فيما عاد الرئيس علي عبدالله صالح من لندن إلى صنعاء يوم السبت 13 أغسطس، كان رئيس الوزراء الجنوبي الأسبق حيدر العطاس، قد وصل إلى لندن، وبعده بيومين وصل إلى لندن الرئيس الجنوبي السابق علي ناصر محمد. وكان في استقبالهما الوزير السابق محمد علي أحمد الذي يعتبر من أقوى شخصيات المعارضة الجنوبية في الخارج والداخل، ليس انطلاقاً من خبرات وخلفيات سابقة أو رصيد رمزي فقط، وإنما ارتباطاً بشخصيته الحركية، الدينامية، وتواصله وتفاعله مع أبرز الناشطين في الداخل والخارج ومع كافة المستويات.
وفي الأثناء تردد أن الأستاذ محمد سالم باسندوة رئيس لجنة الحوار الوطني، الذي تحفظ على المشاركة في الحوار مع الحزب الحاكم بموجب محضر 17 يوليو، بين السلطة والمعارضة، وصل إلى لندن هو الآخر. وهو كان الجنوبي “الجوكر” في رئاسة لجنة الحوار الوطني بصنعاء.
وفي الاثناء، أيضاً، تردد بقوة أن قيادة المعارضة الجنوبية في الخارج بدأت اجتماعاتها في لندن بالمقر السابق الذي كانت تجتمع فيه قيادة المعارضة العراقية قبل الغزو الأمريكي وسقوط نظام صدام.
وفي مساء الاثنين 15 أغسطس، وصل إلى المكلا القيادي الأبرز والفائز باستمزاج شعبي واسع، رئيس ما يسمى بـ”المجلس الوطني الأعلى لتحرير واستعادة الجنوب”. وتردد بقوة أنه عاد وهو يحمل مشروعاً لتوحيد قوى ومكونات الحراك في الداخل. وقد هرع لاستقباله بمطار “الريان” عشرات الآلاف من أهالي حضرموت والمحافظات الأخرى، وأحاطوا بموكبه إلى أن وصل إلى “ساحة الحرية” بمدينة “المكلا”، حيث أقيم أول مهرجان حاشد وصف بأنه الأضخم في تاريخ المدينة. وقالت مصادر إعلامية إنه يتجاوز 100 ألف متظاهر. وقد تعهد الزعيم “الأسطورة” -حسب بعض التصريحات- بمواصلة النضال و”دحر الاحتلال”!
وفيما حظيت عودة “باعوم” إلى “المكلا” بعد غياب من يونيو العام الماضي، في رحلة علاج طويلة، بدأها في الصين ثم الهند ثم ألمانيا فالقاهرة، بالترحاب من قبل قيادات بارزة في “الحراك” تركزت خطاباتها على ضرورة استخلاص صيغة الرؤية السياسية الواحدة والقيادة الموحدة لـ”الحراك”، كشفت بعض تلك “الرموز” عن مشروع سياسي برسم التجهيز والإعداد، وألمح بعضها إلى أن القائد العائد لم يرجع إلاّ وفي جعبته المشروع المرتجى والموعود.
وكان لافتاً وواضحاً أن فعاليات “الحراك” خلال الأيام الماضية، قد تقاطعت وانسابت في مجرى تحركات قيادات المعارضة الجنوبية في الخارج، بما فيها “التاريخية” التي استعادت هذه الصفة في بعض التداولات مؤخراً. وسارع هؤلاء وأولئك إلى التشديد على ضرورة بلورة مفردات المشروع السياسي الواحد (الرؤية) للقضية الجنوبية، واستخلاص صيغة قيادية موحدة استجابة لمقتضيات الضرورة والحاجة الماسة التي تدعو إلى التعجيل بإنجاز هذه المهام.
