حل مؤخرا في بكين الرئيس محمود عباس في أول زيارة له إلى الصين كرئيس للسلطة الفلسطينية، وكأول زعيم عربي يزورها منذ إنتخاب رئيسها الجديد “شي جينبينغ”. وفي وقت متزامن تقريبا بدأ رئيس الحكومة الإسرائلية “بينيامين نتنياهو” زيارة مماثلة للصين. تفاجأ مراقبون كثر بالحدثين، فراحوا يتساءلون عما إذا كان ذلك قد تم بمحض الصدفة، أو أن القيادة الصينية قد رتبت لها عمدا؟
الإحتمال الثاني هو الأقرب بالطبع. فالصينيون المغضوب عليهم جماهيريا في العالم العربي بسبب موقفهم المؤيد لنظام الأسد في سوريا، ثم محاولاتهم السرية المستمرة لمساعدة طهران لإنقاذها من العقوبات الدولية المفروضة عليها بسبب برنامجها النووي، ناهيك عن مواقفهم المخجلة من ثورة الشعب الليبي ضد نظام العقيد، يحاولون اليوم تجميل صورتهم عبر إتخاذ زمام المبادرة لإيجاد حل لقضية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، بعدما تقاعسوا عن ذلك طويلا. ويأتي هذا التوجه الصيني في وقت يتراجع فيه إهتمام الأمريكيين بمنطقتي الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط وقضاياهما لصالح الإهتمام بمنطقتي الشرق الأقصى والمحيط الباسيفيكي، بحسب السياسات الخارجية المعلنة لإدارة أوباما.
وتظل هذه هي الحقيقة، مهما إدعت بكين أن ما دفعتها للتحرك من أجل إخراج عملية السلام بين الفلسطينيين والصينيين من حالة الجمود التي تعيشها منذ أكثر من أربعة أعوام هو مسئوليتها كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، ومهما زعم مسئولوها أن تحركهم جاء تطبيقا لسياسة خارجية جديدة رسمها الرئيس “جينبينغ” للعب دور أكبر في الشأن الدولي يتناسب مع المكانة التي بلغتها بلاده.
أما الأمر الآخر الذي يغفل عنه الكثيرون في سياق الأسباب التي دعت الصينيين للتحرك فهو المخاوف التي تساورهم من الحالة الزئبقية التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط اليوم، والتي قد تفقدهم كل مصالحهم فيها. وبعبارة أخرى فطالما أن إيران محاصرة بعقوبات إقتصادية ولا يمكن التعامل معها إلا سرا خوفا من تعرض المصالح الصينية مع دول مجلس التعاون الخليجي للخطر، وطالما أن عراق ما بعد صدام في حالة من عدم الإستقرار والتفسخ، والتفاهم مع تركيا صعب بسبب دعمها لإنفصالي مقاطعة “تركستان الشرقية”، وسوريا تعيش حربا مدمرة، وليبيا غير مستتبة أمنيا، ومصر لم يعد لها تأثير بسبب ثورتها التي لم تجلب لها سوى الهزال والكوارث، وطالما أنه لا مكان للصين أن تسرح وتمرح كما تشاء في منطقة الخليج المعروفة تقليديا بارتباطها بالإستراتيجية الغربية، فلما لا تراهن بكين على إسرائيل مثلا؟
صحيح أن إسرائيل دولة صغيرة نسبيا، ولا تملك النفط والمعادن التي يسيل لها لعاب الصينيين، لكنها في المقابل دولة متطورة تكنولوجيا ومتقدمة إقتصادية، وتملك مراكز ومؤسسات بحثية عالية الكفاءة، وبالتالي فإذا ما تمكنت الصين من إيجاد صيغة تنهي بها الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي فإن ذلك سوف يزيد الدولة العبرية قوة ومكانة ويجعلها ثمرة يمكن للصين أن تستفيد منها علميا وتكنولوجيا وصناعيا وتجاريا وسياحيا.
