كان بامكان المدعو “محمد يوسف” الذي قتل عن 39 عاما في 30 يوليو الماضي وأنصاره ممن طفوا مؤخرا على سطح الأحداث وفي وسائل الإعلام المختلفة تحت اسم “طالبان نيجيريا”، أن يستعيروا من آسيا تجارب جميلة زاهية في كيفية التفوق على الذات وبناء دول الرخاء والازدهار والعلم والعدالة والتنمية المستدامة، خصوصا وأن مثل هذه التجارب متاحة وكتب عنها الكثير، ولا يمانع أصحابها في تبني الآخر لها ونسخها في أماكن أخرى، ثم خصوصا وأن “محمد يوسف” إنسان عرف عنه حب المعرفة والإطلاع وإجادة اللغة الإنجليزية، معطوفا على حبه لكل ما هو حديث وفاره ابتداء من السكن الوثير وانتهاء بآخر موديلات المركبات الغربية التي ساعده ثراء أسرته على امتلاكها والتمتع بخدماتها.
غير أن هؤلاء فضلوا أن ينجذبوا إلى أسوأ ما في آسيا من نماذج، وهو النموذج الطالباني الذي لم يعط الأفغان – ومعهم طائفة واسعة من الباكستانيين – سوى الذل والقهر والحرمان من أبسط الحقوق الآدمية، دعك مما فرضه عليهم بسياساته الحمقاء وتهوره وغلوه من حروب ومسلسلات دموية أحرقت الأخضر واليابس وهجرت الجماهير من مكان إلى آخر وزرعت الخوف والهلع في نفوس الأطفال البريئة.
وبهذا فهم تجنبوا نماذج تنموية آسيوية ناجحة بشهادة الجميع كالنماذج الكورية والسنغافورية، والماليزية، و التايلاندية، والصينية من تلك التي كان بالامكان استنساخها بنجاح في دولة افريقية كبرى لجهة المساحة (924 ألف كيلومتر مربع)، ولجهة عدد السكان (150 مليون نسمة بحسب تقديرات الأمم المتحدة في عام 2007 ) ولجهة الموارد الأولية ( نفط وغاز وذهب وحديد ورصاص وزنك وفحم) وراحوا – بدلا من ذلك – يفتشون في مزبلة طالبان، بحثا عن الخرافة والدجل والغلو والكراهية والحقد على الآخر وكل ما صنعه هذا الآخر للبشرية والإنسانية من منجزات. بل كان اعتمادهم الخطاب الذي تعتمده حركة طالبان الأفغانية وصنوها الباكستانية من خلال إطلاق اسم ” بوكو حرام” على جماعتهم – ومعناه المجازي تحريم التدريس والتثقيف بالطرق الغربية الحديثة – دليلا على عقل متشدد يعيش خارج مدارات الكون ولا يمت بصلة بعصرنا الحاضر.
وبطبيعة الحال لم يعثر على دليل مادي على ارتباط جماعة “بوكو حرام” بحركة طالبان الأفغانية تنظيميا أو ماليا، غير أن ارتباط المجموعتين فكريا وأيديولوجيا لا يحتاج إلى برهان. فإضافة إلى تبني “بوكو حرام” لنفس الخطاب الإسلامي الراديكالي لـ”حركة طالبان” الذي حرم التعليم وأغلق المدارس وحظر على الفتيات ارتيادها تحت طائلة العقوبة البدنية، فان “بوكو حرام ” اتضح أنها تنتصر – مثل حركة طالبان – لتنظيم القاعدة الإجرامي بدليل وجود شعارات بذلك المعنى على جدران معاقلها في مدينة “مايدوغوري” الشمالية. إلى ذلك فان أهداف “بوكو حرام” هي نفسها أهداف “حركة طالبان”، وتتمثل في قلب نظام الحكم وإقامة نظام بديل يستمد مبادءه وقوانينه من الشريعة الإسلامية، وإلغاء أشكال نظام التعليم الغربي الذي قال عنه محمد يوسف أنه لا يؤمن بالله الواحد، مضيفا أن علماء مسلمين بارزين اخبروه بضرورة تغيير نظام التعليم النيجيري، ليس فقط لأنه يدرس نظرية دارون في النشؤ والارتقاء، وإنما أيضا لأنه يشتمل على خليط من المعتقدات النقيضة لمتطلبات التعليم الإسلامي الصحيح.
وكي يؤكد محمد يوسف صحة كلامه السابق فانه بادر إلى التصريح بشيء عكس مدى ضحالة علمه الديني، وذلك حينما قال أن منهاج التعليم النيجيري يقول بأن المطر يتكون نتيجة لتكثف بخار الماء بفعل الشمس، فيما منهاج التعليم الإسلامي يقول أن الله هو خالق المطر!ّ
والذي يطلع اليوم على ما نشر وينشر في المواقع الالكترونية النيجيرية، سيجد بالتأكيد مواقف متباينة من قبل النيجيريين حيال “بوكو حرام” وما قامت به. ففريق أخذ على محمد يوسف وجماعته جهلهم التام بالإسلام الذي يدعو معتنقيه إلى “طلب العلم ولو في الصين”، بمعنى الاستفادة من أي علم أو منجز بشري نافع دون السؤال عن مصدره. وفريق رأى أن من حق الدولة أن تستخدم القوة دون سابق إنذار أو تساهل مع أية جماعة تستخدم السلاح في إرهاب الناس وفرض معتقداتها عليهم تحت ستار الدين. وفريق طرح سؤالا في غاية الأهمية حول مصادر الأسلحة التي استخدمتها جماعة “بوكو حرام” في مهاجمة مباني الحكومة ومقار الشرطة في شمال نيجيريا، وعما إذا كانت تلك الأسلحة قد هربت من مستودعات الجيش أو وصلت من الخارج عبر الحدود بمساعدة من أشخاص يحملون الأفكار الطالبانية داخل المؤسسة العسكرية النيجيرية. وفريق قلل من أهمية “بوكو حرام” قائلا أنها جماعة مجنونة تريد تنفيذ أفكار مجنونة، وبالتالي ستنحسر سريعا لأن الخط الإسلامي الأوسع في نيجيريا هو ضد الغلو والتطرف. وفريق حيا ما قالته وزيرة الإعلام النيجيرية “دورا أكونيلي” حينما وصفت مقتل ” محمد يوسف” بأنه أفضل حدث في نيجيريا كونه تسبب في قتل المئات من الأبرياء وهدد بنقل العنف إلى باقي ولايات الشمال، مع توجيه انتقاد شديد لمنظمة “هيومن رايتس” التي اتهمت نيجيريا بقتل يوسف دون محاكمة (البيان الرسمي ذكر أن الرجل قتل أثناء محاولته الفرار من مكان اعتقاله، فيما قالت بعض المصادر أن الشرطة أطلقت عليه الرصاص وهو مقيد اليدين).
وبقدر التباين في المواقف من هذه الجماعة داخل المجتمع النيجيري المتعدد عرقيا (250 جماعة اثنية مختلفة في لغاتها وعاداتها وثقافاتها إلى جانب أقليات بريطانية وأمريكية وهندية وصينية ويابانية ويونانية وسورية ولبنانية ومهاجرين من غرب وشرق أفريقيا وزيمبابوي وكوبا والبرازيل) والمتعدد لغويا ( حوالي 521 لغة مختلفة مع وجود لغة رسمية واحدة للتفاهم هي اللغة الإنجليزية) والمتعدد دينيا ومذهبيا (يدين 95 بالمئة من سكان الأقاليم الشمالية بالإسلام السني مع وجود أقلية شيعية معتبرة في أوساطهم، فيما يدين سكان الجنوب بالمسيحية الكاثوليكية والبروتستانية، وتوجد أقليات تعتنق اليهودية والهندوسية والبهائية والوثنية والكريسلامية التي تعتبر مذهبا يجمع ما بين الإسلام والمسيحية)، هناك تباين لجهة العوامل التي أفرزت ظاهرة “بوكو حرام”.
فمن قائل بأن السبب هو اليأس والإحباط في أوساط طلبة وخريجي الجامعات العاطلين، خصوصا وأن جل أعضاء “بوكو حرام” كانوا من هؤلاء. غير أن هناك من اعترض على هذه النظرية مشيرا إلى عددا لا يستهان به من رفاق محمد يوسف جاؤوا من أسر ثرية ومعروفة، مضيفين أن عدم اتخاذ السلطات النيجيرية لإجراءات استباقية ضد الجماعة ربما كان سببها الخوف من تلك الأسر وما تمثله من نفوذ ومصالح!
إلى قائل بأن وراء السبب تقف خلفيات تاريخية كالنظر إلى الحكومة الحالية على أنها امتداد لحكومة المستعمرين البريطانيين الكافرة (صارت نيجيريا محمية بريطانية وجزءا من التاج البريطاني منذ عام 1901 وحتى نيلها الاستقلال في عام 1960 لتصبح إحدى أوائل أقطار أفريقيا السوداء المستقلة، وتحولت إلى دولة اتحادية من الأقاليم الشمالية والجنوبية في عام 1963 ).
إلى قائل بأن السبب هو أحد أشكال الصراع الدائم والمستمر ما بين الشمال ذي الأغلبية المسلمة والأكثر تخلفا والجنوب ذي الأغلبية المسيحية والأكثر تطورا. ففي الشمال توجد أقلية مسيحية لطالما تعرضت للاضطهاد والأعمال الدموية والتهجير القسري – قدرت جماعات حقوق الإنسان من قتل من المسلمين والمسيحيين خلال السنوات الست الماضية في مواجهات متفرقة بستة آلاف شخص. وفي الجنوب – على خلاف الشمال – توجد ملامح للتطور الاقتصادي الحديث وأنماط من التعليم الغربي الراقي بفضل استيعاب الجنوبيين لهذه الأمور منذ زمن الإنجليز بطريقة أسرع ودونما معوقات تتعلق بالعادات والتقاليد الاجتماعية والقبلية كحال الشماليين
غير أن النظريتين الأقرب إلى الحقيقة هما: نظرية تقول أن بروز “بوكو حرام” لم يكن سوى وسيلة من وسائل تسريع التطبيق الشامل لأحكام الشريعة الإسلامية في مقاطعات الشمال، بعدما صوت أبناء تلك المقاطعات في عام 2004 لصالح تطبيق الشريعة كنوع من أنواع تحجيم الفساد المستشري في أجهزة الدولة. ويبدو أن محمد يوسف وأنصاره لم تعجبهم طريقة الحكومة المحلية في ” كانو” في تطبيق الشريعة والتي انحصرت فقط في تشكيل شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (خاضت الحكومة الاتحادية نزاعا قانونيا مع الحكومة المحلية حول عدم قانونية تشكيل مثل تلك الشرطة، إلى أن فازت مؤخرا) والفصل الجنسي في الأماكن العامة، ووضع مواصفات للزي الإسلامي، ومنع بيع وتناول المشروبات الكحولية، وحظر قيادة الذكور للدراجات وسيارات الأجرة التي تستقلها سيدات، وتطبيق الحدود الشرعية من جلد وبتر للأطراف.
أما النظرية الأخرى، فتقول أن ما حدث لم يكن سوى رد فعل لمقتل الشيخ آدم جعفر على يد أشخاص ملثمين، وهو يأم المصلين داخل مسجده في مدينة كانو. والشيخ آدم جعفر رجل دين تلقى علومه الشرعية في إحدى الدول الخليجية، وكان دائم الانتقاد لرجال الدولة ومسئولي الحكومة المحلية لفسادهم و إعاقتهم تطبيق أحكام الشريعة وإنفاقهم الميزانيات المخصصة لذلك في شراء المنازل الفاخرة والسيارات الفخمة، بل أنه هدد قبل يوم واحد من اغتياله بأنه سيوجه المصلين إلى طريقة التصويت كيلا تذهب أصواتهم في انتخابات اختيار محافظ لمدينة “كانو” التي كان من المقرر إجراؤها الشهر المقبل إلى المحافظ الحالي/ الراغب في التجديد والمتهم في قضايا فساد عديدة “شيكارو”.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.bh