لم تأتِ انتخابات السابع من شتنبر 2007 ، الثانية من نوعها منذ تولي الملك محمد السادس الحكم بجديد، اللهم بعض التفاصيل الصادمة حقا، فلا أحد مثلا كان يتوقع أن تصل نسبة رفض المشاركة، إلى هذا الرقم المهول: 63 بالمائة، ليكون بذلك أهم حدث أسفرت عنه هذه الانتخابات، هو اتساع رقعة الرافضين للعملية الانتخابية برمتها، وبالتالي المشهد السياسي كما هو عليه في مغرب الراهن
.
بالفعل يُعتبر رقم 63 بالمائة من عدم المشاركة مهولا، وإذا ما أضفنا نسبة 19 في المائة من الأوراق الملغاة فسيتأكد أن العملية الانتخابية برمتها كانت مضيعة للجهد والمال والوقت، كيف ذلك؟
لا شك أن ثمة من بين القراء، مَن لا زال يتذكر، أن الوزير الأول إدريس جطو، كان قد صرَّح في أحد أيام شهر دجنبر الماضي، أمام لفيف من رجال الأعمال والسياسيين والصحافيين الفرنسيين، أنه ” مهما كانت نتيجة الانتخابات التشريعية في المغرب، فإن الأغلبية الحكومية الحالية ستبقى مكانها “.. وبالنظر إلى النتيجة التي أسفرت عنها الانتخابات، فإن الأمور تسير في اتجاه إبقاء الوضع الحكومي على ما هو عليه، مع قلب للأوضاع بين الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال، والاحتفاظ بباقي مكونات الأغلبية على حالها، وذلك بشكل لا ينقصه سوى تعيين وزير أول تيقنوقراطي، ليكتمل المشهد السياسي، وبذلك يكون السيد إدريس جطو قد صدق وعده في طمأنة المستثمرين والسياسيين الفرنسيين، بأن إسلاميي العدالة والتنمية لن يصلوا إلى الحكم: البعبع الذي لا يريده ساسة ومستثمرو بلاد موليير.
فهل معنى هذا أن ثاني انتخابات تشريعية في عهد محمد السادس قد تم تزويرها؟
يصعب القول بذلك، ما دام أنه حتى الحزب المعني بمثل هذا الطرح السلبي، ونعني به حزب العدالة والتنمية، لم يذهب إلى حد القول بذلك، مفضلا الحديث عن استعمال مُكثف للمال، من طرف النخب الحزبية الليبرالية لشراء الأصوات، إذن ما الذي حدث حتى رست النتيجة النهائية للانتخابات عند الرغبة المسبقة في عدم حدوث “مفاجآت”؟
الواقع أن ” صمام الأمان ” كان قد تم اتخاذه منذ أشهر عديدة، حيث تم الاتفاق بين وزارة الداخلية وأحزاب الأغلبية، على نمط الاقتراع الأحادي باللائحة، كما أن التقطيع الانتخابي، الذي أبقى على اعتماد التوزيع الإداري ( 16 جهة ) كما رسمه الحسن الثاني، ووزيره القوي في الداخلية إدريس البصري، منح الفرصة كاملة لنفس النخب الأعيانية ( من الأعيان ) التي ترعرعت في كنف المخزن، لتعود سالمة إلى مقاعدها البرلمانية، وبما أن هؤلاء الأخيرين، موزعون على أحزاب تقليدية، وأخرى كانت توصف بالإدارية، فإن فرص عودة المشهد السياسي إلى سابق عهده كانت مضمونة، بهامش خطأ لا يتجاوز استبدال المتصدر السابق، الفائز بأكبر عدد من المقاعد، ونعني به حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بحزب الاستقلال، وبذلك تكون اللعبة قد تمت، ويجب أن نقول بأنها تمت ببراعة كبيرة، سيما ونحن نلاحظ القسمات الواجمة لقادة حزب العدالة والتنمية، والاتحاد الاشتراكي، فالأولون اطمأنوا إلى غلبتهم العددية ( تصريحات العثماني السابقة التي وصلت إلى حد القول بفوز ساحق لا يقل عن ثمانين مقعدا ) وهو ما كان يثير ابتسامات ساخرة لدى اليازغي وجماعته، لمعرفتهم أن الدولة لن تسمح أبدا باكتساح عددي لإخوان العثماني والرميد، على حساب اليازغي ورفاقه، غير أن نصف الحقيقة الآخر، الأهم، الذي غاب عن تحليل هؤلاء الأخيرين، هو أن القصر لم يكن مستعدا لتزوير نتائج الانتخابات لفائدتهم كما فعل الحسن الثاني في شتنبر 1997، وفي ذلك كانت صدمة الاتحاديين قوية، لقد ترك النظام الآلة الانتخابية التقليدية، تعمل عملها، وجاء معطى العزوف الكبير للناخبين ( من المؤكد مثلا، أن الاتحاديين الغاضبين من ” تمخزن ” حزب المهدي بنبركة وعمر بنجلون لم يصوتوا على رفاقهم القدامى ) وبذلك عادت الميكانزمات الانتخابية المغربية إلى سابق عهدها، لما قبل ” وجبة التناوب التوافقي ” التي ابتدعها الحسن الثاني، والدليل على ما نقول هو عودة ” الروح ” الانتخابية شيئا فشيئا لأحزاب كانت في شبه موت عضوي، مثل الاتحاد الدستوري…
غير أن المعطى ” الجديد ” الذي لم يحسب له المخططون جيدا، هو نسبة الامتناع التي ضربت رقما قياسيا، ووصلت، كما سبقت الإشارة إلى 63 بالمائة، إضافة إلى 19 بالمائة من الأصوات الملغاة وهي نسبة عزوف كبيرة جدا لم يسبق تسجيلها من قبل.
لم يدَّعِ أحد من المتبارين في الانتخابات التشريعية الأخيرة،أن وزارة الداخلية استعملت، كما كان الأمر يحدث في السابق، وسائل ضغط وإكراه في حق الناخبين، سواء للمشاركة في عملية التصويت، أو لمنح أصواتهم في هذا الاتجاه أو ذاك، بل إن الاتهامات بهذا الصدد، ويا للمفارقة، اتجهت إلى وزراء الأغلبية الحكومية، نظير نبيل بنعبد الله، وكريم غلاب وآخرين، اتُّهموا باستغلال مناصبهم الحكومية، ووسائلها اللوجستيكية، للتأثير على الناخبين، هذا في حين أن مرشح الداخلية، في شخص وزيرها المنتذب السابق، وصديق الملك، فؤاد علي الهمة، تقدم للانتخابات، متجردا، شكلا، من منصبه الوزاري، تاركا أمر ” مساندته ” للصحافيين الذين تقاطروا على دائرته الانتخابية مثل النحل، منتجين روبورتاجات ” حية ” والرياضيين والفنانين إلخ. وبذلك انقلبت الآية حيث أصبحت الداخلية ” محايدة ” وأحزاب الأغلبية متهمة بإفساد العملية الانتخابية.. حقا، عِش رجبا ترى عجبا.
وكان مثيرا حقا أن يتوجه الملك، في خطابه الأخير يوم 20 غشت الماضي، إلى كتلة الناخبين، حاثا إياهم على الإدلاء بأصواتهم، في الانتخابات، إن خطابا من هذا القبيل في عهد الحسن الثاني كان من شأنه، أن يتحول إلى أمر مقضي، عبر حمل المؤهلين للتصويت حملا، إلى صناديق الاقتراع، غير أنه لا شيء من ذلك حدث، وهذا أمر جديد تماما، حيث تُرك الرافضون للعملية الانتخابية يقولون ” لا ” للملك، أي أنهم لم يمتثلوا لأمره باعتباره أعلى سلطة في البلاد ويُلبوا رغبته، في المشاركة بكثافة في العملية الانتخابية.