ومن هنا لم يكن غريبا أن يطرح الرئيس “جينبينغ” أثناء زيارة الرئيس عباس ونظيره الاسرائيلي نتنياهو للصين خطة سلام لحل القضية الفلسطينية مكونة من خمسة مباديء:
• اقامة دولة فلسطينية مستقلة
• المفاوضات هي الطريق الوحيد نحو تحقيق سلام دائم وشامل
• مبدأ الأرض مقابل السلام
• ضمانات دولية لدعم عملية السلام
• حق إسرائيل في الوجود وضرورة إحترام وضمان أمنها
وبكين هنا تعول في قبول الفلسطينيين لخطتها هذه على تاريخ طويل من العلاقات الصينية الفلسطينية التي يرجع تدشينها الى مارس 1965 حينما قام رئيس منظمة التحرير الأسبق المرحوم أحمد الشقيري بزيارة إلى بكين، إلتقى خلالها بالمعلم “ماو” ورئيس حكومته “تشو إن لاي”. وعلى الرغم من أن بكين كانت قد سبقت هذه الزيارة بسنوات طويلة تبني حقوق الشعب الفلسطيني ضمن سياساتها الخارجية المبنية (وقتذاك) على دعم قضايا التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار والامبريالية والرجعية، وبالرغم من أن بكين كانت قد إستقبلت في مارس 1964 المرحومين ياسر عرفات، وخليل الوزير بصفتهما من قادة حركة فتح، وذلك في الزيارة غير الرسمية التي يقال أن الرئيس عبدالناصر توسط من أجل إتمامها كي يتعرف فيها قادة الصين الشيوعية على قادة الكفاح الفلسطيني المسلح، فإن زيارة الشقيري هي التي وضعت حجر الاساس في العلاقات الفلسطينية – الصينية، حيث أعقب الزيارة بيان إعترفت فيه بكين رسميا بمنظمة التحرير كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، لتصبح أول دولة غير عربية تــُقــْدم على ذلك، بل وسمحتْ للمنظمة بفتح مكتب في بكين. بعد ذلك توالت زيارات القادة الفلسطينيين وإجتماعاتهم مع كبار المسئولين الصينيين بدءا من أول زيارة لأبي عمار كزعيم لمنظمة التحرير إلى بكين في مارس 1970. كما توالى قدوم أعداد كبيرة من كوادر المنظمة وحركة فتح إلى الصين لتلقي التدريبات العسكرية وغير العسكرية، وزارت وفود صينية كثيرة القواعد الفدائية الفلسطينية، وراحت بكين منذ 1970 تزود قوات منظمة التحرير بالأعتدة القتالية.
وبعد قيام السلطة الفلسطينية دخل الطرفان في إتفاقيات من نوع مختلف. فكانت هناك إتفاقيات إقتصادية في مجالات التجارة والصناعة والزراعة وتربية المواشي والإستثمار المشترك والمشاريع الكهرومائية ومشاريع تطوير البنية التحتية الفلسطينية، وإتفاقيات ثقافية لتشجيع التبادل والتعاون في مجال التعليم وتبادل وتدريب الطلبة والأكاديميين والمحافظة على الآثار والمخطوطات، وإتفاقيات عسكرية تقدم بكين بموجبها للسلطة أعتدة وذخائر حربية وغير حربية من أجل تعزيز قدرة وكفاءة قوات السلطة وشرطتها.
أما فيما يتعلق بكيفية إستمالة الإسرائليين لخطة السلام الصينية، فإن تعويل الصين هو على ما يربطها بالدولة العبرية من مصالح تجارية واقتصادية وتكنولوجية متشعبة. صحيح أن بكين لم ترد إيجابا على إعتراف تل أبيب بها في يناير 1950 ، والذي سبق إعتراف أول قطر عربي (مصر) بها بست سنوات، ولم تؤسس لعلاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل الا في 1992 أي بعد مؤتمر مدريد للسلام، إلا أن السنوات الماضية مذاك شهدت تطورات صاروخية في التبادل التجاري (الصين أكبر شريك تجاري لإسرائيل في آسيا وثالث أكبر شريك لها في العالم) وفي مجال الاستثمار المشترك والتصنيع والتكنولوجيات المعقدة وعلوم الفضاء والاتصال والدواء. لذا لم يكن مستغربا أن يبدأ نتنياهو زيارته الأخيرة للصين من شنغهاي(قلعة الصين الاقتصادية)، ويعلن فيها أن إسرائيل يمكن أن تصبح “مختبرا للبحث والتطوير بالنسبة للصين بفضل تكنولوجياتنا المتطورة”، وأنه “بتزاوج التكنولوجيا الاسرائيلية والصناعة الصينية والسوق العالمية يمكننا تقديم التوليفة الرابحة”. هذا طبعا قبل ان يصل الى بكين ويطالب مضيفيه بمساعدة إسرائيل في بناء خط حديدي يربط تل ابيب بإيلات أي ربط البحرين الأحمر والابيض لتجنب المرور في قناة السويس المهدد أمنها بسبب حالة اللاستقرار في مصر.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh