في مشروع التفرغ الذي تغيرت أرقامه وتصاعدت بطريقة ملفتة خصوصاً في الأشهر الأخيرة، ذلك أنني، ورغم تردادي مع الكثيرين أن السياسة والزبائنية(من كل الضفاف) اخترقته وهزت شباكه الأكاديمية أكثر من سبع مرات منذ البداية(البعض يقول أنها مزقت الشباك)، إلا أننا لسنا في معرض الحديث عن إصلاح الجامعة التي لا يمكن أن تنهض على التعاقد فقط، فللأمان الوظيفي جوانب إيجابية إذا ما أحسنت إدارة الجامعة والكليات إستثماره. وبالتالي لا بد من إنهاء هذا الملف المتفجر، كما ملف العمداء الأكثر تفجرا، ومع ذلك أرى ضرورة تنبيه المسؤولين جميعاً في الحكومة والوزارة والجامعة.
أولا: من التمييز المحتمل في نفس الكلية وربما القسم أحياناً دون أي مسوغ أكاديمي جدي.
ثانياً: من الوفرة التي ربما تحصل في بعض الكليات والأقسام على حساب أخرى لمسوغات مذهبية أوطائفية أوسياسية، علما أن اللائحة تضاعفت عمليا على يد وزير أدار المسألة دون كيشوتيا وسياسيا على طريقة Double win game (في العمادة والتفرغ) ما ينذر بأثمان بالغة ستدفعها الجامعة بالعملة الأكاديمية التي كانت تساوي ذهبا.
ثالثاً: من “هجرة طوعية” لبعض الأساتذة المستثنين، أصحاب الإختصاصات النادرة والصعبة، خصوصاً في غياب رؤيا أكاديمية تقوم على منح الإختصاص والتفوق تبعاً للحاجات، ذلك أنها ما زالت تتم بطريقة شبه عشوائية رغم وجود “مدارس الدكتوراه” التي لجأت لها الجامعة للتكيف مع الإنتقال للمناهج الجديدة.
رابعا: من تحول مجلس الجامعة القادم من مجلس أكاديمي إلى مجلس ملي، مع احنمال غلبة فئوية معينة، ما يحوله إلى منصة للمناكفة الساسية عوض أن يكون حاضنة للمناقشة الأكاديمية.
خامسا: من تصاعد الإحباط في الأوساط الأكاديمية والمحيطة بالجامعة اللبنانية نتيجة التمادي في تسييس وتطييف الجامعة، ما يهدد بطروحات تشطح من اللامركزية الإدارية إلى الفدرلة الأكاديمية. وهذا ما يشي به مقال زميلي ورفيق نضالي النقابي عصام خليفة وقد كنا سويا ضمن فريق عمل على مشروع تنظيمي للجامعة اللبنانية على مدى شهور في أواخر القرن الماضي واستند أساسا على وحدة الجامعة اللبنانية، علما أنني ممن يطرحون نقاش الوضع التنظيمي في الفروع الشمالية وصولا للإستقلالية ولكن على قاعدة إعادة التنوع الشمالي في تلة المون ميشال، وممن يحذرون من استقلالية الفروع الصافية طائفيا.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس – لبنان