لنطرح هذا السؤال: كيف يُمكن تفسير كل هذا العزوف، والإصرار على عدم المشاركة في العملية الانتخابية؟
يجيب فاعلون مدنيون ومثقفون، بأن ” السبب الرئيسي، يعود إلى فراغ مضمون العملية الانتخابية أصلا، حيث إن عدم قيام الحكومة بتخطيط وتنفيذ برنامج الدولة، وصورية المراقبة والمتابعة البرلمانيتين، أفقداها مضمونها ” بل ويذهب البعض إلى حد التساؤل عن ” الجدوى من تنظيم العملية الانتخابية من الأصل، ما دامت لن تُفرز أغلبية برلمانية تتشكل منها حكومة، ومن صلب هذه الأخيرة يأتي وزير أول، بينما تصطف أحزاب الأقلية البرلمانية في ضفة المعارضة، في انتظار أن تنضج الأمور السياسية لصالحها في انتخابات قادمة “.. وما دام أن هذا غير حادث – يستطرد أصحاب هذا الرأي – ولا يُنتظر حدوثه، في القريب، فإن الانتخابات ليست سوى مضيعة للجهد والمال، وهو ما بدأ ينتبه له الناخبون، بالحدس، أكثر فأكثر، حيث انتقلت نسبة عدم المشاركة من 51 بالمائة سنة 2002 إلى 63 بالمائة حاليا وهو الأمر المرشح لتفاقم أكثر خلال الاستحقاقات القادمة”.
يرد آخرون على هذا الرأي ” السلبي ” من العملية الانتخابية، ومنهم وزير الداخلية شكيب بنموسى، بأن ” ظاهرة العزوف تعتبر عالمية، ونحن لن نشذ عن باقي مجتمعات العالم ” غير أن ثمة مَن يُعقب على ذلك بالقول: ” إن هذا غير صحيح بالمرة، فالدول السائرة في طريق النمو، والتي تعيش بدايات مسلسلات ديمقراطية حقيقية، تعرف كثافة في المشاركات الانتخابية، وآخر دليل تمثل في الانتخابات التركية الأخيرة التي عرفت نسب مشاركة قياسية، فضلا عن بلدان أوروبا الشرقية، والعديد من دول أمريكا
الجنوبية “.
ليس من شك، أن ثمة شيء، أو بالأحرى، أشياء على غير ما يُرام، فهل يتمثل في تراجع إشعاع العمل الحزبي، عقب دخول أكبر حزب في المعارضة السابقة، على عهد الحسن الثاني، ونعني به حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية للحكومة؟ كما يرى البعض، أم أن ذلك يعود لعدم وجود نص دستوري يمنح صلاحيات واسعة للانتخابات، باعتبارها مصدر التشريع والتنفيذ، من خلال الأغلبيتين البرلمانية والحكومية اللتين ينتجانها؟ أم أن المشكل يكمن بالأحرى، وفق ما يراه البعض الآخر، في ضعف حزبي عام ” باعتبار أن “أحزاب المعارضة توجد في فترة نقاهة، قد تستغرق وقتا طويلا، قبل أن تكون جاهزة لعمل شيء مفيد، يُعيد للمشهد السياسي بعض تشويقه، على الأقل، بما يُحفز الناخبين على التقاطر على صناديق الاقتراع “… نعم – يُعلق أحد المتخابثين – ولكن الحياة السياسية لن تنام في انتظار أن تأوب للأحزاب الموصوفة سابقا بأنها “ديمقراطية” عافيتها، حيث الحاصل أن التنظيمات الإسلامية ” المعتدل ” منها والراديكالي هي بصدد اكتساح المشهد السياسي، وتعد بأنها ستلعب الأدوار الأولى فيه.
لكن يبدو أن لا أحد يريد، من أعلى قمة السلطة – ونعني بها المؤسسة الملكية – إلى أخمصها، أن يرى الإسلاميين يُملون خياراتهم على الدولة والمجتمع، إنها مشكلة حقا، فأين الحل؟ يجيب أحد الظرفاء: لقد قضى نظام الحسن الثاني زهاء أربعين سنة في محاربة اليساريين الذين أرادوا إسقاطه بالقوة، حينما استأسد عليهم، وكانت النتيجة أنه محقهم، لدرجة أن يساريا صلبا مثل عبد الرحمان اليوسفي، قَبِل ربيع سنة 1998 أن يلبس “الجلابة والشاشية” ويدخل لدار المخزن مبايعا، فما الذي يمنع من أن يقضي محمد السادس نفس المدة أو أكثر ليفعل بالإسلاميين، الراديكاليين نفس الشيء؟ “.
يا للسيناريو الساخر المرعب، لكن لا شيء بعيد في مملكة الغرائب والعجائب.
mustapha-rohane@hotmail.fr
* الرباط