مع ظهور ما أطلق عليه “ثورات الربيع العربي” ووصول صداه إلى الشارع الماليزي المسلم، توهم زعيم المعارضة الماليزية المثير للجدل “أنور إبراهيم” ورفاقه الموزعون ما بين تيارات إسلامية متشددة وأخرى معتدلة، وجماعات عرقية صينية وهندية تحت مظلة الميثاق الشعبي (باكاتان راقيات) أن بإمكانهم استنساخ ما جرى في الشرق الأوسط من أجل تحقيق فوز كاسح في الإنتخابات التشريعية التي جرت مؤخرا، وبالتالي الإطاحة لأول مرة بحكومة إئتلاف “باريسان ناسيونال” بقيادة المنظمة الوطنية المتحدة لشعب الملايو المعروفة إختصارا بإسم “أومنو” والتي ظلت تحكم البلاد دون إنقطاع منذ إستقلالها عن بريطانيا في عام 1957.
ومن أجل هذا الهدف العزيز على قلوبهم لجأ إبراهيم ورفاقه إلى مختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة، بادئين بالاحتجاجات والمظاهرات والإصطدام مع قوات الأمن، والدعايات التحريضية ضد الحكومة ورئيسها، ثم الإنتقال إلى إثارة موضوع محاباة الإئتلاف الحاكم لإثنية الملايو فقط دون سواها من الإثنيات، وتمييزها ضد الأخيرة، فإلى التركيز بكثافة على إدعاءات تقول بتورط رئيس الحكومة “نجيب رزاق” (59 عاما) في صفقات مشبوهة بقيمة مليار يورو مع مجموعة “تاليس” الفرنسية حول شراء غواصات “سكوربين”. وحينما لم تنفع هذه المحاولات راحوا يتهمون الحكومة بأنها أضاعت هيبة الدولة الماليزية بعدم تحركها في الوقت المناسب ضد الجماعات المتسللة من الفلبين إلى ولايتي صباح وسرواك الماليزيتين بهدف إستعادة مملكة غابرة كانت لهم هناك، مستغلين في ذلك صيحات من تعرضت مصالحهم للدمار بفعل التسلل المذكور وما صاحبه من أعمال قتالية وعمليات تهجير.
إلى ذلك لجأت المعارضة إلى شحذ أصوات افراد الطبقة الوسطى والتعويل عليها في الإنتخابات عبر القول بأن الزمن تغير، وبالتالي لا بد من التغيير كما هو حادث في الشرق الاوسط، وأن التغيير القادم سوف يصب في مصلحتهم، مشيرة إلى عدم إكتراث الحكومة بالطبقة الوسطى مقابل تركيز جهودها على الطبقات الريفية الفقيرة من تلك التي يسهل إقناعها وشراء أصواتها كما قيل.
وبالتزامن مع هذه الأساليب، التي أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن إبراهيم لا تهمه مصلحة ماليزيا وبقائها كواحة آمنة مستقرة ومزدهرة، بقدر ما يهمه الوصول إلى سدة الحكم بأي ثمن لتنفيذ أجنداته الخاصة، والإنتقام لكرامته التي أهدرت على يد رئيس الوزراء الأسبق “مهاتير محمد”، قامت المعارضة بحملة مكثفة في أوساط السكان الأصليين لولايتي صباح وسرواك الممثلتين معا في البرلمان بـ56 مقعدا، وذلك بهدف توغير صدور سكانهما الأصليين المعروفين بإسم “كادازان دوسون” على الحكومة، عبر الإدعاء بأن الأخيرة شجعت على تغيير التركيبة العرقية والدينية لسكان الولايتين عن طريق أسلمتها بالسماح لمئات الآلاف من الفلبينيين والإندونيسيين المسلمين بإستيطانها، الأمر الذي إنخفضت معه نسبة الـ “كادازان دوسون” في عام 2010 إلى 18 بالمئة من بعد أن كانت 32 بالمئة في عام 1960 ، وإرتفعت نسبة المسلمين في الولايتين إلى 65 بالمئة من بعد أن كانت نسبتهم في عام 1960 لا تتجاوز 38 بالمئة. هذا ناهيك عن قيام المعارضة بإستخدام وسيلة تحريض أخرى ضد الحكومة في أوساط سكان ولايتي صباح (أكثر الولايات الماليزية فقرا) وسرواك (أكثر الولايات التي سلبت أراضيها الزراعية لإقامة المشروعات المشتركة مع الشركات الأجنبية)، وهي تذكيرهم بأنهم لا يستفيدون سوى النذر اليسير مما تختزنه باطن أرضهم من خيرات نفطية، فيما المستفيد الأكبر هو الطبقة الحاكمة وشركاؤها في “البزنس”.
على أن كل هذه المحاولات والطرق والوسائل التي إستخدمتها المعارضة وعولت عليها لم تجد نفعا. صحيح أن الإئتلاف الحاكم بقيادة رئيس الوزراء نجيب رزاق (إبن ثاني زعماء البلاد بعد الإستقلال) ضمن الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة رقم 13 في تاريخ البلاد بفوزه بـ 133 مقعدا في البرلمان المؤلف من 222 مقعدا، من بعد أن كان يسيطر في البرلمان السابق على 135 مقعدا ( أي أنه خسر مقعدين فقط). لكن هذه الخسارة لا توازي الصدمة التي تلقتها المعارضة، التي كانت تــُمنـّي نفسها بحصد 98 مقعدا مقابل 85 مقعدا للحزب الحاكم، أي بزيادة 23 مقعدا عما كان له في البرلمان المنتهية ولايته وهو 75 مقعدا، فلم تستطع زيادة حصتها البرلمانية إلا بسبعة مقاعد فقط. ولم تتوقف خسارة إبراهيم وأعوانه عند هذا الحد، بل تجاوزته إلى خسارتهم لحكم إحدى الولايات الأربع، من أصل الولايات الثلاث عشرة التي يتشكل منها الإتحاد الماليزي، والتي فازوا بحكمها في الانتخابات التشريعية التي جرت في عام 2008.
لقد توهم ابراهيم وأنصاره في “باكاتان راقيات” أن ما حققوه من إنتصارات في إنتخابات عام 2008 قابلة للتضاعف هذه المرة، وقد إجتاحت العالم العربي وأماكن أخرى موجات الإحتجاجات الشارعية المطالبة بالتغيير. لكنه نسي (أو تناسى) أن ما حدث في دول ما يسمى بـ “الربيع العربي” كمصر وتونس وليبيا واليمن غير قابل للتكرار في الحالة الماليزية لأسباب وعوامل كثيرة لعل أبرزها أن النظام الماليزي – رغم كل ما عليه من ملاحظات – لم يكن يوما ما نظاما قمعيا مستبدا مهدرا لكرامة المواطن الماليزي، بل كان على العكس من ذلك. فهو من قاد البلاد من دولة متخلفة بائسة لا تنتج سوى المطاط والفحم، ولا ذكر لها على الخارطة الدولية والإقليمية إلى نمر آسيوي وأكبر إقتصاد في جنوب شرق آسيا. وهو من حقق للماليزيين ما ينعمون به اليوم من رخاء وإزدهار وإستقرار ومستويات معيشية يحسدها عليهم الجيران. ثم أن إبراهيم وأتباعه نسوا (أو تناسوا) أن السواد الأعظم من مواطنيهم ليسوا مثل شعوب “الربيع العربي” التي إستسلمت لعاطفة اللحظة، وكابرت دون تفكير، وانطلت عليها الشعارات البراقة، فألقت بنفسها في أحضان المجهول، لتندم لاحقا وتترحم على عهد كان فيه – على الأقل – يعيش في أمن وطمأنينة وستر، ولا يرى فيه هياكل ومؤسسات الدولة تتداعى على ايدي الميليشيات والرعاع، وأمنه الشخصي ينتهك، ورئيسه يرتكب الأخطاء السياسية القاتلة مستسلما لمرجعيته الدينية، وحرياته وحقوقه الأصيلة تتراجع يوما بعد يوم.
لقد كان الماليزيون أكثر ذكاء فانحازوا إلى خيار الإستقرار والرخاء والإستمرارية، وألقوا بـ “الربيع” وما قد يأتي به من مجهول في سلة النفايات، وليقل إبراهيم بعد ذلك ما يشاء حول تزوير الإرادة الشعبية كحال كل من يفشل في تحقيق الفوز الذي وعد به أنصاره!
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh
الماليزيون صوتوا للإستقرار، ورفضوا خرافة “الربيع”
و النعم من هكذا باحث ضد الربيع العربي باعتباره ….