ضحالة البرامج وتداعيات الثورة الرقمية وعدم وجود شخصيات قوية، تزيد من الغموض في توقع النتائج مع عدم استبعاد اختراق شعبوي في زمن يغلب فيه خطاب القطيعة.
بينما تقاوم “المؤسسة” في واشنطن قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب استنادا إلى نظرية فصل السلطات التي أرساها الفرنسي شارل مونتسكيو، والتي تتيح للقضاء المستقل تحدّي السلطة التنفيذية، تحتدم الحملة الانتخابية في فرنسا حول الاستحقاق الرئاسي في الربيع القادم. بدأ النزال الجدي وسط بروز فضائح وغرائب تذكرنا بتلك التي سادت المشهد الانتخابي الأميركي، لكن ضحالة البرامج وتداعيات الثورة الرقمية وعدم وجود شخصيات قوية أو لامعة، تزيد من الغموض في توقع النتائج مع عدم استبعاد اختراق شعبوي في زمن يغلب فيه خطاب القطيعة، وتبتعد فيه الديمقراطيات الغربية عن منظومة القيم الإنسانية.
منذ تأسيس الجمهورية الفرنسية الخامسة في العام 1958 تمركز الصراع بين معسكري اليمين واليسار في التنافس على دخول قصر الإيليزيه، باستثناء وصول مؤسس الجبهة الوطنية جان ماري لوبان إلى الدور الثاني من انتخابات 2002. وهذه المرة أتى إعلان الرئيس فرنسوا هولاند عن عدم اعتزامه الترشح لولاية ثانية، ونتائج الانتخابات الأولية يمينا ويسارا، كي يخرجا من المنافسة أيضا الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، ورئيسي الوزراء السابقين آلان جوبيه ومانويل فالس، وذلك في خضوع لحكم الرأي العام بوجوب تنحّي المجربين، وإفساح المجال أمام تجديد تحتاجه الطبقة السياسية المتهمة بعدم القدرة على الإصلاح.
بيد أن الدرس الأهم الذي يستخلص من اعتزال ساركوزي وتنازل هولاند هو نهاية مرحلة الملك الجمهوري، وبدء مرحلة الرئيس المسؤول التي ستبعد النظام الدستوري في فرنسا عن النمط شبه الرئاسي وتقربه من النمط البرلماني. يجدر التذكير أن الجنرال شارل ديغول أسس الجمهورية الخامسة عام 1958 على قاعدة ولاية رئاسية لسبع سنوات تُجدّد مرة واحدة. وكان ذلك بالطبع على قياسه وتبعا لمحورية دوره التاريخي وكان ملكا في جمهورية، وراق ذلك لخصمه التاريخي فرنسوا ميتران الذي نسي وصفه أداء الديغوليين بالانقلاب المستمر، وحكم أيضا بشكل ملكي لمدة أربعة عشر عاما. بعد ديغول وميتران انتهى زمن “الرجال العظماء”، وعندما تقرر في 2002 تقصير الولاية الرئاسية إلى خمس سنوات، شكل ذلك بدء إعادة النظر بروحية الجمهورية الخامسة. واليوم مع التطورات الأخيرة نشهد طيّ صفحة تاريخية حافلة وبدء مرحلة تتسم بالضبابية وبعدم اليقين.
قبل شبهة الفساد التي طالته بسبب وظائف وهمية مفترضة لزوجته وعائلته، ولصلة ملتبسة بالمال من خلال تقديمه استشارات لشركات متعددة الجنسية، كان مرشح اليمين التقليدي فرنسوا فيون يحلق في استطلاعات الرأي ويبدو بمثابة المرشح الأوفر حظا للوصول إلى “جنة” الإيليزيه. لكن مرافعته للدفاع عن نفسه وتبرير عمل المقربين منه وتحميله الصحافة مسؤولية تراجعه (كما هي العادة عند السياسيين) لم تقنع غالبية الفرنسيين وحيزا من أنصاره الذي يمكن أن يتحول نحو مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، لأنها تشدد على الأولوية الوطنية ومعركة الهوية ضد أيديولوجيا اليسار والليبرالية الشمولية.