ومن سخريات المصادفات والمفارقات أنه وفي مساء الاثنين الماضي، أيضاً، غادر صنعاء الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني رئيس الوزراء ووزير الخارجية بدولة قطر، والمهندس الأبرز لاتفاقية الدوحة بين الحوثيين والسلطة، بعد زيارة مفاجئة وقصيرة استغرقت ساعات قليلة، وأكد خلالها على أهمية تفعيل اتفاقية الدوحة واستعداد قطر لاستقبال واستضافة المفاوضات بين الحوثيين والسلطة.
والراجح، بل المؤكد، أن هذه الزيارة، وقبلها زيارة أمير دولة قطر، كانت من المحفزات المثيرة والمحركات القوية لقوى “الحراك الجنوبي” في الداخل وقيادات المعارضة الجنوبية في الخارج التي استشعرت بأنه قد حان الأوان لأن تحاول أن تكون لأول مرة أو لا تكون بالمرة.
وكان على هذه القيادات في الداخل والخارج أن تدخل في سباق مع الزمن في اتجاه تفعيل “القضية الجنوبية” في المحافل الإقليمية والدولية، ولفت الأطراف الإقليمية الفاعلة، التي يسترعي انتباهها كثيراً ما يحدث في “صعدة”، إلى أن ما يحدث في الجنوب أكبر وأخطر، وإلى أنها -أي هذه الأطراف- ترتكب خطأً جسيماً حين تتجاهل وتتغافل -بقصد أو بغيره- قضية الجنوب التي تتجاوز في أهميتها وخطورتها ومصيريتها كافة القضايا الأخرى الملتهبة في الساحة، بما فيها قضية “صعدة”.
وكان على “حراك” الداخل ومعارضة الخارج أن يسارعوا إلى إعداد ملفات بالصوت والصورة لما يحدث في المحافظات المتفجرة من انتهاكات وارتكابات جسيمة، ويسارعوا إلى تشكيل قيادة موحدة لـ”الحراك” في الداخل وقيادة سياسية واحدة للمعارضة في الخارج، وصولاً إلى صيغة قيادية سياسية تتبنى وتتمثل مطالب وتظلمات الجنوب، وتنطلق من مرجعية غير ملتبسة.
وفي هذا المنعرج أطل (المهندس) حيدر العطاس برأسه حين ترأّس أواخر الأسبوع الماضي لقاء جنوبياً موسعاً في مدينة “شيفلد”، وأكد فيه على أن “الحراك” أصبح بحاجة ماسة إلى رؤية سياسية موحدة وإطار سياسي واحد، وأن الحاجة إلى ذلك صارت ملحة وعاجلة و”بشكل لا يقبل التسويف”، مشيراً إلى أنه وعدداً من الجنوبيين قد بادروا إلى إعداد مشروعين لهذه الغاية: مشروع البرنامج السياسي، ومشروع الهيكل التنظيمي للحراك السلمي الشعبي.
والحاصل أن التطورات والأحداث التي جرت في هذا المنحى كانت كثيفة ومتسارعة، وقد صار من كانوا يطرحون شعار “التغيير وليس التشطير”، في ضفة التشطير أو العودة إلى مربع “فك الارتباط”، وفي الأقل القبول بأن يكون الحوار شمالياً/ جنوبياً، وتحت رعاية دولية.
ولا يستبعد أن بعض هذه التحركات أو بعض “المتحركين” هؤلاء قد انطلقوا بهذه القفزة بعد حصولهم على ضوء أخضر إقليمي أو إشارات مشجعة بوعد تفعيل ملف “القضية الجنوبية” بالتوازي والتزامن مع تفعيل ملف اتفاقية الدوحة، قبل أن يفوت الأوان، وترتكس الأمور إلى مستواها الصفري، وتهدر عجلة الحركة الدائرية التدميرية لتعصف بما تبقى من وعود السياسة. خاصة وأن أجواء هذه الأيام تستحضر مناخات الهزيع الأخير من حرب 1994، وماراثون العطاس/ الإرياني الذي لا يستبعد أن يرجع، ولكن، بصيغة الكوميديا السوداء.
* رئيس تحرير صحيفة “التجمّع” – صنعاء