ما ان انتهت تركيا من معركة الانتخابات البرلمانية التي حقّق فيها حزب “العدالة والتنمية” فوزا كبيرا حتى دخلت في معركة أخرى من الصراع بين أقطاب العلمانية وحزب “العدالة والتنمية” ..وبدا ان تركيا لم تنتقل الى مرحلة الاستقرار السياسي. فالمؤشرات تقول إنها في الطريق الى مرحلة أكثر حرجا مما سبق، خصوصا إذا بقي “العدالة والتنمية” على مواقفه، بمعنى إذا أصر على عبدالله غول (وزير الخارجية الحالي) كمرشح وتجنب ان يقدم مرشحا وسطا..
العلمانيون الأتراك بدوا أكثر عصبية من ما قبل، وبدا ان تغيير في وزنهم في البرلمان لم يغير شيئاً من مواقفهم. بل إن هالة “القوي” قد تعزّز مواقفهم المتشنجة من “العدالة والتنمية”. والحق أنه إذا تم اتفاق بين الحركة القومية والحزب الجمهوري فان رصيد العلمانية سيكون أكثر قوة، وسيؤثر على الحراك البرلماني خصوصا ان الحزبين (الحركة القومية والحزب الجمهوري) استقووا بالجيش الذي يكن عداوة لـ”العدالة والتنمية”.. إذا تركيا ما بعد الانتخابات هي أكثر حرجاً من قبلها، ولعل هذا ما ينذر بمستقبل شبه خطر.. هذا على مستوى الصراع بين العلمانيين وحزب العدالة والتنمية. اما الصراع بين الأكراد وتركيا فهو ينذر بخطر أكبر.
قبل الانتخابات، صرح رئيس الوزراء التركي اردوغان بأن بلده سيتخذ قرار إجتياح كردستان العراق بعد الانتخابات. وعشية الانتخابات، صرح مراد قره يلان احد ابرز قيادات العمال الكردستاني (الموجود في كردستان العراق) بأنه على استعداد لمواجهة تركيا في كردستان العراق، وطلب من تركيا عدم قيام بأي مغامرة. اما في الساحة الكردية التركية الداخلية، فقد اتفق كل المرشحين الكرد على صراع الأكراد المسلح مع تركيا الى صراع في برلماني. وحسب معلومات كردية، فقد حصل هؤلاء على 30 مقعدا، وبات يحق لهم ان يؤسسوا كتلة خاصة بهم، كون وحسب النظام الداخلي للبرلمان التركي يستوجب 20 برلمانيا لتأسيس كتلة خاصة. كما وعدوا ان يعملوا لخلق من أجل السلام وطي صفحة الماضي.والسؤال الذي يفرض نفسه الان هو: ماذا عن موقف تركيا؟
في الحقيقة ان قصة الاجتياح التركي لكردستان العراق وملاحقة عناصر حزب العمال ليست هي قصة اليوم. فحساسيات الدولة التركية بدأت تظهر على السطح مع الاحتلال الأمير كي للعراق، خاصة بعد ان سيطرت القوات الاميركية على أغلب المدن العراقية وإعلان الولايات المتحدة أنه يجب على جميع التنظيمات المسلحة المتمركزة في العراق ان تترك سلاحها وتلتجئ الى الأماكن التي تختارها لها القوات الاميركية. إلا ان هذا الإعلان لم تطبقه على عناصر حزب العمال الكردستاني التي تتواجد في كردستان العراق منذ عام 1999، حيث يتركز أكثر من 5 آلاف عضو من هذا الحزب في كردستان العراق بعد ان انسحبوا من تركيا عقب عملية قرصنة سمحت باعتقال زعيم الحزب عبد الله أوجلان في كينيا وجلبه الى تركيا. الأمر الذي خلق حساسيات لتركيا، وزاد من حيرتها وقلقها بعلاقاتها مع الولايات المتحدة الاميركية. وزادت أكثر عندما وجهت واشنطن رسائل عديدة الى أنقرة عبر مسؤولين في وزارة الخارجية والدفاع، وكما ان واشنطن لم توف لأنقرة في طلبها بتسليم عناصر حزب العمال ونزع السلاح منه، إلا ان واشنطن، لم تبال الى طلب تركيا ولم تعط جواباً صريحاً لها، من هنا ربما نستطيع القول بان أنقرة هي أكثر جدية في خوضها معركة أخرى مع العمال الكردستاني.بيد ان الواقع يقول غير ذلك ،فتركيا اليوم بدا تتآكل وهي في خلاف داخلي مقيت ،الانقسام السياسي سيد الموقف لديها،و التجاذبات والاستقطابات التي تظهر في برلمان الجديد ربما تغير الموقف كليا وتغيّر الموازيين القوى فيها .
ثمة من يرى بأن تركيا(الحكومة والجيش) بحاجة الى اجندة مختلفة عن تهديدات لتساعد قيادات وعناصر حزب العمال الكردستاني المتمركزة في كردستان العراق في اتخاذ قرار التخلي عن نشاطهم الحزبي (السياسي والمسلح) والعودة الى تركيا. فتركيا بحاجة الى تسوية بينها وبين زعيم الحزب عبد الله أوجلان،فهو دعا أنقرة الى اتخاذ الخطوات الجادة والمعقولة لحل المسألة الكردية، وان لا تعمل شيئاً يساعد في عودة الاشتباكات من جديد.والحق ثمة تغييرات تحصل مع حزب العمال الكردستاني بعد ان تحدث البعض عن لقاء ثلاثي بين تركيا والعراق وأميركا،وهناك تبدل في موقف حزب العمال الكردستاني باتجاه واشنطن. وربما إعلان مراد قره يلان عن مصدر سلاح حزبه وبان حزبه يشتري السلاح من الأسواق ،فهذا ان دل على شيء فإنما يدل على انه يبرئ الولايات المتحدة ويخرج من إحراجها أمام حليفها القديم تركيا.
في الواقع ان تركيا ايضا لا تستبعد بان الولايات المتحدة الاميركية ستستخدم العمال الكردستاني ورقة للضغط عليها ومعاقبتها نتيجة موقف أنقرة من الحرب الاميركية على العراق. وهي تتوجس من ان الولايات المتحدة الاميركية، بدأت تستهتر بقوتها وقدرتها السياسية والإدارية. ولكن وبالرغم ما يحصل ،فان تركيا تصر على موقفها الغير مساعد على الحل وعلى ايجاد حل واقعي بينها وبين أكراد فهي :
1 ـ لا تغير قراءتها لواقع العمال الكردستاني،مع ان الحزب غير امور كثيرا من سلوكه السياسي والثقافي والتنظيمي .
2 ـ لا تصدر العفو على اللجنة المركزية وعبدالله أوجلان رئيس الحزب العمال.
3 ـ لا قرارا جديا من تركيا يحد من مستوى التدهور في حالة اللاجئين الكرد والمهجرين، حيث يشكل هؤلاء “حزام البؤس” لاستنبول.
4 ـ برغم من وعودات حكومة “العدالة والتنمية” ورئيسها رجب طيب اردوغان في زيارتيها لمناطق جنوب شرق تركيا فانه لا نية لدى الحكومة إعادة بناء4000 قرية دمرها الجيش التركي أثناء محاربته لقوات العمال الكردستاني.
والحال ..وإضافة الى ما سلف من ملاحظات ثمة أجندة تعود لعمال الكردستاني وهو يعتبر “خريطة الطريق” للحل المعضلة الكردية في تركيا. فحل المسألة الكردية لدى العمال الكردستاني على غير ما تراه أنقرة، فالحل بنظر الحزب يكون وفق الأسس التالية:
1 ـ إعداد دستور يتناسب مع المعايير العالمية للديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات وذلك من قبل ممثلين عن الحكومة والأحزاب السياسية وتنظيمات المجتمع المدني.
2 ـ إعطاء الحرية التامة للأنشطة السياسية، وإفساح المجال أمام الأحزاب السياسية، والقيام بإعداد نظام انتخابي جديد يمهد لتمثيل كافة الشرائح الاجتماعية في البرلمان.
3 ـ إزالة التفاوت بين المناطق المختلفة في تركيا، دعم مساندة المرأة في انتزاع حقوقها. ودعم ومساندة المؤسسات الاجتماعية التي أصبحت ضحية لأسباب اثنية أو عقائدية من خلال اصدار قوانين خاصة، وتوفير الضمانات القانونية اللازمة لهذا الأمر.
4 ـ القيام بترتيبات قانونية جذرية لتوفير ضمانة العمل والحياة للشرائح الاجتماعية جميعاً.
5 ـ ازالة العقبات أمام المؤسسات والمنظمات الأهلية، خاصة منظمات المجتمع المدني لتقوم بدورها، وإيصال الشروط القانونية والمادية الى المستوى الكافي لتطورها ونموها.
6 ـ الدستور الجديد يجب أن تكون للقضية الكردية المساحة المستحقة فيه، أي يجب أن يكون قسم اساسي من بنوده، التعريف بالواقع القومي الكردي وحرياته في الدستور.
ان من يمعن النظر في الوضع يلاحظ أن المسافة بين أكراد تركيا والحكومة التركية واسع. وفي ضوء توجهات هذه الحكومة او الجيش لا توجد بوادر توحي بأن الأكراد سوف يقبلون وساطة البرازاني ولا الطالباني ليسلموا أنفسهم للسلطات على شكل لقمة سائغة. من الأجدى لتركيا ان تفكر أيضاً بوجهة نظر الأكراد أو الشروط الكردية للخروج من مآزقها الكردية المزمنة، حيث عمر اضطرابات الأكراد في تركيا بلغ قرناً من الزمن. فسياسة الأنكار أو الاستعداءلم تعد مفيدة ومناسبة في هذا الزمن الذي تسوده سياسة القطب الواحد، الذي يعمل حثيثاً لأجل خلق البيئة المناسبة في منطقة الشرق الأوسط لتحقيق مصالحه الاقتصادية والسياسية. وليست هناك صداقة دائمة أو عداوة دائمة، فلا أحد يستغرب بأن تستخدم الولايات المتحدة حزب العمال الكردستاني للضغط على تركيا أو تقوم بمعاقبتها على السياسة التي اعتمدتها في الحرب الأميركية على العرا. ولا نستغرب ايضاً ان تكون لدى حزب العمال الكردستاني النية في التعامل مع واشنطن وربما خوض حرب فظيعة ضد تركيا تفتح صفحة المآسي الجديدة وتنعكس هذه المآسي شئنا أم أبينا على البيئة الاقليمية ككل.
faruqmistefa@hotmail.com
* كاتب سوري