وأمام سيناريو استبعاد فيون منذ الدور الأول للانتخابات الرئاسية في 23 أبريل 2017، يبرز سيناريو المجابهة الأكثر احتمالا في الدور الثاني في 7 مايو بين لوبان والمرشح المستقل والمغمور وزير الاقتصاد السابق إيمانويل ماكرون (39 عاما، الأصغر بين المرشحين، الوسطي الليبرالي، الآتي من مصرف روتشيلد ليصبح مستشارا عند فرنسوا هولاند قبل أن يصبح وزيرا لفترة قصيرة) الذي أربك المشهد عبر خرق الثنائيات التقليدية، يسار ويمين، أقصى اليمين وأقصى اليسار، وتسبب في خلط الأوراق خاصة عند اليسار الحكومي واليسار المتشدد المشتت بين بونوا هامون نجم الحزب الاشتراكي الفائز في الانتخابات التمهيدية والممثل للجناح اليساري في الحزب، والذي أخذ يتجاوز لوك ميلونشون الخطيب المفوّه والطامح إلى تغيير جذري.
يتنافس إذن خمسة مرشحين أساسيين، فيون وماكرون ولوبان وهامون وميلونشون، ويبدو أن سيناريو 2002 يمكن أن يتكرر هذه المرة مع احتمال وصول لوبان إلى الدور الثاني إما بمواجهة ماكرون أو فيون وربما هامون. وفي كل السيناريوهات تبدو حظوظ لوبان قليلة لأن ما يسمى “الجبهة الجمهورية” ستتشكل لمنعها من المرور، كما جرى مع أبيها بالرغم من أن الفارق لن يكون كبيرا كما حصل عند فوز جاك شيراك، بل ربما ستكون المعركة جدية مع تغير موازين القوى.
في حال حصول اختراق شعبوي وانحياز يميني لصالح مارين لوبان، سنكون أمام زلزال سياسي في فرنسا بعد هزة البريكسيت وإعصار ترامب، وسيكون عندها الاتحاد الأوروبي في خطر، خاصة في حال تأثر هولندا وألمانيا لاحقا بنتيجة الانتخابات الفرنسية. وعلى صعيد قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي، سيكون هناك انقلاب جذري في السياسة الخارجية الفرنسية. لكن الوقائع التي ترجح في هذه اللحظة إيمانويل ماكرون تصطدم بعدم اعتماد الوزير السابق على حزب بعينه أو تكتل بعينه، وكذلك فإنه لم يكشف عن كل برنامجه حتى اليوم مما يترك الباب مفتوحا للتساؤلات والمفاجآت. وعلى صعيدي السياسات الداخلية والخارجية، لن تكون هناك انقلابات درامية في حال فوز ماكرون أو فيون أو هامون.
ليس هناك وهم عند الناخب الفرنسي بوجوب وصول “قديس” إلى قصر الإيليزيه وهو يعلم أن “الفضيلة” لم تعد من خصال السياسيين، لكن عدم الشفافية في زمن الثورة الرقمية أصبحت عبئا. والأدهى عدم وجود موضوع جدلي مركزي يستقطب حوله النقاش الوطني، إذ أن كل مرشح يركز على ما يعتبره مهماً (مثل الخروج من أوروبا عند لوبان، أو دخل المساعدة العام عند هامون)، لكن المتابع للحملات الانتخابية الرئاسية في باريس يفتقد شعارات أخاذة مثل “القوة الهادئة” لفرنسوا ميتران من أجل “فرنسا الموحدة”، أو حملة جاك شيراك ضد “الشرخ الاجتماعي”.
بعد فرنسوا هولاند الذي انطبق عليه لقب “الرئيس العادي”، يبدو أن ثوب الرئاسة أصبح فضفاضاً على قامات المرشحين الحاليين، وعلى الأقل في هذه اللحظة يسود التشكيك في توفر كامل الصفات عندهم لشغل الموقع الرئاسي المحوري حسب الدستور. في ما يتعدّى الأشخاص والبرامج والتيارات، يتأكد مع هذه الحملة الانتخابية أن الديمقراطيات الأوروبية والأميركية تمرّ بأزمة عصيبة، لأن الأحزاب المناهضة للأنظمة القائمة تشهد صعودا في عدة بلدان. ومقابل تراجع الديمقراطية الليبرالية في حقبة تصدّع العولمة، يبرز صعود نمط من الحكام من أمثال ترامب وفلاديمير بوتين وأندادهم مما يجعل معركة فرنسا الغامضة مقلقة ومصيرية.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب