نص كلمة د/ نصر حامد ابو زيد فى المؤتمر السنوى للجمعية الفلسفية المصرية والذى عقد فى كلية الآداب جامعة القاهرة ونشرها الصحفى مجدى مهنا فى عموده اليومى على ثلاث حلقات فى ” المصرى اليوم” :
*
تعانى أوطاننا من أزمة خانقة ، أو أزمات فى كل المجالات وعلى كل الاصعدة ، لكن هذه الازمات يمكن ردها جميعا لأزمة الحرية .
ان القول النهضوى ” ليكن الوطن محلا للسعادة المشتركة نبنيه بالحرية والفكر والمصنع ” قد أدرك أن الحرية هى وحدها المفتاح الذى يقود عملية التقدم فى الصناعة والزراعة ، بإختصار الحرية هى قاطرة التنمية ، وعوائق الحرية تتمركز فى الإستبداد الذى يولد الفساد الذى يؤدى بدوره الى الخراب الشامل . ومنذ بداية القرن الماضى والمثقف العربى ، الشيخ والأفندى والتقنى ، يشكو من الاستبداد ويحلل أسبابه ويبين مخاطره ويقترح الوسائل للخروج منه إلى أفق الحرية وسيادة إرادة الأمة تحقيقا للعدل والمساواة ، وها نحن بعد قرن كامل تغيرت فيه الدنيا ، وانتقل العالم من عصر التصنيع إلى عصر تكنولوجيا المعلومات ، لانزال نراوح أماكننا من وطأة الاستبداد السياسى والإجتماعى بل والثقافى والدينى .
تغلغل الاستبداد فى تفاصيل حياتنا من وطأة تاريخ طويل من الحكم العسكرى أو الطائفى أو المشيخى ، فالأب مستبد يقهر الزوجة والطفل باسم ” تماسك الأسرة ” والمعلم يقهر التلاميذ باسم ” حق المعلم فى التبجيل والتوقير ” والرئيس أياً كانت درجته يقهر المرؤوسين باسم ” الضبط والربط والنظام ” ورجل الدين يقهر المؤمنين باسم ” السمع والطاعة ” والحاكم يقهر شعباً بأكمله باسم ” التصدى للأخطار الخارجية ” .
صار الوطن معسكراً … كلنا محبوسون داخل أسواره نحيى العلم كل صباح ومساء وطوال اليوم نغنى الأغانى الوطنية وننشد الأهازيج فى حب الوطن
كان هتافنا فى المظاهرات ونحن صغار – إبان الإحتلال البريطانى لمصر والفساد المتعاون معه فى القصر الملكى – ” نموت نموت ويحيا الوطن ” ، ولم يكن الأمر مجرد هتاف فقد مات الكثيرون على ضفاف القناة وفى أرض سيناء وأسشتهد آخرون فى معارك حصدت الالوف ، بإختصار دفعنا الثمن وحصد آخرون الثمرة ، وظلت الأوطان كما هى رهين إحتلال من نوع آخر اسمه ” الاستبداد ” جنرالاته من بنى جلدتنا يمصون دماءنا حتى آخر قطرة ويسدون منافذ التنفس أمام شعوب تختنق ومطلوب منها أن تظل تهتف ، وقد تحولت صيغة الهتاف فصارت ” بالروح بالدم نفديك يا …. ” .
فى تقديرى أن تفكيك الإستبداد مسألة بسيطة وسهلة فحواها أن نكف عن الهتاف وأن نعيد النظر فى مسألة أننا يجب أن نموت لكى تحيا الأوطان .
لماذا يجب أن نموت ؟ وأى أوطان هذه التى ستبقى بعد موتنا ؟
لقد متنا وبقيت أوطان لانعرفها ولاتعرفنا .
أسير فى شوراع القاهرة أو بيروت أو دمشق أو الدار البيضاء ، فأجد أناساً لااعرفهم ، وأرى مبانى شاهقة وفنادق فاخرة أخاف أن أدخلها ، أبحث عن أصدقائى والناس الذين أعرفهم وأحبهم فأجدهم فى أماكن خانقة ، مكاتب التحرير فى الصحف أو دور النشر فى قاعات الدرس والمكاتب المزدحمة فى الجامعات أو فى المقاهى التى فقدت بهاءها وخلعت أرديتها للكافيتريات السياحية ، أرى وجوهاً مرهقة من التدخين والهواء الفاسد ، لكننا نتضاحك لأننا مثقفون متفائلون نؤمن بالمستقبل ، ونتيقن أنه قادم لامحالة … هؤلاء أصدقائى الحالمون الذين أحبهم وأسعى اليهم لأنهم مثلى لايهتفون موتاً فى حب الأوطان ، ولايفتدون فلاناً بالروح والدم .
