خلال كلمة متلفزة له في حفل افتتاح منتدى جبل عامل للثقافة في عيناتا قبل يومين، قدم الامين العام كعادته خطابا سياسيا. ومع ان المناسبة لها طابع ثقافي في بلدة عاملية لها تاريخها في اﻷدب والشعر والثقافة، لكن كلمة السيد نصرالله لم تأتِ على استشهاد ببيت شعر لأحد شعراء هذا الجبل او غيرهم، من محمد نجيب فضل الله، او موسى الزين شرارة، او علي الزين وعبد المطلب الامين، ومحمد علي الحوماني،وبولس سلامة، وانسي الحاج، وغيرهم العشرات من اعلام الثقافة في جبل عامل ولبنان عموما. ولم ترد في نصه أي مقولة ثقافية تعكس روح الادب والثقافة في جبل عامل. ولم يرد في هذه المناسبة الثقافية على لسان السيد ولو اسم علم واحد من اعلام الثقافة في هذا الجبل من الراحلين منهم او الاحياء.
الثقافة في جبل عامل هي المقاومة وكفى. هذا ما خلص اليه في خطاب افتتاح منتدى ثقافي في قضاء بنت جبيل.
وﻷن المناسبة ثقافية، فإن الثقافة وموضوعها يدفعاننا دفعا نحو تأكيد ثابتة حق الاختلاف. ذلك أن الثقافة في جوهرها هي قبول الاختلاف، بل تقديسه قولا وفعلاً. وعندما نتحدث عن منتدى ثقافي يفترض اننا نتناول مساحة اختلاف، وليس منبر مدائح وجمهور مصفقين. ونتناول بالضرورة مساحة القول الحر، ومنبر لممارسة فعل النقد السياسي والاجتماعي والفكري. واذا كانت الثقافة فعل ابداع، فلا بد أن تكون انبثاقاً حراً واعياً عن الذات او لا تكون. والثقافة حين تصدر عن ذات محاصرة بالقمع والاستلاب كيف بوسعها أن تمتلك شروط الانبثاق والحرية والوعي.
قال السيد نصرالله في خطابه المتلفز، المواكب بإطلاق الرصاص (الثقافي) ابتهاجا، في مناسبة ثقافية بعيناتا: “المقاومة هي كل بيت من بيوت القرى والبلدات الحدودية وكل الجنوب. هي كل مسجد وكل كنيسة عامرة. هي كل شجرة زيتون وشتلة تبغ… وكل حي في الجنوب ما زال يمشي على قدمية وكل قبر، وكل قصيدة ونشيدة ودمعة وابتسامة وجرح وقطرة دم وكلمة ورصاصة. وهذا الصبر والعزم. هي في جبل عامل كل شيء. هي الهواء والماء والأرض والسماء والتلال والوديان. هي ناسها الذين ما تركوها نهباً للاحتلال ولم يتركوها في يوم من الايام.. هذه هي المقاومة”.
في هذا الجزء من الخطاب المعبر عن الخطاب كله، إصرار على اختزال الوطن والقيم والحياة والناس وكل شيء في جبل عامل بمفردة “المقاومة”. وهو لا يعتبرها جزءاً من منظومة القيم بل هي المنظومة كلها. وهكذا يريد تحويل المقاومة إلى صنم واجب العبادة، والمقاوم إلى كائن إلهي لايخطىء ولا يُسأل عما يفعل. إلى كائن غير مسؤول وعلى الآخرين أن يطيعوه أو يعبدوه كصنم. وهذا المنهج هو سلوك حزبي تجري محاولات ترسيخه بوسائل شتى، كي يصبح التحزب للمقاومة وسيلة من وسائل براءة الذمة. خصوصا عندما تتحول المقاومة إلى سلطة تمنح الحقوق والمكاسب وتمنعهما عن الناس، فتصبح عبادة الصنم وسيلة من وسائل تبرير الافعال، أي “كن مع المقاومة وافعل ما شئت”.
تحويل المقاومة إلى صنم هدفه منع انتقادها أو محاسبتها، وتقديم المقاوم على أنه كائن لا يخطىء، وبالتالي لا يحاسب. ما يعني أنه ممنوع على احد أن يمسّ بخياراته أو يشكك بسلوكه. على اعتبار أن ما يقوم به هو ما يفيض عن واجباته، بل هو يتكرم على الناس، لذا لا يسأل الواهب عما يعطي، فكيف إذا كان السؤال عن واجبات أخرى عليه القيام بها.
فيما كان السيد نصرالله يفتتح مركزاً ثقافياً يفترض أنه ساحة لتقديس الاختلاف، كان خطابه يذهب أكثر فأكثر نحو اختزال كل القيم ووظائف الحياة بالمقاومة. وهو كان يطمس دور الثقافة والمثقف في المجتمع، فحدد وظيفة واحدة للجميع: تصنيم المقاومة وعبادته.
في هذه المناسبة التي يفترض أنها ثقافية، لا يتحقق دور الثقافة والمثقف بحشد عدد كبير من المثقفين ونشرهم تحت منبر السلطة السياسية، بل بإعادة الاعتبار لمهمة المثقف كسلطة موازية وإقامتها على قاعدة الحرية والمسؤولية والتزام وظيفتها الأساس، النقد الاجتماعي والثقافي والسياسي بلا أصنام.
alyalamine@gmail.com
البلد