لكن هناك مثقفون آخرون يرتادون الفنادق الفاخرة والكافيتريات السياحية ويسكنون فى مساكن فسيحة صحية يأتيها الهواء النقى من كل ناحية ولهم استراحاتهم الصيفية ومنتجعاتهم . هؤلاء أبناء العصر فهموا روحه وأدركوا أن التغيير – والإصلاح – لايأتى من أسفل لأعلى ، بل يأتى من أعلى الى أسفل . ولأنهم مصلحون حقاً فقد قرروا أن يتخلوا عن صيغ الاصلاح البالية التى تحدث عنها ” محمد عبده ” و ” عبد الرحمن الكواكبى ” .. وغيرهما – محاربة الاستبداد و الفساد – وأن يتبنوا صيغة ان لم تستطع مغالبة الموج فاركبه
أشكال الفساد :
من العجيب أن عبد الرحم الكواكبى منذ أكثر من مائة عام قد نبهنا أن ” الاستبداد أصل كل فساد ، إذ يضغط على العقل فيفسده ، يلعب بالدين فيفسده ، ويغالب المجد فيفسده ، ويقيم مكانه ” التمجد ” . كيف لم ننتبه أن الاستبداد أس الفساد وهو الكلمة المفتاح لكل حياتنا العربية فى هذه اللحظة ؟
فالفساد أولاً والفساد ثانياً والفساد أخيراً .
: فساد العقل-
هل نحتاج للشواهد ، وأنظمتنا التعليمية وجامعاتنا واعلامنا المرئى خير شاهد ؟ فساد العقل أدى الى فساد الهوية النابعة من فساد الدين والمؤدية اليه فى نفس الوقت و اقرأ الكتب التى تصدر فكم منها تستطيع أن تواصل قراءته ؟
لقد صارت اللغة تتكلمنا لانحن الذين نتكلمها
صار العقل سجيناً للغة تكلمها آخرون منذ آلاف السنين واجتاح الفساد كل قنوات وعينا ، يشكو الصحفى البارز ” صلاح حافظ ” من إختراق الصحافة التى أفسدها المال الذى لم يعد يدخل الى الصحف ” عبر مسالكه الشرعية ونعنى الاعلانات الصريحة ” بل صار يتسرب عبر مسالك أخرى غير شرعية مثل ” خلط الاعلان بالاعلام لخداع القارئ والمشاهد والتدليس عليه .. فاذا أضفت الى ذلك نماذج أخرى من نوع الرشاوى الخفية والمكافآت العلنية التى عودت وزارات وأجهزة وأحزاب بل ودول أجنبية دفعها لبعض مندوبى الصحف ووسائل الاعلام من ذوى النفوس الضعيفة والذمم الخربة لأدركت عمق الاختراق الذى نفذ الى العمق ” .
فى مقابل هذا الفساد أو بسبب هذا الفساد يتعرض الصحفيون والاعلاميون الأحرار ” لمضايقات وصلت لحد الاعتداء البدنى والايذاء النفسى هذا فى مصر ، أما فى بيروت فان الفساد الملازم للاستبداد لايرضى باقل من القتل تفجيراً وتدميراً ، اذا فسد الاعلام فعن أى عقل يمكن أن نتحدث ؟!
: فساد الدين –
احتاج المستبد الى ” الدين ” ليدارى عورات استبداده ، فأمم مؤسسات ” التقديس ” على حد تعبير المصرى الراحل ” خليل عبد الكريم ” لتهتف ليل نهار بعدله واستقامته وحكمته وشجاعته وتصدر الفتاوى لتبرير مواقفه وقراراته فلم يعد أمام المعترض والمحتج إلا ان يلجأ لنفس السلاح .
هكذا ضاع الايمان لصالح الحركية ، ومع ضعف الايمان قوى التطرف و ثار التدين شكلياً .
( إزدحام المساجد مع كثرتها ، اطالة اللحى وتقصير الجلاليب وارتداء الفتيات الحجاب فالنقاب)
حين يصير الدين شكلياً يصير هو المحدد الوحيد للهوية .
وهنا يتبلور مفهوم للآخر فضفاض يساوى بين الأجنبى ( الغربى ) وابن الوطن ( المسيحى والعلمانى ) فيضع الكل فى خانة الأعداء الذين يصبح قتالهم واجباً ،
سيد قطب قسم العالم كله الى مسلمين وجاهليين فقط .
: فساد المجد-
المجد كلمة تتسع لكل القيم والأخلاقيات وأنماط السلوك إجتماعياً وثقافياً ودينياً . وفساد المجد يؤدى الى ” التمجد ” وهو المجد الزائف الذى حلله أحمد البرقاوى من خلال نصوص ” الكواكبى ” ثم صاغه بلغة معاصرة فقال : ” المتمجد هو البوق الأيديولوجى عند المستبد الذى يزيف الوقائع والحقائق هو الذى يقلب الامور رأساً على عقب لأنه يخفى أهداف المستبد الذاتية الضيقة ويحولها الى أهداف باسم الامة مستخدماً المفاهيم الأخلاقية الأثيرة لدى الناس ولصقها بسلوك المستبد .. كحب الوطن وتوسيع المملكة وتوسع المنافع العامة والدفاع عن الاستقلال ، لا شك أن عبد الحميد هو المقصود بهذا الكشف والتحليل ، ربما أنه ( الكواكبى ) أخفى هذا لسببين : الخوف من المستبد أو لاعطاء معنى كلى للمستبد والمتمجد ” .
أن المتجد بإختصار هو ذلك المثقف الذى لايكف عن الهتاف – سواء كان شيخاً أو أفندياً أو تقنياً – للمستبد فيتحول هو بالتدريح الى مستبد صغير فيتوالد الاستبداد ويعيد إنتاج نفسه فى أشكال وأثواب جديدة ، فيصبح استبداداً دينياً واستبداداً ثقافياً واستبداداً تعليمياً .
ولأن الاستبداد هو أس الفساد يصبح الفساد هو الهدف الذى ينصب اليه تفكيكنا؟
: تفكيك الفساد –
كيف نفكك الفساد؟ وهل هذا ممكن ؟
نعم … يمكن تفكيك الفساد بفضحه على الملأ بلا خوف ولا حسابات ضيقة ، الفساد الذى يتجاوز السرقة ، سرقة المال العام ، والنهب باسم الاستثمار ، و الفساد الذى يتجاوز المحسوبية ويعلى من شأن القرابة على حساب الكفاءة .. هذا الفساد الذى يتجاوز أشكاله التقليدية تلك ويصبح قتلاً فى الطريق العام : شباب ينتحر لأنه لايجد عملا ، أو لأنه حرم من فرصة العمل بسبب تواضع نسبه ، إنتخابات تدار بالرشوة والبلطجة وخراب الذمم وتخريبها ، قضاة يعتدى عليهم ويداسون بأجهزة الأمن لأنهم صدقوا أنهم مسؤولون عن ضمان النزاهة ، وأخيرا قتل المثقفين والمعارضين وأصحاب الرأى .
لا مكان للعقل ولا مساحة للتفكير الحر ، والمجد للمتمجدين المبررين .. حملة المباخر ورافعى رايات الاصلاح والتنوير الذى لايجب أن يتناقض مع التقاليد أو يخترق أسوار التراث أو يخلخل الثوابت تلك التى يصوغها المتمجدون أنفسهم ويقفون حراساً وسدنة لها .
هؤلاء المتمجدون هم المسؤولون عن فساد العقل لأنهم حولوا العقل عن وظيفته النقدية التى تخترق ظلمات التقاليد والتراث لتؤسس قيم المستقبل من خلال تفاعل خلاق مع الماضى ، وحصروا دوره فى تبرير الوضع الراهن وتجميل قبحه ، هؤلاء المتمجدون حصروا التعليم فى التلقى والتكرار وحاربوا الابداع والقفز فوق أسوار التقليد ، حين أراد المستبد أن يؤمم العقل هللوا له ، منذ حاولت الدولة العباسية أن تضم قوة السلطة السياسية الى سلطة الفكر فى قبضتها منذ عصر المأمون ففشلت لكنها نجحت فى عصر المتوكل . ففى العصر الحديث تم فى مصر تأميم الازهر باسم ” الاصلاح ” فى الستينات ، وفى الخمسينات كان قد تم تأميم الجامعة باسم ” التطهير ” ، وكانت تلك بدايات فقدان الاستقلال ، وفى السبعينات تمت عسكرة الجامعة ، وفى التسعينات تمت عملية تسييس الجامعة باستيلاء الحزب الوطنى تدريجياً عليها .
فى الوقت الذى يعلن المسؤولون فيه أنه لاسياسة فى الجامعة بمعنى أنه لايصح قيام فروع للأحزاب السياسية فى الجامعة ، يقوم حزب واحد – غير شرعى – فى تقديرى لأنه ولد فى أحضان الادارة من غير سند قاعدى ، بالاستيلاء على الجامعة من أعلى وبعملية الاختراق تلك تسلل الاستبداد وتسلل فى عباءته الفساد
والمضحك فى مصر – وكم ذا بمصر من المضحكات – أن هذا الحزب الغير شرعى يعتبر نفسه مقياس الشرعية فتمتلئ أجهزة اعلامه بأبواق تندد بقوى سياسية أخرى وتصفها بعدم الشرعية ، هى قوى سياسية قد نختلف معها ، لكن حضورها فى أرض الواقع أمر لايمكن إنكاره .
فى جامعة يسيطر عليها حزب سياسى ، أكرر غير شرعى ، سلطوى يشرع لها ويسيطر عليها بجهازه الامنى ، هل يمكن الحديث عن البحث العلمى فضلاً عن حريته ؟
كيف يمكن للخائف أن يمارس حرية ما ؟ الأمن يحاصر الجامعة من أبوابها الى قرارات تعيين المعيدين وأعضاء هيئة التدريس فضلاً عن المناصب الادارية من وكيل الكلية الى رئيس الجامعة .
هناك دائما التبرير الجاهز : الأمن والخوف من الارهاب ، فى مجتمع خائف ومؤسسات هاجسها الأمن لا يترعرع فكر ، ويصبح الحديث عن الحرية حديث وهم وخرافة .
المشكلة فى الاستبداد وقرينه الفساد أنه يجد من يبرر له من بين ضحاياه أولئك الذين فسد عقلهم وفسد دينهم واستبدلوا بالمجد المتمجد .
لا بديل الا بفتح الأبواب والنوافذ ليخترق الهواء النقى بؤر الفساد فيتحلل الاستبداد .
هذا واجب المثقفين الذين كفوا عن الهتاف وفهموا أن الأوطان لا يمكن أن تحيا بموتنا .. انهم أولئك المهددون بالقتل و التفجير ، الذين يجب أن يتكاتفوا ضد الفساد بفضحه فى كل صوره وأن يتصدوا للاستبداد بكل تجلياته مهما صغرت ، علينا أن نناضل جميعاً من أجل جامعة مستقلة مفتوحة الأبواب حتى تستعيد الجامعة قدرتها على التواصل مع المجتمع ولا تصبح مثلما هى الآن مدرسة مسورة . نريد أزهر مستقلاً يستعيد عافيته التى فقدها فى خدمة الأنظمة.
الأزهر المستقل كفيل أن يعيد للدين عافيته التى فقدها فى أتون السياسة .
ان التصدى للاستبداد والفساد المحليين فى المجتمعات العربية فى الاعلام و التعليم لايجب أن ينسينا أن الحرب ضد الفساد والاستبداد المحلى جزء من حرب ضد الفساد والاستبداد الكوكبى الذى يجد فى قضيتى الارهاب والأمن مبرراً له ، كذلك علينا أن نتحالف مع القوى المناهضة للفساد فى العالم .,
فالارهاب ليس فى التحليل النهائى سوى فرخ من أفراخ الفساد .. من الخطأ أن ننسى أسباب المرض وننشغل فقط بمعالجة الأعراض .
واسمحوا لى فى النهاية أن اشكر الجمعية الفلسفية المصرية التى جعلت مفهوم الحرية محور مؤتمرها السنوى هذا العام وفى مؤتمرها السنوى العام الماضى – والذى كان لى شرف المشاركة فيه كذلك – كان المحور هو المقاومة ، من هنا حاولت أن أربط بين المحورين .. فالمقاومة هى أعلى مستويات الفعل الحر .
دون الحرية لامقاومة ، ودون مقاومة الاستبداد والفساد لاحرية .
من هذا المنبر – منبر المقاومة من أجل الحرية ، ومنبر الحرية التى تستحيل من دونها المقاومة – اسمحوا لى أن احيى الأمجاد – وليس المتمجدين- أعضاء ” جماعة العمل من أجل استقلال الجامعة ( 9 مارس ) النشيطين فى التصدى للفساد داخل الجامعة وخارجها ” إنها الحركة التى تنطلق من الدلالة الرمزية ليوم إستقالة ” أحمد لطفى السيد ” رئيس الجامعة إحتجاجا على قرار نقل ” طه حسين ” من عمله بالجامعة الى وزارة المعارف العمومية عام 1932
لقد تصدت الجماعة ولاتزال لكل قرارات الاستبداد فى الجامعات المصرية وتصدت ولاتزال لكل مظاهر الفساد .
وفى رأيى أن هذا هو السبيل : التصدى بلاخوف والمواجهة دون ممالأة .
إذا لم يحدث ذلك فى الجامعة ويبدأ منها فلا خلاص للمجتمع ، لتعد الجامعة بفضل تلك الجهود وغيرها الى دورها الرائد فى إصلاح المجتمع وتنوير عقله ، بدل أن تكون مجرد متلق لأوامر إدارية عسكرية ، تفترض فى عضو هيئة التدريس أنه جندى فى كتيبة عسكرية .
إن المفكر – وعنوانه أستاذ الجامعة- حارس قيم ، لا كلب “حراسة”.
أعدّها للنشر هشام الطوخي
heshamaltoukhy@yahoo.com